نظرية العدالة عند راولس
صلاح نيوف
يعتبر الفيلسوف الأمريكي "جون راولز"،1921ـ 2002
، من أهم واضعي هذه النظرية في القرن العشرين.ويشار بداية إلى أن "راولز" عندما ترجم إلى الفرنسية لأول مرة أحدث نقاشا كبيرا لم ينته حتى اليوم، كما حصل تماما في العالم الأنكلوـ سكسوني وتأثيره الكبير على فلسفته بعد كتاب "نظرية العدالة".

قراءة "راولز" تجعلنا نطرح السؤالين التاليين: ما هو الهدف الذي يريده من نظريته،وهل مازال الهدف موجودا بعد عام 1980؟ هل النقد الذاتي الذي قدمه لنفسه يغير بشكل عميق "نظرية العدالة"؟ طبعا من الصعب الإحاطة بالنقاشات الكبيرة التي أحدثتها النظرية،ففي الولايات المتحدة مثلا،شكلت النظرية ما يمكن أن نسميه الفلسفة الأكثر رواجا أو "بيعا"،كما اعتبرت فلسفته ولاسيما نظرية العدالة هي الأكثر قراءة في القرن العشرين. بالإضافة لذلك لا يمكن إحصاء الكتب والمقالات التي كتبت عن هذه النظرية."إن "نظرية العدالة" عند راولز بالنسبة للعالم الأنكلو ـ سكسوني هي الإطار الذي نجد بداخله التفكير الأخلاقي والسياسي والذي سينمو ويتطور فيما بعد كما يقول "روبرت نوزيك" صديق راولز في جامعة هارفارد عام 1969،ويضيف أيضا:" الفلسفة السياسية من الآن فصاعدا يجب أن تعمل ضمن إطار نظرية راولز وإلا علينا أن نشرح لماذا لا تعمل ضمن هذا الإطار"،علما أن "نوزيك" يمثل النزعة الليبرالية الأكثر "تطرفا" في الفلسفة السياسية،مع ذلك هو أقل تطرفا من النزعة الفوضوية الداعية إلى زوال الدولة نهائيا لصالح الأفراد والجماعات. بينما راولز يمثل أو يصنف كليبرالي يساري أو "اجتماعي ـ ديمقراطي".
حتى عام 1971 كانت الفلسفة الأنكلو ـ سكسونية خاضعة للفكر التحليلي، مكرَّسة بشكل جوهري للمنطق الفلسفي،الإبستومولوجيا و إلى فلسفة اللغة و التعبير.أما الفلسفة السياسية كانت غير مؤثرة بشكل عميق بالفلسفة الأنكلو ـ سكسونية. حيث بقي "المذهب النفعي" الأكثر تأثيرا من الناحية الأخلاقية والسياسية،علما أنه كان قد بدأ يفقد قوته وهيمنته. بالنسبة للفلسفة السياسية التحليلية، انغلقت في تصنيف معاني المفاهيم الأخلاقية ووضع أحكامها وتقييماتها. عمليا،الفلسفة التحليلية،تاريخيا، هي فلسفة ما بعد الفيلسوف الألماني " Frege"،حيث أُسست ضمن تحليل منطقي للغة،وبشكل أشمل أعطت للغة وضعية سامية. في جيلها الأول، فضّلت هذه الفلسفة المحور النحوي في اللغة،أما في جيلها الثاني والثالث فقد فضلت المحور الدلالي و البراغماتي. والفلسفة التحليلية تنكر إمكانية علم للأخلاق أو خطابا عقلانيا حول القيم.

مع نظرية العدالة عند "راولز" عرفت الفلسفة الأخلاقية والسياسية ضمن سياق "الفلسفة التحليلية" تجديدا وتحديثا.اقترح "راولز" عقلانية أخلاقية ضمن استمرارية مع " Kant"، وقد صرح بذلك بشكل واضح:" نظرية العدالة هي جزء،ربما الأكثر أهمية، من نظرية الاختيار العقلاني". أيضا تحدث راولز عن "علم هندسة للأخلاق" كشكل مثالي بالنسبة لنظرية العدالة.بمعنى،أنه من الممكن معالجة العدالة ذاتها بشكل عقلاني،وأنه ضروري بل شرعي أن يعاد وبشكل عقلاني بناء مؤسساتنا،مفاهيمنا وأخلاقنا. وحتى مجيء راولز لم تكن الأسئلة الأخلاقية معتبرة كأسئلة لها أولوية، فمعه تم أعيد طرح هذه الأسئلة وبقوة لتدخل أو تطرح بمنطق عقلاني. إن كتاب "نظرية العدالة" كتاب ضخم،غني بالأفكار،وعندما ندخل بالتفاصيل ربما نضيع عن العنوان الرئيسي للكتاب. وهذا ما يقوله المؤلف:"الكتاب طويل جدا،وليس فقط في عدد الصفحات".
المتابع لتطور نظرية العدالة عند "راولز" يعرف أنها لم تكتب دفعة واحدة،بل هناك تطور لكتابتها أتى على شكل مراحل متدرجة، ففي عام 1957، كتب "راولز" عن العدل و الإنصاف وشكلت هذه الكتابة الجزء الأول من "نظرية العدالة". وعندما أكمل "راولز" نظريته" كانت في النهاية عبارة عن مجموعة من الجهود الهادفة لتحقيق عمل متماسك حول الأفكار التي كتبها في عام 1957. وهنا يقول راولز:" الأفكار الرئيسية بقيت في جزء كبير منها ولم تتغير،ولكن حاولت إبعاد الأفكار غير المتماسكة".أيضا المقدمة التي جاءت في الطبعة الفرنسية للكتاب الذي يعود صدوره بالفرنسية إلى عام 1986،وهي مجموعة من المقالات الهامة،جمعت في فرنسا وصدرت تحت عنوان "عدالة وديمقراطية". أخيرا كتاب "الليبرالية السياسية" الذي صدر في عام 1993،يضم بعض النصوص الغير صادرة في السابق،ولكنها تهدف لتوضيح ما كان قد صدر عن الكاتب قبل هذا التاريخ وفيما يتعلق بنظريته للعدالة.
منهج جون راولز في كتابه "نظرية العدالة"
من الصعوبات التي ترافق قراءة كتاب راولز، هي أنه يذكر الكثير من المؤلفات و الأسماء التي يصعب الحصول عليها. وإن كنا نعتبر هذا من الصعوبات الشخصية أمام القارئ،ولكن بالمقابل علينا أن نتساءل فور قراءة راولز إلى ماذا يرمي في كتابه و إلى أين يريد الوصول؟
يردد راولز وفي العديد من المرات أن "نظرية العدالة":" اقتراح لمتابعة نظرية النفعية utilitarisme أو نظرية "لإعادة التغيير". ويتابع راولز " الشكل الأفضل لشرح الهدف من هذا الكتاب هو كالتالي: النفعية،بشكل أو بآخر،كانت النظرية المهيمنة بشكل منهجي على الفلسفة الأخلاقية الحديثة،أو على الأقل في جزء منها.وهذه النظرية تم تبنيها من قبل كتاب كبار،هؤلاء شكلوا مذهبا قويا استطاع الاستمرار بقوة. وفي الواقع هناك اتجاه أو نزعة لنسيان أن كبار النفعيون utilitaristes، دافيد هيوم، آدم سميث،بينتام و ستيوارت ميل، كانوا من أفضل منظري المجتمع،وأنهم اقتصاديون من الطراز الأول،و أن المذهب الأخلاقي الذي أسسوه لبى طموحهم وشكل مفهوما شاملا. أيضا أعتقد أنهم لم ينجحوا في فرض مفهوم أخلاقي منظم ويمكن تطبيقه.والنتيجة أننا كنا مجبورين على الاختيار بين "النفعية" و "الحدْسية".(الحدسية هي مذهب فلسفي يأخذ بالحدس قبل البرهان).إن انتقاد جون راولز للنفعية يأتي ضمن مشروع ضخم هدف منه إلى بناء مفهوم فلسفي كامل لما سماه بالديمقراطية الدستورية.
يرى راولز في كتابه "نظرية العدالة" أن الهدف هو أخذ مكان داخل الفلسفة الأخلاقية و السياسية.فالنظرية بنيت بشكلها النهائي ضد النفعية،ولكن هذا الدحض للنفعية استند على قناعة عميقة وقوية: وهي أن الثقافة الديمقراطية تحمل في داخلها متطلبا أو واجبا جوهريا يسير باتجاه الحريات و الحقوق الأساسية للمواطنين،وأن هذا المتطلب له الأولوية بشكل مطلق،وهو ما يشرح مفهوم راولز للعدالة. وفي الواقع وكما يرى راولز،النفعية غير قادرة على القيام بهذا الواجب والمتطلب. أو بشكل آخر للقول،النفعية هي في تناقض، مهما كانت حقيقتها و قوتها،أو حتى بنيتها،مع الوعي الحديث للعدالة.
لكن،ما هو المنهج أو الأداة النقدية التي سمحت لراولز بدحض النفعية من خلال قناعة تعتمد على أولوية الحقوق والحريات، وتستند إلى الثقافة الديمقراطية؟ يوضح راولز هذا السؤال في مقدمة الطبعة الإنكليزية من الكتاب:" حاولت القراءة الشاملة و الوصول إلى أعلى درجة من التجريد للنظرية التقليدية للعقد الاجتماعي كما جاء عند "جون لوك، جان جاك روسو، و كانط". وهذه النظرية "نظرية العدالة" يظهر أنها تُقدَّم كحل بديل من خلال تحليل منهجي منظم ومتفوق للعدالة،كما أرى، للتقليد النفعي،الذي مازال مهيمنا. ويتابع راولز:" النظرية التي أقدمها هي ذات طابع كنطي عميق ولا أدعي في هذا المجال أنني أقدم أفكارا جديدة لم تطرح من قبل.إن الأفكار الكلاسيكية هامة جدا ومعروفة، أما عملي فهو تنظيمها في نظام عام وتبسيطها لتصل إلى الجميع. إن الطموح في هذا الكتاب سيكون مُرضيا إذا استطعت الوصول إلى الصفات الأساسية البنيوية لمفهوم العدالة،والتي هي موجودة بشكل ضمني في العقد الاجتماعي.ومن بين جميع المفاهيم التقليدية،أعتقد أن العقد الاجتماعي وحده هو الذي يقترب بشكل أفضل من تقييماتنا المستندة بشكل كبير على العدالة،وهو الذي يشكل القاعدة الأخلاقية التي يمكن أن تكون مقنعة في مجتمع ديمقراطي".
عمليا،أن التوجه العام لكاتب "نظرية العدالة" ليس شيئا جديدا بحد ذاته،لأنه يعود إلى الفلسفة التعاقدية contractualiste في القرن الثامن عشر.ولكن ما هو جديد بالفعل،هو استخدام هذه الفلسفة في كتاب راولز، بمعنى التعديل الذي قام به راولز لنظرية العقد الاجتماعي. ويظهر هذا جليا عندما نبين الفرق بين نظريات العقد الاجتماعي ونظرية العدالة كإنصاف انطلاقا من النظرية التعاقدية.في الواقع إن راولز يتحدث عن نظرية العقد الاجتماعي وكأنه لا يوجد اختلاف بين جون لوك،روسو و كانط. ولكن من جانب،راولز يعيد روسو و لوك إلى تقليدين للفكر الديمقراطي الذي هو في حالة صراع. بمعنى أولا: أنه يعيد إلى التقليد المرتبط مع لوك والذي يعطي وزنا لما سماه "بنيامين كونستا" بحرية الحداثيين،أي حرية التفكير والمعتقد،و العديد من الحقوق الأساسية للشخص،ثم حق التملك وقيام دولة القانون rule of law،وثانيا: أنه يعيد إلى التقليد المرتبط بجان جاك روسو الذي يفضل "حرية القدماء"،أي المساواة في الحريات السياسية وقيم الحياة العامة. ومن جانب آخر،إن توحيد النظريات في تقليد واحد هو "نظرية العدالة" يكون متجانسا، يوضح الاستخدام الإستراتيجي لدحض المدرسة النفعية،وهذا ما فعله راولز
إذا إن منهج راولز هو منهج دائري ويبحث ليطابق ومع كل مرحلة من مراحل تطوره،الحدس القوي للعدالة الاجتماعية و البرهان النظري الذي يستند إلى نموذج التقليد التعاقدي الاجتماعي contractualiste. وهنا يمكننا أن نحدد بيانيا المراحل التي اتبعها راولز في "نظرية العدالة": ينطلق من وعي العدالة الخاص إلى الثقافة الديمقراطية،محددا الأفكار الحدسية التي تتواجد في هذا الوعي؛ ومن خلال عمل من التصنيف و الشرح، يصل راولز إلى تشكيل مبدأين يلخصان مجموع هذه الأفكار الأساسية في مفهوم واحد متماسك.إنه يعود إلى نظرية العقد الاجتماعي ليستخلص المبدأين ويعطيهما تفوقا على المبادئ الأخرى المنافسة للعدالة الاجتماعية،لاسيما مبادئ النفعية. وفي النهاية يبين راولز النتائج التي علينا استخلاصها من هذا الجهد النظري ومن أجل بناء وتكوين المؤسسات السياسية والاقتصادية، مبرهنا بشكل خاص أن مجتمعا منظما هو مجتمع مستقر،بمعنى أنه مجتمع يمتد ليعاد إنتاجه كنظام عادل من التعاون.
في الفصل الثاني من الكتاب، يبين راولز أن مبادئ العدالة التي درست في الفصل الأول تشكل مفهوما سياسيا قابلا للتطبيق،كما أنها مقاربة و امتداد مدرك أو حكيم لمحاكماته التي فكر بها طويلا كما يقول. وهنا لا يقصد راولز فقط البرهنة على أن نظرية العدالة كإنصاف ليست فكرة طوباوية،وأنها يمكن أن تكون قاعدة لمؤسسات ديمقراطية دستورية، بل أيضا تدقيق التوازن في التأمل بين المبادئ المجربة من خلال " الحالة التعاقدية contractuelle" و تقييماتنا الحدسية، على سبيل المثال فيما يتعلق "بحرية المعتقد متساوية بالنسبة للجميع" والتي تستنبط من المبدأ الأول للعدالة وتشكل في نفس الوقت "واحدة من النقاط الثابتة لتقييماتنا المستندة بقوة على العدالة".
في الفصل الثالث، يجرب راولز تقديم قاعدة بسيكولوجية لنظريته و لاقتناء وإعطاء "معنى للعدالة"،وذلك من أجل تبيين أن المبدأين يستطيعان إحداث وتطوير هذا المعنى للعدالة ثم إنتاج،وبشكل مثالي،شروط مجتمع مستقر. أيضا يمكننا القول،إن راولز في تركيزه على المفهوم الفلسفي للعدالة يقول:"إن نظرية العدالة كإنصاف تحاول الأخذ بالحسبان لهذه القناعات التي لها معنى مشترك،لاسيما فيما يتعلق بأولوية العدالة". ولكن أولوية العدالة تتطابق أيضا مع أولوية الحريات الأساسية والحقوق التي لا يمكن أن تخضع لمساومة سياسية ولا لحسابات للمصالح الاجتماعية.إن هذه الأولوية ذاتها يمكن أن تحققها نظرية العقد الاجتماعي في أعلى درجة لها من التجرد.
يرى بعض منتقدي فلسفة راولز أنه من الصعب تحقيق الكمال المنهجي خاصة في المسائل المتعلقة بفلسفة الأخلاق كما يقول " ريكور":" منهج راولز يهدف لتأسيس نظرية معيارية للعدالة على قواعد تعاقدية contractualistes أو بنائية constructivistes.لكن الخطوة تبقى بالإضافة لذلك تحليلية،وذلك من خلال عمل التنقية للمفاهيم و البديهيات. أو يمكننا القول أيضا إنه منهج "للتوازن المتعقل" للبديهيات الأخلاقية العميقة، يحل مكان خطوة تأسيس الأخلاق.ولكن رغم ذلك،هل الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تتخلص من هذا الفضاء التحليلي للرأي والذي يستخدم الفكر في شرح التوافق على القيم الضمنية لثقافتنا؟" يتابع " ريكور" تعليقا على راولز في مقال له نشر في عام 1988 تحت عنوان " دائرة البرهان":" الفلسفة الأخلاقية تبرر القناعات الأخلاقية الأكثر اشتراكا فيما بيننا".
إن عدم الكمال المنهجي،وفق نقاد راولز، ربما يضع قيد المساءلة مشروع راولز نفسه،كما أكد هو ذلك وبنفسه في بداية عمله "عدالة وديمقراطية":" الهدف تعميم و إيصال المذهب التقليدي للعقد الاجتماعي إلى أعلى درجة ممكنة من التجرد".


ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم