العدل والإحسان
آدم
سميث
وهكذا فإن الإنسان، وهو
الكائن الوحيد الذي لا يستطيع أن يعيش إلا في المجتمع، قد كيّفته الطبيعة لهذا الموقع الذي خُلِق من أجله. يقف جميع
أعضاء المجتمع البشري في حاجة إلى مساعدة بعضهم البعض، كما أنهم معرضون على
نفس الغرار إلى الأذى المتبادل. وحيثما كانت المساعدة الضرورية نابعة من الحب،
من الامتنان، من الصداقة والتقدير المتبادل، ازدهر المجتمع وصار سعيداً،
وأصبح كافة أعضائه –على اختلافهم– مرتبطين سوية بروابط مقبولة من الحب والوئام،
ويصبحون كما لو أنهم مشدودين إلى مركز مشترك واحد من المناصب أو الأدوار
الجيدة المتبادلة.
وعلى
الرغم من أن المساعدة الضرورية يجب أن لا تمنح من قبل بعض الأشخاص الكرماء وغير
المهتمين، وبالرغم من أنه لا يجب أن يكون هناك حب وعواطف متبادلة بين الأعضاء
المختلفين، فإن المجتمع وإن كان أقل سعادة وانسجام، إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون
مجتمعاً مفككاً. يمكن للمجتمع أن يعتاش على الرجال المختلفين، كما هو الحال بين
التجار المختلفين، من حيث المنفعة، دونما وجود حب أو عواطف متبادلة، ورغم أن أي من
مواطني ذلك المجتمع يدين بالالتزام أو بالفضل لأي شخص آخر، ومع أن ولا إنسان يجب
أن يترتب عليه أي التزام أو أن يكون مرتبط بأي اعتراف بالجميل لأي شخص آخر، من
الممكن أن تكون مؤكدة بواسطة التبادل النفعي للمناصب الجيدة بموجب تقييم متفق
عليه.
على
أية حال، لا يستطيع المجتمع أن يعتاش بين هؤلاء الذين يكونون مستعدين على الدوام
لإلحاق الأذى والضرر ببعضهم البعض. اللحظة التي يبدأ فيها الأذى وجرح الآخرين، هي
ذات اللحظة التي تبدأ فيها الكراهية والعداء، حينها ستتمزق جميع جماعات ذلك
المجتمع وتتفرق، مما سيؤدي بأعضائه المختلفين في مشاربهم إلى التبعثر والتفرق في
الخارج بواسطة العنف والمعارضة الناجمة عن عواطفهم المتناحرة. فإذا كان هناك مجتمع
يضم سارقين وقتلة، فيجب عليهم على أقل تقدير، ووفقاً لأتفه الملاحظات، الامتناع عن
سرقة وقتل بعضهم البعض. لذلك فالإحسان هو أقل ضرورة من العدل لبقاء المجتمع.
يمكن للمجتمع أن يبقى دون إحسان، ولو أنه لن يكون في أحسن حالاته، لكن انتشار
الظلم وسيادته لابد أن تدمره كلياً.
مع
أن الطبيعة تحث الجنس البشري لأعمال الإحسان والخير، بضمير مبتهج يستحق المكافأة،
إلا أنها لم تعتقد أن من الضروري حماية ممارسة أعمال الإحسان والخير وتعزيزهما عن
طريق الخوف من العقاب المستحق في حالة تجاهل هذه الأعمال. فهي الزخرفة التي
تزين البناء، وليس الأساس الذي يدعمه ويرتكز عليه، تلك الزخرفة التي ليس من
الضرورة بمكان فرضها بصورة قسرية رغم أنها تكون مفضلة في بعض الأحيان ويوصى بها.
أما العدالة، فعلى العكس تماماً، إذ أنها العمود الأساس الذي يمسك بالبناء برمته ويدعمه.
يبدو
أن المبدأ الذي على أساسه نقبل أو لا نقبل بسلوكنا وتصرفاتنا، هو نفس المبدأ الذي
على أساسه نطلق أحكامنا المشابهة فيما يتعلق بسلوك وتصرفات الآخرين. فنحن إما أن
نؤيد أو لا نؤيد تصرفات شخص ما بقدر ما نشعر به عندما نضع أنفسنا مكانه، وإما أن
نستطيع أن نتعاطف تماماً مع المشاعر والدوافع التي وجهت سلوك ذلك الشخص أو لا
نستطيع. وعلى نفس المنوال، إما أن نؤيد أو لا نؤيد تصرفاتنا نحن، حسب ما
نشعر به، إذا ما وضعنا أنفسنا في نفس موقف ذلك الشخص، ونرى الموقف بوجهة نظره ومن
مكانه، فإما نستطيع أو لا نستطيع الدخول في مشاعره ودوافعه التي أدت إلى سلوكه،
والتعاطف معها أو لا نستطيع. لا نستطيع أن نستعرض ونتفحص عواطفنا ودوافعنا ابداً،
كما لا نستطيع أن نشكل أي حكم متعلق بها، ما لم ننقل أنفسنا من مواقفنا الطبيعية،
وحاولنا جاهدين أن نتفحص هذه المواقف من بعد مسافة محددة منا. ولكننا لا
نستطيع فعل هذا بأي طريقة أخرى سوى أن نحاول أن نراقبها من وجهة نظر الآخرين، وكما
نتوقع من الآخرين أن ينظروا اليها. ومهما كان الحكم الذي نستطيع أن نتوصل إليه
إزاء عواطف ودوافع الآخرين، لابد لذلك الحكم أن يحمل على الدوام إشارة سرّية –إما
إلى ماهية أو إلى كيفية ما ستكون عليه أو ما نتصور أن تكون عليه أحكام الآخرين.
نحاول جاهدين أن نتفحص سلوكنا بالطريقة التي نتصور أن يراه فيها مراقب عادل
وحيادي. فإذا ما وضعنا أنفسنا في مكانه، ودخلنا بعمق في كل المشاعر والدوافع التي
أثرت على السلوك، فهذا يعني أننا نؤيده من خلال التعاطف مع استحسان هذا الحاكم
العادل المفترض. أما إذا حدث العكس، فسندخل في عدم استحسان ذلك الحاكم مما سيؤدي
إلى استنكار السلوك.
لو
كان يمكن لإنسان أن يترعرع ويبلغ سن الرجولة في مكان منعزل دون أي اتصال مع ابناء
جنسه من البشر، لن يستطيع أن يفكر بشخصيته، بمحاسن ومساوئ عواطفه وسلوكه، بجمال أو
بشاعة عقله، أكثر مما يفكر بجمال أو قبح وجهه. جميع هذه الأمور لا يستطيع رؤيتها
بسهولة، لأنه بطبيعة الحال لا ينظر إليها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يملك
مرآة تعرض هذه الاشياء لناظريه، إجلبه إلى المجتمع، وزوده مباشرة بتلك المرآة التي
لطالما افتقر إليها من قبل. وما هذه المرآة سوى تلك التي تكمن في ملامح وتصرفات
الناس الذي يعيش معهم، والتي تظهر واضحة في كل مرة يدخلون فيها في عواطفه أو عندما
يرفضونها، فهناك سينظر للمرة الأولى إلى محاسن وعيوب عواطفه، وجمال عقله أو
بشاعته.
عندما
حاولت جاهداً أن أتفحص سلوكي، وحاولت أن أصدر حكماً عليه، فإما أن أؤيده أو
أستنكره، كان من الواضح أنني في جميع الحالات كنت أقسم نفسي إلى شخصين، فكانت
(أنا) المتفحص والحكم تمثل شخصاً مختلفاً عن الأنا الأخرى؛ ألا وهي (أنا) الشخص
الذي يخضع سلوكه للاختبار والحكم. يمثل الشخص الأول (المتفرج) الذي حاولت أن أسبر
أغوار عواطفه من خلال وضع نفسي مكانه، آخذاً بنظر الاعتبار كيف كان سلوكه ليبدو لي
عندما أراه من وجهة نظر معينة. أما الثاني فيمثل العميل، الشخص الذي أدعوه (نفسي)،
والذي حاولت من خلال سلوكه، أن أكوّن رأياً أو تصوراً معيناً من خلال تقمصي لدور
المتفرج. الأول هو الحَكَم، والثاني هو الشخص الذي سوف يُحكم عليه، ولكن أن يكون
الحكم هو نفس المحكوم عليه في كل شيء لهو أمر مستحيل، مثل استحالة أن يكون السبب
مثل النتيجة بالضبط.
إنه
لمن صفات الفضيلة أن تكون ودوداً وجديراً بالتقدير؛ وأن تستحق الحب والمكافأة، ومن
صفات الرذيلة أن تكون بغيضاً وجديراً بالعقاب. لكن جميع هذه الصفات لها إشارة
مباشرة لمشاعر الآخرين. لم تُحدد الفضيلة بأن يكون المرء ودوداً أو جديراً
بالتقدير لأنها هدفاً لحبهاً وفضلها الخاص، إلا أنها تُعامل هكذا لأنها تثير مشاعر
وعواطف الآخرين. ويعدّ الضمير، الذي هو هدف لاعتبارات مفضلّة كالتي سبق
ذكرها، المصدر للهدوء الروحي الداخلي ورضى النفس التي تكون موجودة بطبيعة الحال،
كما تُعطي الشبهة الناتجة عن العكس، الفرصة لعذابات الرذيلة. يا لها من
سعادة كبيرة أن يكون المرء محبوباً وأن يعلم بأنه يستحق أن يكون محبوباً، ولكم هي
تعاسة كبيرة أن يكون المرء مكروهاً وأن يعلم بأنه يستحق أن يكون مكروهاً...
يعتبر
إحساسنا تجاه مشاعر الآخرين، والذي هو بعيد جداً عن طبيعة ضبط النفس الإنسانية،
العامل الأساسي لما هي عليه الطبيعة الإنسانية. نفس العامل أو الغريزة التي
تحثنا في محنة جارنا على التعاطف مع حزنه، تحثنا في محنتنا على كبت المناحة
التعيسة والمُذلة. نفس العامل أو الغريزة التي تحثنا في ازدهار ونجاح جارنا
على تهنئته والمشاركة في فرحه، تحثنا في فرحنا على كبت الحماس المفرط
والطائش. في كلا الحالين، تتناسب لباقة عواطفنا ومشاعرنا تماماً مع الحيوية
والقوة التي عن طريقها نسبر أغوار عواطف ومشاعر الآخرين ونفهمها.
الإنسان
صاحب الفضيلة المثلى، الذي بطبيعة الحال نحبه ونحترمه، هو الذي إضافة للضبط الكامل
لمشاعره الأصلية والأنانية، يضمّ إحساساً مرهفاً جداً تجاه مشاعر الآخرين الأصلية
و المتعاطفة. الإنسان الذي، إضافة لفضائل الرقّة، الودّ واللباقة، يضمّ جميع
الفضائل العظيمة، الرائعة والجديرة بالاحترام، لابد أن يكون هدفاً طبيعياً ولائقاً
لخالص حبنا وإعجابنا.
الشخص
الذي يكون بطبيعته مناسباً لاكتساب مجموعتي الفضائل الآنف ذكرها، يكون بطريقة
مماثلة مناسباً لاكتساب أي فضيلة أخرى. الشخص الذي يشعر بفرح وحزن الآخرين،
يكون مناسباً لاكتساب ضبط كامل لمشاعر فرحه وحزنه. الشخص الذي يمتلك إنسانية
حساسة ومرهفة، هو بطبيعة الحال الشخص الأكثر قدرة على اكتساب أعلى درجات ضبط
النفس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق