إصلاح الفرض ألتأليفي الأول

إصلاح الفرض ألتأليفي الأول
الموضوع الأول: هل في اكتشاف زيف الوعي ما يعني أن الإنسان لا يمكنه أن يكون إلاّ غريبا عن ذاته؟
العمل التحضيري:
v     النظر في صيغة السؤال:
هل في... ما يعني أنّ...؟ يثير السؤال إشكالا يتمثل فيما يمكن أن يترتب عن معطى هو: اكتشاف زيف الوعي من نتائج: أن لا يكون الإنسان إلاّ غريبا عن ذاته، أم أن تلك الغربة عن الذات نسبية بحيث تمثل المعرفة بزيف الوعي تحرير للإنسان كي يتمكن من معرفة ذاته بأكثر وضوح. هذا فضلا عمّا يثيره المعطى بدوره من إشكال: فهل الوعي زائف بإطلاق ممّا يجعله مرادفا للوهم على الدوام؟
v     العمل ألمفهومي:  تحليل لما هو معلن في صيغة السؤال/ تحديد سياقي لدلالة الألفاظ الموضوع:
ü      اكتشاف: معرفة الطابع الزائف للوعي باعتباره حقيقة منع الوهم العثور عليها.
ü      زيف الوعي: عجز الوعي بما يقدمه من تصورات وتبريرات عن تفسير العوامل الحقيقية المحددة للواقع الإنساني النفسي أو الاجتماعي وما يرتبط بذلك من دلالات تتيح إمكانية فهمها موضوعيا فيكون بذلك خادعا مضللا.
ü      ما يعني: ما يقدم معنى معقولا يمكن من فهم وضع الإنسان في ظل اكتشاف وعيه الزائف.
ü      الإنسان: محور الإشكال من حيث أن الوعي هو الصفة التي أعتقد طويلا أنها تشكل ماهيته وتمنحه القدرة على معرفة ذاته والتحكم في أفعاله يكتشف على اثر فلاسفة الظنة أن ذلك الوعي زائف بحيث يتم التساؤل عن الوضع الذي يمكن أن يترتب عن هذا الاكتشاف في شأنه: هل سيكون غريبا عن ذاته أم سيمكنه ذلك من معرفة أوضح تقربه من ذاته؟
ü      لا يمكنه أن يكون إلاّ: حصر يتعلق بالوضع الذي سيؤول إليه الإنسان في ظل اكتشاف زيف الوعي: غربة عن الذات/ أم معرفة أفضل بالذات؟
ü      غريبا عن ذاته: الانفصال عن الذات بحيث لا يتحدد الوجود الإنساني نفسيا: أفكار، أحاسيس، أفعال... أو اجتماعيا: مؤسسات، تصورات، قيم... انطلاقا من وعي الفرد أي مقاصده الإرادية بل انطلاقا من قوى مجهولة وخفية تحيل على غرائز الجسد أو مكبوتات اللاوعي أو صراع الطبقات.
v     المسلمات الضمنية:
ü      اعتبار زيف الوعي اكتشافا لا يقبل الجدال فيكون بذلك معطى مثبتا خارج إمكانية الشك.
ü      ضبابية في الإقرار بزيف الوعي إذ لا يتم الإعلان إن كان ذلك الزيف نسبيا أم مطلقا.
التحــريـــر
           قد تهتزّ الثقة في الوعي بفعل عديد الحالات النفسية والأفكار والتصورات والممارسات التي يدرك المرء مدى عجزه عن فهمها والتحكم فيها. فكثيرا ما يسيطر على المرء إحساس بالغيرة أو بالكراهية أو بالنشوة أو بالحب دون تفسير واضح لذلك، وكثيرا ما تغزو الفرد أبيات شعر أو حلول لمشكلات رياضية أو أنغام موسيقية دون أن يكون هو مبدعها، وكثيرا ما يكرر المرء مثلا أو حكايات أو يتزين بوشم أو بلباس دون أن يدرك مدلوله الحقيقي. عندئذ تترك تلك الثقة مكانها للشك في مصداقية الوعي باتجاه إثبات زيفه. ولكن هل في هذا الإثبات ما يشكل اكتشافا لحقيقة الوعي باعتباره زيفا؟ ولو صح مثل هذا الاكتشاف ألا يعني أن الإنسان لم يعد من الممكن بالنسبة إليه إلا أن يكون غريبا عن ذاته؟ أم أن ذلك سيكون إعلانا عن تحرير الإنسان من الثقة في الوعي ليبدأ عندئذ الاقتراب من ذاته والإقامة فيها؟
           لقد مثل الوعي تلك الصفة التي تجعل الإنسان قادرا على الانعكاف المباشر على ذاته ليعرف حالاته وأفعاله ويكون سيدا على أفكاره وقراراته فتم اعتباره إلى حدود القرن التاسع عشر مرادفا لليقين. غير أنه سرعان ما أصبح هدفا للتظنن الفلسفي عندما كشف نقد نيتشة أن جل ما هو إنساني يمكن أن يحدث دون الحاجة إلى حضوره. فالأفكار تتشكل والذكريات تتوارد والأحاسيس تتحدّد والقرارات تتضح انطلاقا من غرائز الجسد التي تعمل بحكمة خفية غير واعية تثبت أن العقل العظيم في الإنسان يكمن في الجسد وهذا التظنن توسع وتعمق عندما كشف فرويد أن الواقع النفسي يتحدد انطلاقا من آخر هو اللاوعي كمجال للمكبوت وللماضي الطفولي والآليات التي تفلت من سيادة الإرادة ومنطق العقل، وكشف ماركس أن الواقع الاجتماعي يتحدد من درجة تطور القوى الاقتصادية ومن التناقضات الطبقية التي يفرزها. عندئذ يلتقي ثلاثتهم حول تكذيب الثقة في الوعي ليكشف الإنسان مدى اغترابه عن ذاته. فالوعي قد ضلله وجعله يعتقد أنه سيد أفكاره ومواقفه والحال أنه نتاج لآخر خفي يجهله. فهو قد أضحى منفصلا عن نفسه لا يفهم ما هو الأقرب إلى ذاته ولا يسيطر عليه ففي الوقت الذي يعلن فيه أنه هو من يفكر وأنه واع بدلالات حالاته وأنه يوجه واقعه الاجتماعي طبقا لمقاصده يكون في الحقيقة الهو يفكر، وتكون دلالة حالاته زائفة على هامش حقيقتها غير الواعية المتوارية وتكون تلك المقاصد نتاجا لواقع اجتماعي مستقل عن إرادته. لذلك التقت أفكار ثلاثتهم للإقرار بغربة الإنسان عن ذاته بسبب أقنعة الوعي الزائفة فكتب نيتشة:" إن فكرة ما تخامرني متى أرادت هي ذلك وليس متى أردت أنا ذلك" وكتب فرويد:"لم يعد الأنا سيدا حتى في بيته." وكتب ماركس:"ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم."
        لا جدال في أن نقد الوعي قد كشف زيفه لكن ما يبقى موضع جدال هو مدى هذا الزيف ونتيجته، فإلى أي حدّ يمكن الإقرار بزيف الوعي؟ وإلى أي حدّ يجعل زيف الوعي الإنسان غريبا عن ذاته؟
        إن اكتشاف زيف الوعي لا ينبغي أن يقود إلى التغافل عن قدرته على تجاوز الزيف وتحقيق المعرفة. إن هذا هو ما نبّه إليه ريكور بتمييزه بين الوعي المباشر والوعي التفكيري. فإذا كان الوعي المباشر ينخدع نفسيا واجتماعيا فينساق نحو وهم التفسيرات المباشرة والإيديولوجيات السائدة، فإن له القدرة على النقد وتجاوز الزيف. وهو ما يتجلى من خلال التحليل النفسي والمادية التاريخية ذاتهما إذ ببلورة منهج يمكن من معرفة الحياة النفسية وحركة التاريخ فإنهما يقدمان أدوات وعي أوضح. عندئذ يتضح أن غربة الإنسان عن ذاته لا يمكن أن تكون مطلقة بل هي على الدوام نسبية، فما يخفيه الوعي الزائف ليجعل الإنسان غريبا عن ذاته يكشفه المنهج (التحليل النفسي والمادية الجدلية) ويزيح الستار عنه فيصير إلى وعي أوضح بذاته يحدّ من تلك الغربة دون إنهائها تماما. فالوعي إذن ليس ثانويا يحوّل الإنسان إلى كائن سلبي تنتجه الظروف المستقلة عن إرادته بل هو في علاقة جدلية باللاوعي داخله وبالتاريخ خارجه تعبيرا عن قدرته على أن يحول ما صنعه الآخر به إلى منطلق لصنع ذاته وواقعه.
          ويبرر كل ما سبق القول إن القول إن اكتشاف زيف الوعي هو في أن اكتشاف لقدرته على تجاوز الزيف نحو المعرفة. ولئن كان ذلك يكشف للإنسان مدى غربته عن ذاته فهو يحرره ليعمل على أن يعود إلى ذاته ويعيها بأكثر وضوح كمهمة يتعين عليه الاضطلاع بها.


  الموضوع الثّاني : هل يعني إقرار تاريخية الإنسان أنّه قد صار محكوما بمسار حتميّ مستقل عن وعي البشر و أفعالهم ؟
  العمل التحضيري:
v     تحديد سياقيّ لدلالة ألفاظ الموضوع:
         تاريخية الإنسان: تقيّد هذه العبارة نفي القول بوجود طبيعة إنسانية تحدّد بشكل ثابت و متماثل                                                                                           الخصائص المميّزة للنّاس دون اعتبار لدور في تشكيل تلك الخصائص على نحو لا يفتأ يتغيّر عبر الزمن. و يعني ذلك أنّكل ما هو إنساني يتشكل حسب تشريطات اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر و من زمن إلى لآخر ممّا يجعل منتصفا بالتّنوّع و الحوّل دون توقّف. محكوما: لا يملك الإنسان بوعيه القدرة على تحديد واقعه الاجتماعي طبقا لمقاصد يختارها بنفسه، بل هو نتاج ظروف وعوامل موضوعية تتحكم في وعيه وممارسته وترسم ما سيكون عليه واقعه بمعزل عن إرادته. مسار حتمي: المسار هو الاتجاه الذي ستسلكه تطورات الواقع وما يفرضه ذلك من تغيرات دون أن يملك الأفراد القدرة على تحديده أو تغييره أو منعه مما يعني أنه ضروري تفرضه القوانين المادية التي تحكم حركة التاريخ فلا يبقى للإنسان سوى معرفته أو الخضوع له. مستقل عن وعي البشر وأفعالهم: إن العوامل التي تحتم اتجاه سير التاريخ منفصلة عما يكونه الناس من تصورات واعية وما يختارونه من مواقف وأفعال فلا تتأثر بها لأنها هي التي تحددها وتؤثر فيها.
التحرير:
 لا يصمد مفهوم الماهية كثيرا في مقاربة الإنسان عند معاينة ما يقترن به وجوده من تنوع وتغير. فعند الانطلاق من إحداثية المكان يتجلى التنوع الهائل القائم بين المجتمعات إن كان ذلك على مستوى اللغات أو العادات أو الأعراف أو المعتقدات والتصورات أو المؤسسات. وعند التحول عند إلى إحداثية الزمان يتجلى التغير الدائم الذي يسم كل ما هو إنساني من خلال التحول العميق الذي يطرأ على القيم وأنظمة الحكم والمعارف والإنتاج والغذاء واللباس واللهو... وفي ذلك تأكيد واضح أن الإنسان ليست له طبيعة بل هو تاريخ يجعل كل ما يميزه نتيجة تشرط اجتماعي يعبر عن خصوصية مجتمع وعصر. ولكن هل في الإقرار بتاريخية الإنسان ما يعني أنه قد صار محكوما بمسار حتمي يتحدد انطلاقا من عوامل موضوعية مستقلة عن وعيه وإرادته؟ أم أن في ذلك تعسفا يعمم نظام الطبيعة على الإنسان يلغي إمكانية التاريخ ذاته، إذ هل يبقى من معنى للتاريخ بما يحمله من تنوع واختلاف من دون تفاعل خلاّق بينه وبين الإنسان ينفتح به عل ممكنات جديدة؟
   لقد اكتشف الإنسان التاريخ لما توقف عن فهم ذاته ميتافيزيقيا كماهية تتعالى على اختلافات المكان وتحولات الزمان. عندئذ تبلورت تاريخية الإنسان باعتباره الكائن الذي لا يتحدد قبليا طبقا لطبيعة ترسم مسبقا ما سيكون عليه وجوده، بل انطلاقا من خصوصية المجتمع الذي ينتمي إليه وسياق العصر الذي ظهر فيه. إن هذا التحول هو ما عبر عنه الوجوديون منذ كياركيغارد في القرن التاسع عشر بقوله:«إن الوجود يسبق الماهية.» غير أن هذه العلاقات بالتاريخ لا ينبغي فهمها كما بين ذلك ماركس مثاليا بالنزول من سماء الوعي إلى أرض الواقع والإقرار بأن التاريخ ليس سوى نتاج لوعي الناس وما يبلورونه من تصورات وأهداف وممارسات. عندئذ تقود أفكار السياسيون والفلاسفة والمصلحين حركة المجتمع التي تغير التاريخ. فالتاريخية تعني أن وجود الإنسان وعيا وممارسة قد صار يتشكل انطلاقا من واقع اجتماعي يتحدد ويتغير حتميا طبقا لعوامل مادية مستقلة عن إرادته تحيل على درجة التطور الاقتصادي وما يفرزه ذلك من تناقض طبقي وصراع مصالح. فإنسان الحداثة لم يتغير وعيه بذاته وذوقه الجمالي ومنزلته السياسية انطلاقا من عبقرية ديكارت و رفائيل وميكال أنجلو وروسو ومنتسكيو بل انطلاقا من تحول اقتصادي وطبقي انتقل بالمجتمعات الغربية من إقطاعي يسيطر عليه النبلاء إلى اقتصاد رأسمالي يسيطر عليه البرجوازيون. وإن كان الأفراد غير الواعين بذلك فمرده الإيديولوجية السائدة التي تخفي تأثير المصالح كمحرك للتاريخ تحت قناع كونية الأفكار وحرية الإنسان. وبهذا تم طرد الإنسان من مركز التاريخ ليتوقف على الاعتقاد الزائف في أنه صانع له و يعترف أن التاريخ مسار حتمي يصنعه. لذا كتب ماركس:«ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.»
    إن هذا الفهم المادي للتاريخ وان كان قد حرر الإنسان من وهم مركزيته التي جعلته يعتقد أنه من يصنع تاريخه بحرية فإنه لا يخلو من مبالغة عندما يجعل من التاريخ مسارا حتميا قابلا للفهم من دون الإنسان. عندئذ ألا يؤدي فهم تاريخية الإنسان على هذا النحو إلى نفي تام للحرية ليكون الإنسان مجرد نتاج سلبي للتاريخ بلا قدرة على التأثير في مساره؟
     إن طرح السؤال لا يعني تخليا عن التاريخ من أجل العودة إلى مفهوم الطبيعة الإنسانية بل نقدا لهذا التصور للتاريخ كمسار حتمي لا مكان فيه للحرية. فالإنسان لا يكون إلا في سياق وضع اجتماعي تاريخي لا يختاره: إنه طبقته وجنسه وقوميته وطائفته وسكنه ودراسته وما يرتبط بذلك من علاقات متشابكة بالغير.غير أنّ هويّة الفرد و ما تتميّز به من خصوصيات ليست نتاجا آليا لتلك العوامل بل هي ما ينبثق عن تفاعله مع ذلك الوضع ليختار ممكنا من بين الممكنات التي يتيحها له فيبلور مشروعا يوجه حياته باتجاه المستقبل. وما ينطبق على الأفراد لا يستثني الشعوب فتاريخها ليس نتاجا آليا لوضعها الاقتصادي والطبقي بل لتفاعلها الواعي مع ذلك الوضع بلورة لمشروع يتميز بالجدة وقابل للتحقق موضوعيا في الواقع هو من ابتكار المفكرين والفلاسفة والمصلحين. فالتاريخ مسار منفتح على ممكنات لا تتبلور وتتحقق إلا بأفكار الناس وإرادتهم تعبيرا عن دور الحرية في توجيهه. فلا حتمية تنفي حرية الإنسان لتجعله نتاجا سلبيا لتاريخ أصمّ ولا حرية تنفي الحتمية لتجعل التاريخ نتاجا لاختيارات الإنسان الاعتباطية. إنها جدلية الذاتي والموضوعي كما عبر عنها سارتر في"نقد العقل الجدلي" لما كتب« يتميز الإنسان قبل كل شيء بمجاوزته لوضع ما وبما يتوصل إلى فعله انطلاقا ممّا فعله الغير به... إن ذلك هو ما نسميه المشروع.»
وكخلاصة لما سبق يمكن القول أن الإنسان هو كائن التاريخ ممّا يعني أن كل ما هو إنساني فيه ليس تعبيرا عن طبيعة قبلية تحدده بل هو ما يتشكل اجتماعيا في سياق مجتمع معين وعصر محدد. غير أن ذلك لا يعني نفيا لحرية الإنسان ليكون مجرد نتاج سلبي لمسار حتمي يخضع له بل إقرارا بقدرة الإنسان الذي يتأثر بواقع اجتماعي لم يختره أن يؤثر في ذلك الواقع انطلاقا من مشروع يختاره. فما يميز الإنسان هي قدرته على أن يحول الحتمية إلى حرية تفتح أفق الممكن.
   

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم