معهد ابن الجزار
شعب علمية
  القيم بين النسبي والمطلق
   الأخلاق:  الخير والسعادة
      إنجاز الأستاذ:   الشاذلي الكسابي
 المعاني :  الفضيلة -  الحرية -  الواجب -  الرفاه-  المنفعة

مدخل اشكالي:
إنّ ما يبرر الاهتمام الفلسفي بمسألة الأخلاق، هو هذا الرابط الوثيق الذي يشد المسألة الأخلاقية إلى الوجود الإنساني. يتجلى هذا الرابط في مستويين:
* إن القيم الأخلاقية هي التي يتجلى في إطارها إنسانية الإنسان وتميزه النوعي عن الوجود الحيواني، ذلك أن هذه القيم الأخلاقية تحديدا هي التي تسبغ دلالة ومعنى على وجوده. ما يميز الحياة الإنسانية إنها تقطع مع الغريزة والآلية لترتبط بالقصد والغاية المحددة سلفا، بذلك فان ما يكسب الحياة معنى حقيقيا هو ارتباطها بالقيم بحيث يكون لكل فعل وسلوك قيمة يكتسبها من مقصده وغايته.

* إن مقتضيات العيش المشترك و الوجود معا تستلزم التفكير في مسألة القيم الأخلاقية باعتبار أن هذا الوجود المشترك إنما يتأسس انطلاقا من وحدة المعايير الأخلاقية وانسجامها.
لا يأتي السؤال عن الأخلاق أولا ، بل يأتي دائما متأخرا؛ ذلك أن الإنسان العامي لا يسأل مطلقا عن الأخلاق ولا عن قيمه الأخلاقية: إنها بالنسبة له طبيعية. هي طبيعية بمعنى أن القيم الأخلاقية التي توجه سلوكه هي معطى بديهي فما يعيشه وما تعلمه على أساس كونه خير فهو خير بإطلاق وما تعلمه واكتسبه من قيم باعتبارها شر فهي شر بإطلاق. يتعلق مصدر هذا الإحساس بما نشأ عليه الفرد من قسم بفعل التنشئة الاجتماعية القائمة على التلقين والمؤسسة للتماثل مع الآخرين باعتبار أن هذا التماثل هو شرط حياة أخلاقية خيرة.
هذا الموقف العفوي والأولي لا يسأل عن القيم الأخلاقية فهي مسلمات بديهية. غير أن هذه الثقة المطلقة فيما ينشأ عنه الفرد من قيم، واعتاد من أحكام، سرعان ما ينهار حين يصطدم بمفارقات تخص قيمه لا يجد لها تبريرا داخل منظومة القيم الأخلاقية التي نشا عليها. تتزعزع هذه الثقة حين يصطدم بالتناقض بين ما تحمله الأحكام الأخلاقية من قيم وحقيقة الممارسات العملية التي لا تتناسب مطلقا مع ما اعتقده خيرا أو شرا فتكون الحيرة ويكون التردد وفقدان اليقين الأخلاقي. يمكن لفقدان اليقين الأخلاقي أن يتزعزع كذلك حين يصطدم الفرد بوجود منظومة قيم أخلاقية، تخص ثقافة وشعب آخر، مغايرة لما نشا عليه، وما اعتقده من خير بإطلاق.
إذا كانت مثل هذه الوضعيات يمكن أن تدفع العامي لفقدان اليقين الأخلاقي والريبية فإنها بالنسبة للمتفلسف مناسبة للتفكير في المسألة الأخلاقية خارج إطار البداهة الزائفة المبنية على السائد والمألوف.
يحيلنا التفكير في الأخلاق بداية، إلى مسألة" الواجب الأخلاقي تتعلق هذه المسألة بالبحث عن أساس هذا الواجب الذي يكسب فعلنا الأخلاقي مشروعيته ويقينه. فما دلالة الواجب الأخلاقي و ضمن أية مقتضيات ، يمثل توفرها، شرط الحكم بكون فعلنا الأخلاقي ينتمي لمجال الخير؟ إن كل ربط بين الخير والواجب الأخلاقي ينتهي ضرورة إلى تجاوز خصوصية الواقع الإنساني في ارتباطه لا بالواجب كقيمة عليا ولكن بالممارسة الأخلاقية كغاية ووسيلة لتحقيق السعادة. فما دلالة السعادة؟ وضمن أية شروط يمكن تحققها؟
1-    الخير والسعادة
اقترن مفهوم السعادة بالأخلاقية لدى فلاسفة اليونان حتى صارت فلسفة الأخلاق عندهم فلسفة من أجل السعادة وتمثّلت أطروحتهم الأساسية في الربط بين السعادة والفضيلة رغم اعتراضات السفسطائيين التي وجدت في حياة الطغاة والأشرار سعادة ورفاها لم ترتهن بالفضيلة ولا كانت مشروطة بالأخلاقية، بل وأثاروا حالات يشقى فيها الإنسان العادل رغم فضيلته.
انطلقت أخلاق المعرفة مع سقراط، فهو الذي شرط على العقل تحديد معنى الخير أولا من أجل معرفة السلوك الخيّر.وجعل من المعرفة شرطا يستقيم به تصوّر القيم بالنسبة إلى كائن تشدّه طبيعته البشرية إلى الطبيعة الكونية      ( إلى نظام الكسموس). وفضيلة المعرفة هي التي تقود الإنسان نحو الفضائل الخلقية وتساعده على استكمال السعادة. ولكن سبل تحصيل هذه المعرفة قد تكون العقل وقد تكون الحواس.
عارض أفلاطون الإدراك الحسي لأن تأثيره مدمر للمعرفة والحقيقة، مثلما عارض مذهب اللذة بسبب تأثيره المدمر للأخلاق. ويتلخص نقده لتصورات عصره، لاسيّما منها السفسطائية، في النقاط التالية:
1) إذا كانت الفضيلة تعني لذة الفرد، فإن الأشياء لا تكون خيرة في ذاتها وإنما تكون خيرة بالنسبة لي أو بالنسبة إلى غيري ، ما دام بروتاغوراس يعتبر« الإنسان مقياس الأشياء جميعها » . و هذا يعنى أنه لا يوجد خير موضوعي يوحّد الجميع أو يتفقون بشأنه، فتسود النسبية الأخلاقية سيادة مطلقة تختفي معها فكرة معيار موضوعي للخير والخلقية.
2) يترتب عن ربط الخير باللذة انعدام الفرق بين الخير والشر. فإذا كان الخير هو ما يحقق اللذة للفرد، وإذا كانت لذة الفرد تحصل بحرمان الآخر، فإن اللذة الواحدة تكون خيرا بالنسبة إلى أحدهما وشرا بالنسبة إلى الآخر، يكون فيها نفع لأحدهما وضرر للآخر، تكون سعادة لأحدهما وشقاء للآخر...فلا نعثر على تمييز حقيقي بين هذه المعاني.
3) تطلب اللذة  إشباعا لرغباتنا. والرغبات هي مجرّد مشاعر، وبالتّالي فإن تأسيس الأخلاق والخير على الرغبة يعني تأسيسها على مبدأ ذاتي متقلب ومتغير هو الشعور والوجدان. بينما تتطلب الأخلاق الموضوعية أن نتجنب ما هو جزئي بالنسبة إلى الأفراد ونبحث عما هو كلي وكوني إذا أردنا حقا أن ينطبق القانون الأخلاقي على الجميع ويسد الطريق أمام الاستثناءات والحالات الشاذة.
4) يجب أن تكون غاية الفعل في ذاته ولا تقع خارجه، وإلا فقدت الأفعال قيمتها الخلقية، فلا نفضّل الصواب من أجل مصلحة وإنما نفضّله لأجل الصواب فحسب بما هو فضيلة، ولو كان على أنفسنا، أو كنا لا نجني من ورائه منفعة تذكر. يتعيّن على الأخلاق أن تكون غاية في ذاتها لا مجرد وسيلة لخدمة غاية خارجية عنها.    
لقد اعتقد أفلاطون، بتحديد الفضائل الأربع أن استكمال السعادة هو أسمى تحقيق للطبيعة البشرية: فضيلة العقل هي الحكمة، فضيلة النفس النبيلة هي الشجاعة، فضيلة النفس الشهوانية هي الاعتدال، والفضيلة الرابعة هي العدالة بوصفها موحّدة للفضائل السابقة. وعلى إثره جَعلت نظريات الإثيقا قديما كل بحث عن الخير الأسمى بحثا عن خير الإنسان وسعادته بما هو خير أخلاقي.و من خصائص هذا البحث الأُولى أن يقوم منه الخير الأسمى مقام المبدأ الكلي للحياة بعامة وجوهها. وخاصيته الثانية أن يكون بحثا متصلا بالاستعدادات الطبيعية للإنسان." فالميل الطبيعي" إذا ما استعرنا العبارة الرواقية هو الذي يوجب على كل امرئ أن يكون متخلقا.والخاصية الثالثة لهذا البحث هي التماثل بين الميل الطبيعي إلى الخلقية والعقلانية،وهي عقلانية تستوجب من كافة البشر تبصرا بمعنى السعادة وبالوسائل المساعدة على تحصيلها.
 وجدنا في ما تقدّم أطروحتين ناتجتين عن المماثلة بين الحياة السعيدة والحياة الخلقية:
- تفيد الأولى أن الفضيلة هي معرفة بوظائف العقل البشري.
- وتفيد الثانية أن تحقيق هذه الوظائف وإنجازها يقود إلى السعادة.
رأى أرسطو أن السعادة تقوم على نشاط يختص به الإنسان ولابد أن يتطابق مع العقل بمثل ما يتوافق مع الفضيلة.ويصعب أن تستمر سعادة هذا الكائن من دون رقابة العقل.وبالتالي فإن أفضل سبيل يتبعها هي سبيل الحذر والفطنة طالما أن سعادته لا تتأتي بمحض الصدفة وإنما بالسعي والتحصيل. إذ تتطلب من الكائن العاقل جهدا وتدبيرا ومنها حاجة الإنسان لأن يكون فاضلا. وأن يجعل التصور اليوناني من الفضيلة شرط تحقيق السعادة، فليس معناه أنه جعلها وسيلة تخدم غاية أسمى منها، بل إنهما تمثلان وجهين لحقيقة واحدة. وفي هذا الاعتبار خالف أرسطو موقف الأبيقورية (نسبة للفيلسوف اليوناني أبيقور) التي قدمت الفضيلة على أنها وسيلة لتحقيق اللذة وأفردت السعادة بمرتبة الغاية الأسمى التي تُطلب لذاتها. لقد ذكر أرسطو نوعين من الحياة السعيدة: واحدة تقوم على الثراء وتخلو من القيم. والأخرى تقوم على التأمل وليست متاحة إلا لأرفع الكائنات. وكان يعي أن السعادة الحقيقية هي تلك التي تشمل الأنا والآخر، تشمل الفرد والمجموعة « باعتبار أن الإنسان هو من حيث الطبيعة كائن سياسي ». ودقق هذا المعنى في تحليله مفهوم الصداقة بما هي أُثرة أو طلب الخير للآخرين. وكان "أبيقور" على رأي أرسطو في تدبر السعادة بين الأصدقاء. أما وجود خيرات أخلاقية يتعذر بلوغها من خارج الحياة السياسية فهو رأي أجمع عليه كل من أفلاطون وأرسطو، بينما يبقى اعتبار السعادة حصيلة النظام السياسي تصورا أفلاطونيا متفردا لأنه أول من كان يرى السعادة مطلبا فرديا محضا و لكن يرتهن تحقيقه بعمل جماعي محض.
ورغم الاختلاف بين الفلسفات اليونانية القديمة، فإنها التقت جميعها في تأسيس السعادة المشروطة بالفضيلة العقلية على الميول الطبيعية للإنسان: فسواء لدى الأبيقورية التي اعتبرت اللذة الحسية مبدأ أسمى، أو لدى الرواقية التي اعتقدت أن غريزة البقاء والنمو هي المبدأ الأسمى،أو لدى أفلاطون الذي قطع مع اللذة الحسية في حين اعترف بأهمية الاعتدال في تدبر الشهوات، أو لدى أرسطو الذي اعتبر الرفاه ورغد العيش روافد أساسية لتحقيق الأفعال الفاضلة، لدى هؤلاء جميعا نجد هاجسا مشتركا يتمثل في تجنب القطع مع الميول الطبيعية للإنسان كي لا تبدو لنا أخلاق السعادة أخلاق الزهد والتعفف، تليق بالأموات أكثر مما هي أهل للأحياء. وحتى لو تجنّبنا المماثلة بين مطلب السعادة والمسعى الأخلاقي فإننا نجد لدى عديد الفلاسفة القدامى تأكيدا على أنه لا خير سوى اللذة، بل إنه خارج اللذة لا نعثر على تعريف واقعي للخير. وعلى الرغم من نقد أفلاطون وأرسطو لهذا التصور فإنه كان يمثل أرضية تفكير الفلسفة القديمة في الخير.  ومن خالف هذه الحكمة تصرّف على طريقة من أراد حبس الهواء في شبكة.
2-    من أخلاق السّعادة إلى أخلاق الواجب (ﺇيمانوئيل كانط)
بدا كانط في العصر الحديث أشد الفلاسفة حرصا على تقديم الحرية أفقا للمشروع الأخلاقي. وتطلّّب منه تأسيس هذه الأطروحة نقد المواقف السابقة، فرفض مثلا أن تكون المنفعة أساس الأخلاق كما رفض أن تتأسس الأخلاق على الرغبة لما فيها من تقلب وتبدل يشدان الإنسان إلى ماضيه الحيواني ويمنعان تطوره نحو الكمال العقلاني، ،مثلما استبعد أن تكون السعادة مبدأ للأخلاق لما يكتنف هذا المفهوم من غموض مأتاه تعدد تصورات الناس للسعادة : سعادة الثراء، العلم والحكمة، الشهرة والنجومية، الصحة والعافية ... لكل رأيه في السعادة حتى أنها « لا تكون مثلا أعلى للعقل بل للتخيل »، ويضيف على هذا قوله:« إن مشكلة تحديد أي فعل يمكن أن يجلب السعادة لكائن عاقل تحديدا يقينيا وعاما، هي مشكلة لا حلّ لها على الإطلاق ». ففضّل إرجاء التفكير في السعادة إلى ما بعد مفهوم الخير والحرية والكمال، ولا يجوز لديه أن تسبق السعادة كل تفكير عقلاني.
استفاد كانط من فلسفة ديكارت الكوجيطو الذي أقام مملكة الحق والإرادة في عالم الفكر. و استفاد من روسو مفهوم "استقلالية الإرادة" فمضى به من السياسة إلى الأخلاق، وبات لديه تصور واضح للعقل العملي باعتباره عقلا مشرعا للقانون الخلقي؛ فمن أين يستقي العقل سلطته التشريعية؟
يردّ كانط سلطة التشريع إلى ما يجده في العقل البشري من « إرادة خيّرة »، وهذه الإرادة هي التي تنير سبل الفعل وترشده حتى لا ينساق إلى الانحراف بدفع من الميول والرغبات. ومن أجل أن يضمن كانط فاعلية أقوى للإرادة عند قيادتنا نحو الفعل الخيّر، أردفها « بفكرة الواجب » قاطعا كل أمل في تصور أخلاق عفوية وتلقائية؛  فالواجب هو سلطة تأمر وتنهي، إنه سلطة إرغام وإلزام، تحدد للكائن "ماذا يجب عليه أن يفعل"، ومتى نجح في الإجابة عن هذا السؤال ،اكتمل فهمه لإنسانيته ما دام سؤال " ما الإنسان؟ " هو خاتم الأسئلة الكانطية الثلاثة:
- ماذا يمكنني أن أعرف؟
- ماذا يجب عليّ أن أفعل ؟
- ما الذي يجوز لي أن آمل ؟
هكذا تتحقق إنسانية الإنسان حين يعرف ما يريد، ويوجّه إرادته بحرية، حين يتحرر من ضغط الطبيعة ومن القوى الخارجية عنه.فلا يخضع العقل البشري إلا لسلطته الذاتية. ومع ذلك حرص كانط على توضيح صيغ الواجب المحتملة: فميّز بين فعل يتم " طبقا للواجب" على غرار سلوك التاجر الذي يستقبل زبائنه بكل ترحاب وحفاوة، تستحق منا الإعجاب ولا تستحق الاحترام لأنها في النهاية تخدم مصلحة التاجر وتحقق له المنفعة أكثر من نفع حرفاه. ثم فعل يتم " بدافع الواجب" وهو الذي يصدر عن قناعة خلقية حقيقية. وقد لا نفهم عمق هذا التمييز إذا لم نستحضر الفصل الذي أقامه كانط بين نوعين من الأمر الأخلاقي:
+ الأمر الشَّرطي: وهو الأمر الذي لا ينطوي على أخلاقيّته في ذاته، بل نروم من ورائه تحقيق نتيجة ليست من جنسه، كأن نقول مثلا :« إذا أردت النجاح،كن مثابرا ». لا تَحثّ هذه الوصيّة الأخلاقية على المثابرة كقيمة، وإنما تقرنها بالنجاح كنتيجة.وإذاّ ّما تيسّرت سبل النجاح من غير مثابرة (كالغش مثلا) فلن يتردد الفرد في إتباعها ؟
+ الأمر المطلق: هو الأمر الذي ينطوي على قيمته في ذاته، فلا يطلب غاية خارجية عنه ولا يقرن الفعل بنتيجة أو فائدة سوى الخلقية الحرة، كأن نقول مثلا:« كن مثابرا. »
يُظهر التمييز بين هذين الأمرين كم أن الأخلاق مشدودة إلى السلوك المحسوس وإلى الوقائع الملموسة، فيصعب على المرء أن يتبين وجه الخير فيما يأتي من أفعال. وعليه اقترح كانط أن تكون غاية الأخلاق هي طلب الخير الأسمى وبصرف النظر عما يطفح به الواقع من نماذج أخلاقية. وضمانة هذا الخير الأسمى هي المصادرات الأخلاقية الثلاث، وقد صاغها كانط على النحو التالي:
* « افعل بحيث تجعل من سلوكك قاعدة للآخرين »
* « افعل بحيث تجعل من قاعدة سلوكك قانونا كليا عاما للطبيعة بوجه عام »
* « افعل دوما بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص الآخرين كغاية لا كمجرد وسيلة »
بهذه الوصايا حقق كانط في الآن نفسه أرضية التواصل بين الأنا والآخر، ثم عقلانية التصور الأخلاقي. فمبدأ هذه الأخلاق كما تدل على ذلك مصادرات العقل العملي هي الذات. وهذه الذات لا تنال خلقية ما إلا إذا كانت تلتزم بالقانون الخلقي التزاما إراديا حرا. يكون الإنسان خيّرا بقدر ما يكون حرا، ويكون سعيدا بقدر ما ينتفع الآخرون من أخلاقه. والسعادة الكانطية ليست مطلب الأنا وإنما هي سعادة نطلبها للآخرين. ولعله في هذا القرار العقلاني كان رائدا حين جعل من وجود الذات الأخلاقية وجودا من أجل الآخر.
توصف أخلاق كانط بالصرامة والصورية: وجه الصرامة فيها أنها جعلت الأمر الأخلاقي أمرا مطلقا وملزِِما بإطلاق، لا يترك أمامنا ما نختاره بحرية سوى الأخلاق. وهي صورية لأنها لا توصي بمعروف ما، أو تنهى عن منكر ما ، بل اكتفت بصياغة قاعدة عامة، لنا أن نحمّلها ما شئنا من الوقائع الخلقية شريطة أن لا نحيد عن الخير وعن الحرية. هكذا أراد كانط لأخلاقه أن تكون أخلاقا كونية ومطلقة، صالحة لكل زمان ومكان، لأن مطلب الحرية والخير هي المطالب الثابتة لدى كل كائن عاقل أينما وجد وكيفما وجد.
3- الأخلاق والمنفعة
مع ظهور الفلسفة النفعية في العصر الحديث، ارتقى تصور المنفعة إلى صياغة أكثر صرامة. تفترض هذه الفلسفة أن الكائن العاقل كائن حاسب، ويميز بواسطة عقله الحاسب بين مقدار النفع ومقدار الضرر الذي يترتب عن فعله. وكلّ ما كان يتقن الحساب اختار الفعل الأنفع ورأى فيه كل الخير: فالخير هو ما يجلب له النفع. توجد جذور هذه الفكرة لدى هيوم وطورها فيلسوف النفعية "بنتهام"                   ( Jeremy Bentham ) ثم استمرت مع "ج س ميل"، واعتبر هؤلاء أن أفعال البشر أخلاقية لأنها تجلب السعادة، ولا يوجد معيار للأخلاقية والخير خارج مطلب السعادة.
* اعتبر "بنتهام" أن الحديث عن السعادة دون ربط مباشر مع اللذة هو مجرد هراء ميتافيزيقي. تقترن السعادة باللذة وتعني غياب الألم، ويقترن الشقاء بالألم ويعني غياب اللذة.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                   واجتهد المذهب النفعي لجعل مطلب السعادة مطلبا كليا يتحقق من تجميع السعادات الفردية ويشترطها، عبّر عنه "بنتهام" بقوله:« تحقيق أكبر قدر من السعادة للأكبر عدد من الناس ». ويقتضي منا فهم السعادة تدقيق تعريفنا للذة بحيث تتوافق مع العادات الحسنة ولا تكون في تعارض مع الأخلاق السائدة. ولكن قوبل هذا الرأي الذي جعل اللذة مقياس السعادة باعتراض مفاده أن أنواع كثيرة من اللذة تتطلب المكابدة والعناء والألم قبل تحصيلها، فضلا عما تكلفه بعض اللذات من ثمن باهض يدفعه من لا يخشى العواقب. فليس إشباع اللذة هو ما يضمن السعادة، وليست وسائل تحصيل السعادة ضامنة لأخلاقية أفعالنا.
* حاول "ج. س. ميل" تجاوز هذا النقص في مشروع "بنتهام"، وذلك بإعادة تعريف السعادة واللذة؛ فاللذة التي يحتاجها الإنسان ليست حسية خالصة وإنما هي لذة أخلاقية تطابق معنى الخير وتقترن بفعل التفكير. بل ويصل الأمر إلى حد التفريط في اللذة الحسية إذا كانت تنحط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، ويقول في هذا الصدد:« من الأفضل أن يكون المرء إنسانا غير راضٍ من أن يكون خنزيرا راضيا. ومن الأفضل أن يكون "سقراط" غير راضٍ، من أن يكون أحمق راضيا  » . وكان يرى أن الكائن البشري المزوّد بملكات عليا "يحتاج إلى الكثير لكي يصبح سعيدا "ولعل أول ما يحتاج معرفته هو أن معيار المنفعة لا يعنى أعظم قدر من السعادة للفاعل فقط، بل أعظم قدر من السعادة بصفة عامة، وهو ما يضمن النفع للقائم بالفعل وغيره.أما ثاني ما يحتاج معرفته فهو ما اعتبره ميل " المثل الأعلى لأخلاق المنفعة" وقيده بشرطين:
* أولا: يجب على القوانين والتنظيمات الاجتماعية أن تضع سعادة أو مصلحة كل فرد مساوية قدر المستطاع للمصلحة العامة.
* ثانيا: يجب على الثقافة والرأي العام أن تساهم في تربية الفرد على التوفيق بين سعادته الخاصة وسعادة الجميع.
 يقول "ميل" في كتاب «النفعية":« إن السعادة خير، وان سعادة كل فرد هي خير لذلك الفرد، وإذن فسعادة الجميع هي خير لمجموع الأفراد، وبهذا كانت السعادة إحدى غايات السلوك، وبالتالي إحدى معايير الأخلاق » . يفيد هذا القول أن السلوك الصائب هو ذاك الذي يحقق أكبر قدر من السعادة ،والسلوك الخاطئ من وجهة نظر هذه الأخلاق هو الذي تترتب عنه نتائج عكسية.
 تحولت العلاقة بين الخير والسعادة في العصر الحديث إلى مسألة خلافية عمّقت الانقسام بين الفلاسفة. فذهب منهم فريق إلى اعتبار مطلب السعادة إطار كل أخلاقية، وعلى النقيض منه ذهب فريق آخر إلى التمييز إن لم نقل الفصل بين الحاجة إلى الفضيلة والسعي وراء السعادة، فلا يقبل بالمماثلة بين الأخلاق والسعادة مخافة أن يفرّط الإنسان في فضيلته إيثارا لسعادة آثمة وعابرة، ويكون استكمال الملذات لديه هتكا للسعادة. بل ومنهم من اعتقد أن لذة الحياة في المكابدة والعناء،فلا ينعم بالسعادة إلا من خَبِر الشقاء وتجرّع الألم، ولعل هذا المعنى هو ما ذهب إليه  روسو في قوله:« الويل لمن لم يعد له ما يرغب، إنه يكاد يفقد كل ما يملك. واستمتاعنا بما نحصل عليه هو أقل مما نأمل الحصول عليه. فلسنا نسعد إلا قبل أن نكون سعداء »
4- نقد القيم  
ليست جنيالوجيا الأخلاق عند نيتشه حفرا في ماضي الأخلاق والقيم، وإنما هي انطلاق من حاضر الأخلاق بحثا عن ترسبات الماضي التي شكلت أفعالنا وحكمت حياتنا الراهنة. يقدّم هذا الفيلسوف نفسه على أنه "طبيب الحضارة" المقبل على تشخيص أعراضها وأمراضها بكل العنف الذي يتطلبه الموقف العدمي. ولم يكن تشخيص نيتشه للأخلاق مُطََمئنا، فهو يعتبرها أخلاق الانحطاط والانحدار، بل ويرى فيها " أخطر الأخطار" فأخلاقنا إلى حد الآن هي « أخلاق الشفقة » و لا يشتغل قانون الشفقة لصالح الأنا، وإنما هو موجه لنفع الآخر. وفي هذا يجد نيتشه نفاق الأخلاق، لأن من ابتكرها في الحقيقة وأقامها على منطق الشفقة لم يكن في سِِِعة ولا في رفاه، وإنما كان ضعيفا في معركة لا يأمل فيها انتصارا، فغالب الجبن والضعف بالحيلة والقناع والدّجل. ليست قراءة نيتشه للأخلاق بحثا في أسس الواجب، حسبها أن تنظر في النتيجة وتقدر آثار هذا الواجب . و من حيث النتيجة لا تبدو أخلاق المنفعة والمصلحة منسجمة مع منطق الحياة ومتوافقة مع قانون الطبيعة التي جعلت بين الكائنات صراعا يكون فيه البقاء للأقوى. لم يسبق لفلسفة في الأخلاق أن تساءلت ما قيمة هذه القيم. وقبلت كل الفلسفات طوعا بالتمييز ما بين الخير والشر ولم يخطر ببالها أن تسأل عن قيمة الخير في ذاته وعمّا يجعل منه خيرا فيما عدا إشارات عابرة لدى هذا الفيلسوف أو ذاك. وتفرض علينا مساءلة القيم مع نيتشه بحثا عن أصل القيم، أو عن معيار يتم في ضوئه الحكم والتقدير. لقد كانت المعايير السابقة في مجال الأخلاق تتردد بين الإقبال على الحياة والزهد فيها. وبتدخّل الأخلاق المسيحية قبل الإنسان بضعفه وقبل بأخلاق العبيد أملا في خلاص موعود: قيم التسامح والمغفرة والرأفة والثواب جميعها تخفي الإضغان في داخل الإنسان، وهو إضغان عبد لا يجسر على مقاومة أسياده ولا ينهض للتحرر من هيمنتهم. إن أخلاق العبيد هذه تقتل فينا الإرادة، وتلجم لدينا الفعل والحركة. ولو أننا اختبرنا أحكامنا وقيمنا لما وجدنا خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا. فكل قيمة هي في تقدير نيتشه قيمة نسبية ما كان لها أن تُرفع إلى مرتبة المثل الأعلى. ثم إننا لو نظرنا بعمق لوجدناها قيمة مخيبة للظنّ لكونها تسير بحياتنا نحو الانحدار والوهن والضعف. تكرس كراهية الحياة باسم نقاء أخلاقي مزعوم. لذا يدعونا إلى التخلي عن إطلاقية القيم لترجيح النسبية. وإلى التخلي عن أخلاق العبيد للقبول بأخلاق القوة بما هي أخلاق "الإنسان الأرقى" إنسان يتمتع « بإرادة قوة » تأخذه إلى الرفعة  والسّمو والتألّق.
لقد كان نيتشة على حق حين وصف حياة البشر بالمعركة الشرسة ، وكان على خطأ في محاولة تقديمها كقدر لا حيلة ولا قوة "للإرادة " إزاءه. يمكننا أن نجد من الأسباب ما يحملنا على القبول بالعنف إجراء ظرفيا لإنهاء هذه المعركة، ولكن لا نجعل منه ملاذا يحتمي به أعداء الإنسانية. 

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم