تعريف أرسطو للعدالة
أحمد أغبال
يحيل
مفهوم العدالة عند أرسطو إلى دلالتين: عامة وخاصة؛ فهو يشير في دلالته العامة إلى
علاقة الفرد بالمؤسسات الاجتماعية، وهنا يكون مرادفا للفضيلة بالمعنى الدال على
الامتثال للقوانين؛ فالإنسان الفاضل هو الذي يعمل وفقا للقانون، شريطة أن يكون هذا
القانون مبنيا على أساس مبدإ الفضيلة. ومع ذلك فإنه لابد من الإشارة إلى وجود فرق
طفيف بين مفهوم العدالة الكونية ومفهوم الفضيلة من حيث أن الأولى تقتصر على
العلاقات بين الأفراد والمؤسسات، بينما تشمل الثانية علاقات الأفراد فيما بينهم.
وأما العدالة بالمعنى الخاص فتدل على ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الفرد في تعامله
مع غيره من أفراد المجتمع، وهنا تقترن العدالة بالفضيلة باعتبارها جزءا لا يتجزأ
منها، وتدل على السلوك الفاضل في جميع مجالات النشاط الإنساني.
إن العدالة بهذا المعنى تقتضي أن يقنع المرء بقسمته ولا يطمع بما في أيدي
الناس وفي حقوقهم، وتعني الاعتدال، وهو الحد الوسط بين قيمتين متطرفتين أو بين
الزيادة والنقصان، ومعنى ذلك أن يسعى الإنسان الفاضل دائما إلى الحصول على القسمة
التي تمثل القيمة التي تقع بين الحد الأدنى والحد الأعلى، وهذا ما تدل عليه العبارة
الأرسطية المشهورة: "الفضيلة هي الوسط". تدل هذه العبارة من الناحية
العملية على أن يقنع الشخص الفاضل بأقل قدر ممكن.
أنواع العدالة في فلسفة الأخلاق لدى أرسطو
يميز أرسطو بين العدالة الكونية والعدالة الخاصة، كما سبقت الإشارة إلى
ذلك، ويميز في العدالة الخاصة أيضا بين نوعين وهما:
1. عدالة التوزيع، وتشمل توزيع الخيرات والشرف والمناصب أو أي شيء يمكن
توزيعه على أفراد الجماعة الإنسانية. ويستلزم تحقيق هذا النوع من العدالة وجود
شخصين وشيئين يراد توزيعهما بينهما؛ وتقضي العدالة أن تظل وضعية كل واحد من
الطرفين كما كانت قبل التوزيع، ومعنى ذلك أن يتم توزيع الأشياء بما يتناسب مع ما
يستحقه كل طرف، هذا مع العالم أن معيار الاستحقاق يختلف باختلاف النظم الاجتماعية:
ففي الأنظمة الديمقراطية يكون المعيار هو الحرية، وتكون الثروة هي المعيار في
الأنظمة الأوليغارشية، وهو الفضيلة في الأنظمة الأرستقراطية. وأخذا بعين الاعتبار
الفروق التي تقيمها هذه المعايير بين الأفراد، فإنه يمكن مع ذلك إقامة العدل
بينهم، وذلك وفقا لمبدإ التناسب الهندسي؛ فإذا كان هناك شخصان "أ" و
"ب" يريدان تقاسم شيئين "ج" و "د"، وكان الشخصان
متماثلان من حيث درجة الاستحقاق، وكانت قيمة "ج" مساوية لقيمة
"د"، فإن العدالة تقتضي أن يتم التوزيع وفقا للمعادلة التالية:
أ ¸ ب = ج ¸ د
وبالنظر إلى مبدإ التوزيع العادل، فإنه يتعين أن يحصل "أ" على "ج" كلها، وأن يحصل "ب" على "د" كلها، بحيث تصبح الوضعية بعد التقسيم على النحو التالي
وبالنظر إلى مبدإ التوزيع العادل، فإنه يتعين أن يحصل "أ" على "ج" كلها، وأن يحصل "ب" على "د" كلها، بحيث تصبح الوضعية بعد التقسيم على النحو التالي
أ + ج) ¸ (ب + د) = أ ¸ ب )
وهذا يعني أن وضعية كل طرف بالنسبة إلى
الطرف الآخر بعد التوزيع ظلت كما كانت عليه قبل التوزيع، بمعنى أن أي أحد
لم يحقق أية مكاسب على حساب الآخر؛ وهذه هي العدالة التوزيعية التي تقوم على مبدإ التناسب
الهندسي الذي تمثل حصيلته الحد الوسط بين الزيادة والنقصان في الحصة التي يستحقها كل طرف، فلا إفراط ولا تفريط. ومعنى ذلك أن
الشخص غير العادل هو الذي يرغب في الحصول على أكثر مما يستحق وفقا لمبدإ التناسب الهندسي.
ومع أن العدالة التوزيعية تخص التعاملات بين الأفراد فإنه يمكن تطبيقها
أيضا على التعامل بين مؤسسات الدولة والمواطنين فيما يتعلق بتوزيع الخيرات
والمناصب والخدمات كالتعليم والصحة. تقتضي العدالة أن تقوم الدولة بتوزيع هذه
الموارد بالتساوي على المواطنين مع مراعاة استعداداتهم ومؤهلاتهم وقدراتهم، وبغض
النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو العرقية أو الدينية وما إلى ذلك. وتقتضي العدالة
أن تقدم الدولة الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة مثلا لجميع المواطنين دون تفضيل
أو تمييز بعضهم على بعض. فإذا كانت سياسة الدولة تقوم على مبدإ المعاملة التفضيلية
لبعض الفئات على حساب فئات أخرى عندما تقوم بتقديم هذه الخدمات، كأن يتلقى أبناء
الأعيان والطبقات العليا تعليمهم في مدارس أفضل منالمدارس التي يدرس فيها أبناء
الطبقات الشعبية، أو أن يتلقوا العلاج في مستشفيات وعيادات فاخرة بينما يتلقى
أبناء الطبقات الشعبية علاجهم في مستشفيات قذرة تفتقر إلى التجهيزات الضرورية، إذا
كان الأمر كذلك فإن الدولة ستكون دولة جائرة تفتقر إلى المشروعية، ويكون من حق
الشعب أن يقاومها ويعيد بناءها من جديد على أساس مبدإ العدالة.
2. العدالة التصحيحية،
وتكمن وظيفتها في إعادة الحق المنتهك إلى نصابه، والحقوق المهضومة إلى أصحابها في
مجال التعاملات بين الناس. يميز أرسطو في هذا النوع من العدالة بين نوعين وهما:
العدالة المتعلقة بالمعاملات الإرادية أو الاختيارية بين الأفراد كالبيع والشراء
والإيجار والسلف وما إلى ذلك؛ والعدالة المتعلقة بالمعاملات غير الإرادية، السرية
منها والعنيفة كالسرقة وإتلاف ممتلكات الغير أو إهانته أو مضايقته في عمله أو سكنه
الخ. ففي مجال التعاملات الإرادية أو التعاقدية يكون هدف الحاكم أو القاضي هو
التصحيح لا العقاب،. وتقتضي العدالة في هذه الحالة أن يتعامل القاضي مع المتنازعين
على قدم المساواة، وأن يمسك عن إصدار أي حكم معياري ولا ينظر إلى أي أحد منهما على
أنه طيب أو خسيس. وأما ما يجب أن يقوم به فهو بيان الحيف الذي لحق أحدهما وتصحيحه
وإعادة الأمور إلى نصابها وإلى ما كانت عليه قبل المعاملات. وأما في مجال السلوك
الإجرامي فإن الهدف يكون هو العقاب وتصحيح الضرر وإعادة الاعتبار للمعتدى عليه.
ويرى أرسطو أن العدالة التصحيحية تقوم على مبدإ التناسب الحسابي، وهذا
مثال يوضح هذا المبدأ: لنفترض أن شخصين "أ" و "ب" اللذان
يوجدان في وضعية متساوية ( أ = ب) وتعرض أحدهما لتعامل سري من الطرف الآخر، حيث إن
الشخص "أ" اعتدى على الشخص "ب" وأخذ منه القيمة
"ج"، وعلى إثر ذلك أصبحت وضعيتهما هي: (أ ج)، (ب – ج). ولإعادة الأمور
إلى نصابها دون إفراط ولا تفريط يقوم القاضي بإعادة "ج" إلى
"ب"، وعندئذ تصبح الوضعية كما يلي: (أج – ج) = (ب – ج + ج). وهكذا تعود
المعادلة إلى ما كانت عليه في الوضعية الأصلية.
مفهوم الوسط في أخلاقيات العدالة عند أرسطو
يتبين من التحليل السابق أن نظرية العدالة عند أرسطو تقوم على ثلاثة قيم،
اثنتان منهما تمثلان الرذيلة وهما الزيادة والنقصان أو الإفراط والتفريط، وتمثل
القيمة الثالثة الفضيلة وهي الوسط. تتعارض كل قيمة من هذه القيم مع القيم الأخرى،
ولكن ليس بنفس القوة أو الحدة، وأشد ما يكون التعارض بين القيم المتطرفة (الزيادة
المفرطة والنقصان المفرط)، وكذلك يوجد تعارض بينهما وبين قيمة الوسط. وأما المتوسط
فإنه يتعارض مع القيم المتطرفة من حيث أنه يمثل الزيادة بالنسبة للقيمة الدنيا
والنقصان بالنسبة للقيمة العليا. فالرجل الشجاع يبدو متهورا في نظر الجبان، وجبانا
في نظر المتهور؛ ولهذا السبب ينظر كل متطرف في هذا الاتجاه أو ذاك إلى من يقف في
الوسط بين طرفي النقيض على أنه مذنب. وكثيرا ما تبدو القيمة المتطرفة مشابهة لقيمة
الوسط ومختلفة اختلافا جذريا عن القيمة التي تقع في الطرف النقيض: فالتهور يبدو في
بعض الأحيان مشابها للشجاعة ومناقضا للجبن، والتبذير مشابها للكرم ومناقضا للبخل،
ذلك لأن العلاقة بين القيم المتطرفة هي على العموم علاقة تناقض، وأما العلاقة بين
القيم المتطرفة والقيمة الوسطى فهي علاقة تشابه وتماثل، بحيث يكون من الصعب في بعض
الوضعيات التمييز بينها.
وفي بعض الأحيان تكون إحدى القيم المتطرفة أكثر تعارضا مع القيمة الوسطى
بالمقارنة مع القيمة المتطرفة الأخرى، فالجبن مثلا يبدو أكثر تعارضا مع الشجاعة من
التعارض الموجود بين التهور والشجاعة. وكذلك فإن التعاطف وإظهار المشاعر الذاتية
أقرب إلى التحكم في الذات وأبعد ما يكون عن انعدام الحس أو الحساسية. ويرجع السبب
في ذلك إلى أنه عندما يشعر المرء بأن إحدى القيم المتطرفة شبيهة بالقيمة الوسطى
فإنه يميل إلى اعتبار القيمة المتطرفة الأخرى مناقضة للقيمة الوسطى. وكذلك فإنه
كلما كان المرء أكثر انجذابا إلى قيمة ما فإنه يميل إلى اعتبار القيمة الوسطى
مناقضة لقيمته، فإذا كان شديد الميل إلى تحقيق اللذة والمتعة وأقل قدرة على التحكم
في الذات، فإنه سيميل بطبيعة الحال إلى اعتبار الاعتدال في الإقبال على المتعة
منافيا لمبدإ التحكم في الذات.
نخلص من ذلك كله إلى القول بأن العدالة هي الفضيلة، وأن الفضيلة هي الوسط
بين رذيلتي الإفراط والتفريط أو الزيادة والنقصان على مستوى الانفعالات والسلوك.
وتقتضي الحكمة من وجهة النظر هذه اكتساب القدرة على تحديد القيمة الوسطى بنزاهة،
ولكن تحقيق هذه المهمة يكون على قدر كبير من الصعوبة في بعض الأحيان لاعتبارات
ذاتية صرفة. ولعل من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في الشخص من أجل تحقيق هذه
الغاية: الوعي بالذات وما تنطوي عليه من نوازع وميولات خاصة، والقدرة على التحكم
في الذات. إن هذه الصفات هي التي تساعد المرء على عدم الانسياق وراء الرغبات
المتطرفة التي تتعارض مع الحد الوسط الذي يسعى إليه، إن امتلاك هذه الصفات هو ما
يجعله قادرا على اكتشاف القيمة المتطرفة الأكثر تعارضا مع القيمة الوسطى بالقياس
إلى القيمة المتطرفة الأخرى، حتى إذا لم يتمكن من الاهتداء إلى القيمة الوسطى
أمكنه الاختيار على الأقل بين أهون الضررين. إن الوعي بالنوازع الذاتية يعصم من
الوقوع في الزلل ويساعد على مقاومة الإغراء والأهواء، ويدفع المرء إلى السير في
الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كان ينوي السير فيه من جراء ميله إلى التمركز حول
الذات لتلبية رغباتها الأنانية. إن التخلص من نزعة التمركز حول الذات هو السبيل
القويم إلى الاهتداء إلى القيمة الوسطى التي تمثل الفضيلة.
البعد الاجتماعي والسياسي للعدالة
إن العدالة بالمعنى السياسي للكلمة تدل عللا علاقة الدولة بمواطنيها، ولا
تتحقق العدالة في هذا الإطار إلا إذا كان جميع المواطنين يتمتعون بنمط عيش مشترك
يلبي حاجاتهم الأساسية، ويوفر لهم إمكانية الاستقلال الذاتي والحرية والمساواة في
جميع مجالات الحياة الاجتماعية بناء على مبدإ التناسب الهندسي أو مبدإ التناسب
الحسابي حسب طبيعة النظام الاجتماعي-السياسي. ففي الأنظمة الأرستقراطية تتحدد
المساواة بين المواطنين وفقا لمبدإ التناسب الهندسي، لأن توزيع الحقوق في هدا
النظام يتم بالنظر إلى وضعية الأفراد واستحقاقاتهم، ويتحدد مفهوم المساواة في
الأنظمة الديمقراطية وفقا لمبدإ التناسب الحسابي ما دام كل مواطن حر يتمتع بنفس
الحقوق والواجبات.
ولما كانت وظيفة القوانين والتشريعات هي التمييز بين العدل والجور فإنه لا
يمكن الحديث عن العدالة السياسية في مجتمع لا تخضع فيه العلاقات بين الأفراد
للقوانين؛ ما وجدت القوانين في الواقع إلا بسبب قابلية الإنسان لأن يكون عادلا أو
جائرا، بل إن طبيعته الأنانية، وميله إلى التمركز حول الذات يؤهلانه لأن يكون أكثر
ميلا إلى الظلم منه إلى العدل، وخاصة إذا تمركزت السلط بين يديه وتوفرت له أسباب
القوة. ولهذا السبب يكون نظام الحكم الفردي أكثر الأنظمة السياسية ظلما وجورا
وفسادا؛ لأن الحاكم المستبد يجعل مصالحة الأنانية فوق مصلحة الأمة أو الوطن. ولذلك
يقال بأن القانون هو الحاكم الفعلي في الدولة العادلة، ويقتصر دور القادة فيها على
السهر على تطبيق القوانين وتحقيق العدالة ولو على أنفسهم. ولقد ضربت الولايات
المتحدة الأمريكية على ذلك مثالا للعالم عندما مثل الرئيس كلنتون أمام العدالة في
قضية مونيكا التي باتت مشهورة.
ويجمع المفكرون في الوقت الراهن على أن العدالة التصحيحية لا يمكن أن
تتحقق في إطار أي نظام سياسي ما لم يكن هناك فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة
القضائية. ويعتبر مبدأ فصل السلط الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة
الديمقراطية العادلة. ولابد من الإشارة هنا إلى أن مشكلة الحكم الديمقراطي العادل
ما زالت هي المشكلة الرئيسية التي يعاني منها المغرب وغيره من بلدان شمال إفريقيا
والشرق الأوسط، وما زالت هذه البلدان تقاوم كل دعوة إلى إصلاح أنظمتها القضائية
والإدارية سواء كان مصدر هذه الدعوة داخليا أو خارجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق