التحليل الفينومينولوجي لظواهر الوعي والأنا والغير
في فلسفة سارتر
أحمد أغبال
 
كيف يتحدد مفهوم الوعي ومفهوم الأنا في فلسفة سارتر؟ وما نوع العلاقة بينهما؟ وكيف تتحدد العلاقة بين الأنا والغير في إطار هذه الفلسفة؟ سوف نتطرق في لحظة أولى إلى هذه القضايا في ضوء نظرية الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر المبسوطة في كتابه الموسوم بـ"تعالي الأنا" (*)ثم نقوم في لحظة ثانية برصد تطور مواقفه من مسألة الغيرية في أعماله المتأخرة التي تناول فيها قضايا الخيال والصور الفنية.
1. مفهوم الأنا المتعالي في فلسفة سارتر  
يعتبر كتاب "تعالي الأنا" محاولة لوصف وتحليل ظواهر الوعي والوقائع الجوانية من وجهة نظر فينومينولوجية. ويهدف إلى بيان ما إذا كان الأنا ظاهرة من ظواهر الوعي ذاته كما هو الحال بالنسبة لكل من ديكارت وكانط وهوسرل، أم أنه موضوع من موضوعات العالم كالأشجار والكراسي وما إلى ذلك. وأما أطروحته الأساسية في هذا المجال فتتمثل في جوابه عن السؤال: "من أنا ؟" أو بعبارة أخرى: ما هي طبيعة أناي؟ وقبل أن يقدم أطروحته التي تمثل جوابه على هذا السؤال استهل كتابه بنقد تصورات بعض الفلاسفة من أمثال هوسرل وكانط وديكارت للأنا. نقرأ في مقدمة الكتاب:
"إن الأنا بالنسبة لمعظم الفلاسفة "كائن يسكن" الوعي. ويدعي بعضهم أن له حضور شكلي في صميم تجربة الحياة كمبدأ فارغ للتوحيد [= يؤدي وظيفة التوحيد أو التركيب]. ويدعي آخرون – وهم في الغالب الأعم من علماء النفس – أنهم اكتشفوا حضوره المادي في كل لحظة من لحظات حياتنا النفسية بوصفه مركز الرغبات والأفعال. ونود أن نبين هنا أن الأنا لا يوجد في الوعي لا شكلا ولا مضمونا، بل في الخارج، في العالم؛ إنه كائن من كائنات العالم، تماما مثل ما هو الحال بالنسبة لأنا الغير"
تلخص هذه الفقرة مآخذ سارتر على الفلاسفة والمفكرين الذين يقولون بأن الأنا المتعالية هي المبدأ الشكلي الضروري لنشاط الوعي، وهي الأطروحة التي تبناها كل من كانط وهوسرل، كما أنه رفض الأطروحة التي تقول بأن الأنا المتعالي توجد على مستوى نشاط الوعي والتفكير، في أحضان الذات المفكرة، وهي الأطروحة التي نجدها عند كل من ديكارت وهوسرل. وبعد أن عبر عن موقفه الرافض لهاتين الأطروحتين قدم بديلا عنها، وهو أطروحته التي تقول: إن الأنا بطبيعته وتكوينه متعالي عن الوعي. وقبل أن نستعرض تفاصيل هده الأطروحة ومبرراتها وما يترتب عنها، دعونا نستعرض أهم مآخذ سارتر على الأطروحات السابقة.
يقول هوسرل: إن الوعي هو دائما وعي بشيء ما، فهو يتجه دائما نحو موضوع ما ويكشف عنه، مثله في ذلك مثل شعاع الضوء، يسقط على الأجسام فتتجلى للناظر إليها. توحي هذه الفكرة، إذا نظرنا إليها من وجهة نظر سارتر، بأن وراء كل وعي "بنية وعي ضرورية" تنير بأشعتها الظواهر الموجودة في الحقل الذي يتجه إليه الانتباه (=القصدية). وهكذا تكتسي بنية الوعي الضرورية أو الأنا المتعالية طابعا خاصا وتصبح شخصية بالكامل. ومن هنا كان تساؤل سارت: هل كان من الضروري أن يلجأ هوسرل إلى هذا المفهوم؟ وهل ينسجم مع تعريفه للوعي؟ وكان جوابه طبعا بالسلب. وإنما اعترض سارتر على تصور هوسرل للأنا المتعالية بدعوى أن إدراج "بنية الوعي الضرورية" في العالم المتعالي سيؤدي إلى فساده من خلال حدوث شرخ في الوعي وانقسامه على نفسه؛ وسيؤدي الأنا المتعالي بذلك في اعتقاده إلى موت الوعي. وإنما أراد سارتر بنقده لهذه الأطروحة أن يفرغ الوعي من أي محتوى ليجعله شفافا ولاشخصيا.
وأما القول بأن الأنا المتعالية هي الشرط الشكلي الضروري لقيام الوحدة وبناء التركيبات، فهو قول مردود في نظر سارتر: إن الأنا المتعالية ليست الشرط الضروري الذي يضمن وحدة الوعي وتفرده، بل، وعلى العكس من ذلك، فإن وحدة الوعي هي التي تقف خلف تشكل الأنا. فالأنا الذي نصادفه على مستوى الوعي إنما يعبر عن الوحدة التركيبية لتمثلاتنا، تلك التركيبة التي تنصهر فيها وتتوحد مختلف أبعاد الوعي ومكوناته على نحو مخصوص، وهذا ما يجعل من الممكن التمييز بين "وعي" وآخر، بين حياة الوعي لدى زيد وحياة الوعي لدى عمر. فلابد أن يكون هناك خيط رابط يوحد بين مكونات الوعي لدى زيد ويمنح لوعيه خصوصية تميزه عن عمر.
حاول سارتر الدفاع عن أطروحته تلك في كتابه "تعالي الأنا" الذي يمثل بداية قطيعته مع هوسرل؛ ولكن الحلول التي اقترحها لمسألة العلاقة بين الوعي والأنا ومسألة الغيرية ظلت محدودة وغير مكتملة حسب تقديرات المحللين، ولعلها كانت مشاريع حلول أو حلول تجريبية، وربما كان سارتر على وعي تام بذلك قبل أن يتداول فيه المحللون؛ لاشك في أنه كان ينظر إليها على أنها حلول مؤقتة لإشكالات عويصة كما يوحي بذلك العنوان الفرعي للكتاب(*)؛ يفهم من هذا العنوان على أن الكتاب ليس أكثر من خطاطة عامة تمثل الخطوط العريضة لمشروع بعيد المدى يهدف، من بين ما يهدف إليه، إلى الكشف عن طبيعة الوعي، والمبدأ الذي تقوم عليه وحدته وتفرده، وعلاقته بالأنا وبالغير.
ففيما يتعلق بوحدة الوعي، يرى سارتر أن في كل لحظة من لحظات الوعي، أي عندما نكون أمام موضوع ما، فإنه من الضروري أن تتوحد عمليات الوعي في مواجهتنا لذلك الموضوع؛ فعندما يعض زيد تفاحة، فإن جميع عناصر الإدراك من خشخشة وطعم ورائحة وما إلى ذلك يكون لها حينئذ حضور في وعي واحد متفرد هو وعي زيد. فما الذي يمنح لوعي زيد وحدته ويجعل المدركات تنصهر فيه في إطار تركيبة متميزة ؟ لو طرحتا هذا السؤال على كانط لأجاب: إنه الأنا المتعالي؛ ويرى سارتر على العكس من ذلك بأن الوعي يستمد وحدته من الموضوع لا من الأنا المتعالي، وهو ما عبر عنه بقوله: "إن وحدة الوعي توجد على مستوى الموضوع". إن الوحدة التي يشير إليها سارتر هنا هي وحدة "المئات من أنواع الوعي النشيطة" التي ينصب اهتمامها على نفس الموضوع. وترتبط هذه الوحدة بالمستوى المتعالي من الموضوع الذي يتجه إليه الانتباه. والمقصود بتعالي الموضوع هنا امتداده إلى ما وراء التجربة الراهنة في اتجاه الماضي والمستقبل، حيث أصبحت مظاهره الآنية تتوحد بمظاهره في الزمن الماضي والمستقبل. إن الموضوع الذي يتجاوز لحظته بمظاهره العابرة للأزمان هو موضوع متعالي أو ذو وحدة متعالية؛ وبناء على ذلك يمكن القول بأن وحدة الوعي ليست شيئا آخر غير الوعي بتلك الوحدة المتعالية، إنها الوعي الخالص، ذلك الوعي الذي تم تطهيره من شوائب الأنا أو بنيته ليصبح مجرد علاقة فارغة بالوحدة المتعالية لموضوعه. ولكن، ما الذي يضمن استمرار وحدة الوعي عبر الزمن ؟
للإجابة على هذا السؤال لجأ سارتر إلى مفهوم الوعي الزمني conscience temporelle الذي استعاره عن هوسرل والذي يدل على أبعاد الوعي الثلاث في علاقته بالزمن، وهي:
القصد intention ويعني في نفس الوقت الاتجاه المفرغ/المحايد نحو موضوع ما (موضوع القصد objetintentionnel) والفعل الذي يضفي المعاني والدلالات على ذلك الموضوع؛
التوجه القصدي نحو المستقبل protentionوهو نوع من التوقع المرتبط باللحظة الراهنة ارتباطا جوهريا ويستبق الأحداث قبل وقوعها. فعندما تسمع نوطة موسيقية، فإنها لا تصبح جزءا من معزوفة في وعيك إلا إذا تلتها نوطات أخرى، وكنت تتوقع سماعها على نحو ما. فالتوقع هو جزء من إدراك النوطة بوصفها جزء لا يتجزأ من المعزوفة.
التذكر rétention، وهو استحضار وقائع الماضي الفوري في الوعي، فكما أن النوطة لا تعتبر جزءا من معزوفة إلا بتوفر شرط القدرة على توقع ما يليها، كذلك لا بمكن إدراكها بوصفها جزءا من المعزوفة إلا إذا توفرت القدرة على استحضار النوطات التي سبقتها على الفور. وفي حال عدم توفر هذا الشرط فسيكون من المستحيل إدراك ما يجري في الزمن.
وهكذا، وبالعودة إلى مفهوم الوعي الزمني أو القصدية ذات الأبعاد الزمنية الثلاث يكون سارتر قد وجد لأطروحته حول وحدة الوعي دعامة قوية. يقوم هذا الدليل على مصادرة أساسية مفادها أن الزمن الداخلي يتألف في الواقع من عدة لحظات مبثوثة فيه بشكل ضمني. والمقصود بذلك أن كل وعي ينطوي في ذاته على الوعي بالماضي الفوري في علاقته بالوعي بما يجري في اللحظة الراهنة وامتداداته نحو المستقبل. وهكذا تتحقق وحدة الوعي دونما حاجة إلى وجود الأنا المتعالي الذي يعتبره هوسرل وكانط الشرط الضروري لقيام تلك الوحدة.


(*) La Transcendence de l'Ego - Esquisse d'une description phénoménologique, Paris, Librairie Philosophique J.
     Vrin, 1992

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم