ملخص لمسألة الدولة : السيادة والمواطنة

الأستاذ: سامي الملّولي
1 ـ دلالة الدولة:
حدّد جون لوك دلالة الدولة :« يبدو لي أنّ الدولة جماعة من الناس تكوّنت لغرض وحيد هو المحافظة على خيراتهم المدنية و تنميتها و أنا أقصد بـ " الخيرات المدنية " الحياة و الحرية و سلامة البدن وحمايته  ضدّ الألم وامتلاك الأموال الخارجية مثل الأرض والنقود والمنقولات ، الخ »
۞← الدولة هي كيان سياسي وقانوني مُنَظِّم ومُنظِّم يتمثّل في مجموعة من الأفراد يُقيمون على أرض محدّدة ويخضعون لتنظيم سياسي وقانوني واجتماعي تفرضه سلطة عليا تتمتّع بحقّ استخدام القوّة.
2 ـ دلالة السّيادة:
تُحيل السّيادة على الرفعة والسّمو، كما تحيل على دلالة قانونية وهي القاعدة العليا للنظام وتتمثّل في السلطة التي لا تخضع لأيّ سلطة أخرى داخلية كانت أم خارجية. لتكون السّيادة هي السّلطة العليا وتهدف تحقيق التماسك والوحدة للبلاد أو المجتمع
۞← تحيل السّيادة على الاستقلاليّة في أخذ القرار.
3 ـ دلالة المواطنة:
هي منظومة  من الحقوق والواجبات وبالتالي فإنّ المواطنة هي تكريس لسلطة القانون. ممّا يجعلنا أمام تثبيت العلاقة بين المواطنة والسّيادة أو بعبارة أخرى بين المواطنة والدولة ككيان سياسي وقانوني منظّم.
I  ـ إشكالية العلاقة بين السّيادة والمواطنة:
عدّت المسألة السياسية مسألة مفرطة في الحساسية والإرباك لما تتضمّنه من إحراجيّة للممارسة السياسية. من ذلك طرح العلاقة بين السّيادة والمواطنة وهي مسألة على غاية من الإلغاز والزئبقيّة نظرا لتعدّد أوجهها
1 ـ في علاقة التعارض بين السّيادة والمواطنة:
إنّ طرح مسألة العلاقة بين السّيادة والمواطنة من زاوية التعارض تحيلنا على الأطروحات القائلة بالسّيادة المطلقة للدولة وبالتالي على الأنظمة الاستبدادية، أي أنّنا أمام مقاربة تنظر للسّيادة استبدادا وللمواطنة مجرّد رعيّة خاضعة، من ذلك ما كان الكواكبي قد أكّد عليه « العوامّ هم قوت المستبدّ و قوّته بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول » لتكون دلالة السّيادة هي السّلطة المطلقة للحاكم وبالتالي يكون الحكم متقوّما على إرادة فردية تحرّكها الأهواء تماما فإنّ باكونين ينقد التصوّرات الميتافيزيقية والتعاقديّة التي يراها مجرّد أطروحات تمجّد الدولة وتختزل فيها العدالة وتجسّم الأخلاق « ما الدولة ؟ يجيبنا الميتافيزيقيون والمختصون في الحقوق أنـّها الشأن العام، المصالح والخير المشترك وحقّ جميع الناس المشترك ...لنحلّل في البداية فكرة الدولة ذاتها كما يقدّمها لنا هؤلاء المدّاحين إنـّها التضحيّة بالحرية الطبيعية وبمصالح كلّ واحد ...». أن تكون الدولة هي الشأن العام فإنّ ذلك يستوجب التضحيّة بالحقوق ولعلّ ذلك ما دفع باكونين إلى مماثلة الممارسة السياسية باللاهوت الديني لنكون أمام لاهوت سياسي يفرض نفس القدسيّة والخضوع على الناس بل إنّ هذا اللاهوت يفرض التنازل عن الحقوق والحريّات لتكون الدولة "مقبرة الحريّات" أو هي كما شدّد على ذلك باكونين "مذبح الدين السياسي" فالتعارض بين السّيادة والمواطنة يكمن في تحوّل السّيادة إلى استبداد واحتكار للعنف يقول ماكس فيبر« لا يمكن تعريف الدولة إلاّ بالاستناد إلى الأداة التي هي من أخصّ خصائصها ونقصد بها العنف المادي ». تعتمد الدولة على العنف لكي تضمن احترام سيادتها، لذلك أكّد ماكس فيبر على ارتباط الدولة بشكل جوهري و ماهوي بممارستها للعنف ذلك أنّ العنف بالنسبة للدولة هو ما يحدّد مجال تمظهرها وحقل أو حقول ممارساتها « فهو وسيلتها النوعية » وهو ذات الموقف الذي كان تروسكي قد انتهى إليه حين قال « إنّ كلّ دولة إنّما تقوم على القوّة » فعلاقة التعارض هي تأكيد على انفراد بالسّلطة وجعلها السّند الوحيد في الحكم، رغم أنّ فيبر يميّز بين نوعين من العنف، عنف شرعي وعنف غير شرعي ليكون العنف الشرعي هو العنف القانوني الذي تمارسه الدولة عبر مؤسّساتها. تماما فإنّ بول ريكور قد بيّن علاقة الترابط بين السّلطة والسّياسي « السّلطة هي البنية الأساسيّة للسياسي، إنّها تـُقحم كلّ أنواع علاقات الحاكم بالمحكوم ». علاوة على ذلك، فإنّ العودة إلى التصوّر التعاقدي مع هوبس تبيّن أنّ الدولة تتأسّس على حاجة الإنسان للأمن وهو رهان لا يتحقّق إلاّ من خلال التنازل الكلّي عن الحقوق والحرّيات الطبيعيّة لصالح شخص أو مجلس أو هيئة وبعبارة تختزل الفكرة التنازل عن حرّيات وحقوق لصاحب السّيادة الذي يكون خارج العقد حتّى لا يكون خاضعا لأيّ تراتيب عقديّة، وبالتالي  إعلان حالة الولاء والطاعة لصالحه تلقائيا. وهو ما يجعل من نظام الحكم نظاما استبداديا بل إنّ هوبس يعتبر هذا النظام هو الحلّ الأمثل للحدّ من طبيعة الإنسان الشرّيرة  والتي أفرزت حالة حرب شاملة بين الناس وعنف مدّمر لذلك يكون صاحب السّيادة خارج العقد حتّى يمارس الهيمنة و يُجبر الرعيّة على الطاعة المطلقة. حضور السّيادة وغياب المواطنة  رغم أنّ هوبس يذكرها في كتابه " التنّين " لكن المواطنة الهوبسية هي في حقيقة الأمر مجرّد رعيّة، حزمة من الواجبات دون حقوق أو حرّيات بما أنّهم تنازلوا عنها.
 2 ـ في علاقة التوافق بين السّيادة والمواطنة. 
إذا كان العنف هو ماهية الدولة وهو ما يقيم تعارضا وتقابلا بين السّيادة  والمواطنة وبالتالي بين الدولة والحقّ فإنّ عديد الأطروحات والتصوّرات التي عملت على إيجاد علاقة توافقية بين سيادة الدولة وحقوق المواطنة، و بالتالي التشريع لسلطة الدولة دون إتلاف للمواطنة أو التنازل عن مقوّماتها المتمثّلة في جملة من الحقوق، من ذلك نجد التصوّرات التعاقدية مع سبينوزا و جون لوك وجون جاك روسو... فإذا كانت سيادة الدولة قد تحدّدت بممارسة السّلطة فإنّ لوك مثلا يحتكر هذه السّلطة في الحفاظ على "الخيرات المدنية" وتنميتها، تماما فإنّ سبينوزا يؤكّد على علاقة توافقية تؤسّس للديمقراطية بما هي "كلمة السرّ" التي تجسّد هذه العلاقة، علاوة على ذلك، فإنّه يُشدّد على تحديد غاية الدولة في تحقيق الحرّية والكرامة الإنسانية أي تحقيق  المواطنة فيعمّق دلالتها ولعلّ المقارنة التي يقيمها بين طاعة العبد لسيّده وطاعة الابن لأبويه وطاعة المواطن ما يعمّق هذه القيمة للمواطنة  « هناك فـرق كبيـر بين العبد والابن والمواطن، نصوغه كما يلي: العبـد هـو من يضطـرّ إلى الخضوع للأوامرالتي تحقـّـق مصلحة سيّده،  والابــن هـو من يُنفـّذ بناءً على أوامر والديْه، أفعالا تحقــّق مصلحته الخاصّة،  وأمّا المواطن فهو يُنفـّـذ بناءً على أوامر الحاكم، أفعالا تحقـّـق المصلحة العامّة  وبالتالي مصلحته الشخصيّة». وهو ذات الموقف الذي كان روسو قد عمل على تجسيده من خلال رفع الالتباس  في علاقة الطاعة بالحرّية وتبديد كلّ أشكال المفارقات بينهما من خلال تصوّر مخصوص للعقد الاجتماعي يؤسّس لدولة ديمقراطية لا تناقض فيها بين السّيادة والمواطنة، ذلك أنّ الإرادة العامّة بما هي مجموع الإرادات الفرديّة هي الكفيلة لجعل الطاعة قمّة الحرّية والتنازل عن الحقوق والحرّيات الطبيعيّة مطلبا لتأسيس حقوق وحرّيات بديلة وحقيقيّة هي الحرّيات  والحقوق المدنيّة التي يكفلها العقد الاجتماعي. فإذا كانت القوانين هي التي تعبّر بها الإرادة العامّة عن سيادتها فإنّ طاعة الفرد لها هي طاعة لذاته بما أنّ إرادته الفرديّة هي أحد الإرادات الفرديّة التي توحّدت فكوّنت الإرادة العامّة حيث كان التنازل عند روسو عمليّة تجميع وتوحيد للإرادات الفرديّة في إرادة واحدة تكون ضامنة لعلاقة توافقية بين السّيادة والمواطنة وقادرة على عدم الانخراط في نظم استبدادية اعتمادا على طبيعة الإنسان الخيّرة التي يؤسّس من خلالها روسو فرضيته عن الحالة الطبيعيّة بما هي حالة هادئة ولتكون مرحلة ذهبيّة يعمل العقد الاجتماعي على محاكاتها.
II – مقتضيات السّيادة الوطنيّة ومطلب المواطنة العالمية.
1 ـ مشكل السّيادة الوطنيّة وحقوق الإنسان:
لعلّ الأطروحات التي تؤكّد على علاقة التوافق كانت موضع نقد سواء كان ذلك النقد يؤسّس للبديل أو غير مؤسّس، فالتصوّرات الفوضويّة ولا سيما مع باكونين قد اعتبرت الدولة "مذبح الدين السياسي الذي تقدّم فيه القرابين" وبالتالي فنحن أمام أطروحة تقول بالانعدام التامّ للتّوافق بل إنّ مسألة التوافق غير مطروحة بقدر ما تعمل هذه الأطروحة على بيان ضرورة زوال الدولة بما هي دولة السّلطة والتّضحيات بالحرّيات والحقوق. تماما فإنّ ماركس قد مارس النقد على دستور 1793الذي يشرّع للحرّية والملكية والمساواة، وهي حقوق مدنية تكرّس للإنسان الأناني ولمواطن مجتمع بورجوازي لا يأخذ بعين الاعتبار الجماعة. تماما فإنّ حنّا أرندت قد جعلت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لـ 10 ديسمبر 1948 موضع نقد والذي ترى فيه ملامح إنسان لا وجود له بل إنّ الإعلان يكرّس حقوق الشعوب المستعمرة أكثر من كونه يترجم حقوق الإنسان. إنّ التظنّن في واقع حقوق الإنسان الذي تؤسّس لها المواثيق الدولية  والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان والتصوّرات التعاقديّة للدولة والأطروحات المؤسّسة للأنظمة الديمقراطيّة ولأرضيّة تتواجد عليها المواطنة بما هي شريكة في الحكم وأخذ القرارات كما بيّن ذلك كاستلاس، يجعلنا نواجه واقعا تراجيديّا لحقوق الإنسان ممّا يشرّع للمقاومة.
تؤسّس الديمقراطية لمجتمع مدني يسود فضاءه القانون على أساس جدلية الحقّ والواجب بحيث تتحدّد المواطنة من خلال هذه الجدلية. غير أنّ كلّ عملية اختراق لهذه الحقوق تؤدّي إلى اهتزاز صورة المواطنة، وتحوّل السّيادة إلى سيادة استبدادية، ممّا يستوجب المقاومة للحدّ من غطرسة السّلطة السياسية. إنّ انتهاك حقوق الشعب يُعدّ نيلا من سيادته وبالتالي من سيادة الدولة المتأسّسة على التصوّر الديمقراطي. يقول ديدرو " إنّ حقّ المعارضة يبقى حقّا مقدّسا مهما كان غير معقول لأنّ الرعيّة بدونه تصبح أشبه بقطيع الحيوانات الذي لا يلتفت لذاته" فجوهر الديمقراطية حسب ألان يكمن في ممارسة الشعب لسيادته من خلال مراقبة أعمال الدولة انطلاقا من قاعدة المصلحة العامة.
2 ـ مشكل المواطنة العالمية واستقلالية القرار الوطني:
 تحيلنا فكرة المواطن العالمي على التحرّر من الحدود الجغرافية الضيّقة  ورفض التعصّب والانغلاق على هويّة أو قومية محدّدة. و بالتالي فنحن أمام مطلب يحقّق انفتاح الإنسان على الإنسانيّة جمعاء، و يتجاوز أفق الدولة الوطنيّة وحدودها بل تتجاوز المواطنة القطرية المحدودة. علما وأنّ المواطنة العالمية تحيلنا على كونيّة حقوق الإنسان. و لعلّ ما كان تاسان قد بيّنه في تحديده للمواطنة العالمية في اعتبارها انتماء إلى العالم المشترك لتكون المصلحة العامة هي ما يراهن عليه هذا المواطن. تماما فإنّ كاستلاس يعتبر الهجرة والتهجير عوامل لخلق نمط جديد من المواطنة هي المواطنة العالمية. التي تتجاوز كلّ المحدّدات الذاتية  أو الخصوصيّات. تماما فإنّ المواطنة العالمية لا تتحقّق إلاّ بالارتباط  والانتماء إلى الدولة دون التنكّر لحقّ الاختلاف الثقافي وهو ما أكّد عليه كاستلاس لحظة إقراره بأنّ المواطنة العالمية هي اعتراف بالتنوّع الثقافي والعرقي. إنّ المواطنة العالميّة اليوم ليست نتاج تصوّرات حقوقيّة بقدر ما هي صنيعة وسائل الإعلام والتقنيات الحديثة لتتحوّل إلى أحد البضائع التي تروّج لها العولمة  والتي تكون قابلة للاستهلاك السريع تماما كما أنّ المواطنة العالمية ارتبطت بالأسواق الحرّة واستهلاك البضائع العالمية ليكون السّوق هو مجال تمظهر المواطن اليوم. إنّ فعل المقاومة ليس حكرا على مواطنة تجاه الدولة لضمان الحقوق بل هي أصبحت خاصية الدولة للدّفاع عن سيادتها الوطنيّة واستقلالية قراراتها من هيمنة عولمة الاقتصاد وعولمة القيم وعولمة المواطنة... فقد تتحوّل العولمة بكلّ تمظهراتها تهديدا لسيادة الدولة وقد تتعدّى ذلك لتهدّد المواطنة إذا ما سلّمنا أنّ سيادة الدولة تعني سيادة مواطنيها وأنّ عولمة المواطنة مساس من استقلالية الدولة وسيادتها في قراراتها. لا سيما إذا ما استحضرنا أنّ العولمة قد قوّضت البعد السياسي والمدني للمواطنة وكرّست الأولوية للبعد الاقتصادي وتكريس ثقافة السوق ولديمقراطية وقيم ليبيرالية لنكون أمام مجتمع الخدمات أو هي إحدى خدمات مجتمع الخدمات الذي يتقوّم على العزلة والانعزال حيث تتعامل العولمة مع الأفراد داخل المجتمع ولا تتعامل مع المجتمع في كليّته. والمواطنة الجديدة مبنيّة على الاستهلاك والامتلاك.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم