الفن: الحقيقة والجمال
الأستاذ:
الشاذلي كسّابي
مدخل إشكالي:
يسود الاعتقاد اليوم بأن الفن هو وسيلة للهروب من الواقع، اعتقاد
سائد إلى درجة أن أكثر الناس اليوم لا يميزون بين منتوجات المجتمع الاستهلاكي التي
لها أهداف ترفيهية و الإبداعات الفنية التي تتضمن من جهة مبدعها مثلما من جهة
المهتمين بالشأن الفني، استثمارا حقيقيا قد يصل إلى حد الوجد. فنحن نرى في الفن
نوعا من الوسيلة التي تهب لنا إنشاءات متنوعة و مختلفة، إنشاءات موسيقية و
سينيمائية و مسرحية... تتمثل وظيفتها في التسلية إذ تساعدنا على نسيان الواقع
الباهت و الفظ الذي نعيش فيه.
غير أن هذا الضرب من التعامل مع
الفن مبني على نسيان المجهودات، ربما، الفوق إنسانية التي يقوم بها الفنان ليتجاوز
و يتعالى و يجمّل الواقع ذاته. إذا ما الداعي لطرح مسألة الفنّ ؟ هل أنّ تعقيدات
الواقع وتوتّراته ما يبرّر استدعاء التجربة الجمالية كأداة لمساءلة الملتبس و
المبهم ؟ هل جسّد الفنّ منذ نشأته أداة تعبير عن الواقع أم أداة استبدال له أو
مهرب منه إذا ما توسّل بمفردات الخيال ؟ هل يُدنينا الفنّ من الواقع ومن الحقيقة
أم يقصينا عنهما ؟ عن أيّة حقيقة يبحث الفنّ ؟ هل أنّ كلّ جميل هو حقيقي ؟ وهل أنّ
كلّ حقيقي جميل بالضرورة ؟ هل أنّ إبداع الجمال هو مجرّد حيلة للعقل لتجميل قبح
وبشاعة الواقع عملا بالمقولة النيتشية "لنا الفنّ لكي لا تُميتنا
الحقيقة" ؟ هل يطلب الجمال لذاته أم لأجل غاية نفعية ؟ على أي نحو يمكن
التفكير في التجربة الفنيّة و أيّة وجاهة تبرّر مقاربتها من جهة العلاقة بين
الجمال والحقيقة ؟ وهل تستوفي المقاربة الإستيطيقية كلّ أبعاد هذه التجربة ؟ ألا
يدعونا تنزيل البعد الجمالي ضمن كونية التجربة الإنسانية إلى التفكير في الجمال
على نحو إيتيقي؟ هل يعبّر الفنّ عن حقيقة أم عن حقائق يتداخل ضمنها الذاتي
بالاجتماعي بالسياسي بالإيتيقي بالوجودي ؟ ما الذي نطلبه من الفنّ ؟ هل له دور
ممكن ضمن الوجود الإنساني ؟ هل يمكن للفنّ أن يكون أداة اغتراب أم تحرّر؟ ما وضع
التجربة الجمالية بين النسبي و المطلق ؟ هل يتعارض مطلب الجمال مع مطلب الحقيقة ؟
أم أنّ في تلازمهما توق للكلّي وتحقيق له ولو بشكل نسبي؟
I- الفن و الجمال:
1- مفهوم الفنّ:
تعود كلمة فنّ اشتقاقيّا
إلى الأصول اليونانية واللاتينية Techné وars
التي اشتقّت منها مفردة Art في اللسان الفرنسي واللتان تعنيان
الصّنعة المحكمة والمهارة الحرفية والتقنية غير أنّ الجماليات المعاصرة أصبحت
تحترز من هذا المفهوم الضيّق للفنّ باعتباره تقنية أو باعتباره صناعة حرفية
مميّزة من ناحية بين العمل التقني باعتباره عملا ممكنا و متكرّرا ولا يحمل لمسة
الفنّان وأحاسيسه الذاتية وبين العمل الفنّي باعتباره عمل متفرّد وممضى وغير
قابل للتكرار أو النسخ أو الطباعة «un modèle unique »، كما ميّزت الجماليات المعاصرة بين الفنّ والحرفة اليدوية
التقليدية نظرا لأنّ الحرفي يعتمد آلية التكرار لنفس الحركات التي تلقّنها ليسقط
عمله ضمن دائرة الرتابة الفاقدة للدلالة الحقيقيّة في حين أنّ الفنّان ما ينفكّ
يبدع ويرتجل ويتحكّم في دائرة موضوعاته المبتكرة والمتفرّدة دائما والمتنوّعة
باستمرار.
أمّا في "المعجم التقني
والنقدي للفلسفة" فنجد أنّ "أندريه لالاند" يعرف المصطلح
باعتباره" كلّ إنتاج للجمال يتحقّق في أعمال كائن واع ".
وهذا التعريف اللالاندي يخصّص التجربة الفنّية باعتبارها تجربة ذات صلة مباشرة
بصناعة وإبداع الجمال طلبا لقيمة إنسانية كونية هي قيمة الجماليات أو
الإستيطيقا و هذا المصطلح الأخير مشتقّ من اليونانيّة aïsthesis بمعنى الإحساس ليدلّ أوّلا على
دراسة المعرفة الحسّية لدى "كانط" و ثانيا على التّفكير في
الجمال أي على ذلك العلم الذي يهتمّ بدراسة الإحساس بالجمال و الذّوق الفنّي و
يسعى إلى إنشاء نظريّة في الجمال كما أشار إلى ذلك "هيقل" في
مدخل كتابه في الجماليات. يبدو لنا أنّ تعريفاتنا السّابقة ساهمت في توضيح مفهوم
الفنّ من حيث أنّه نشاط إنساني يضيفه الإنسان إلى الطّبيعة بهدف التّعبير عن
الجمال أو إثارة الشّعور بالجمال أو إنشاء ما هو جميل.
2- الجمال
والإستيطيقا:
أ- ذاتية الأحكام الجمالية:
ماذا يمكن أن يعني الجمال ؟ هل
هناك معايير محدّدة وثابتة للجمال؟ لماذا نحكم على شيء ما أنّه جميل أو قبيح ؟ من
أي منظور يمكن أن ندرك الأشياء الجميلة؟
كان مفهوم الجمال منذ القدم محطّ
جدل بين الفلاسفة كما نجده في الفلسفة الأفلاطونية متجاوزا لهذا الفهم ليتّخذ
وضعية أنطولوجية داخل عالم أفلاطون المثالي الذي يميّز بين المادي والروحي
والعقلي والذي انعكس بدوره على التفكير في نظرية تفاضلية للجمال يكون الجمال
الحسّي فيها في أدني السلّم الوجودي للكائنات ثمّ يليه الجمال الروحي ثم يليهما
الجمال العقلي أو" الجمال في حدّ ذاته"
أو" الجمال كفكرة" مطلقة
موجودة في عالم المثل على شاكلة "مثال للجمال"
حيث بيّن في محاورة المأدبة إمكانية الارتقاء من الرغبة في الأجسام الجميلة إلى
الرغبة في الأرواح الجميلة إلى تأمّل الجمال في ذاته ليتسنّى له بعد ذلك إمكانية
المقابلة بين الإيروس (الرغبة) واللغوس (العقل) ليكون الجمال وفق هذا التصوّر
المثالي مطابقا للحقيقة كلّما دنا أكثر من مثال الجمال ومزيّفا لها كلّما انحدر
إلى العالم الحسّي الزائف والمشوّه فيميّز أفلاطون بذلك بين الأصل والنسخة ونسخة
النسخة أو النسخة المشوّهة للجمال مستبعدا بذلك إمكان أن تقول المحاكاة (النسخ) في
الفنّ الحقيقة المطلقة للجميل حيث يتحدّث عن فنّ الرسم باعتباره فنّا يبعدنا عن
الحقيقة بثلاث درجات ويورد لنا مثال النجّار الذي يصنع نسخة مشوّهة عن فكرة
الطاولة في عالم المثل والرسّام الذي يحاكي طاولة النجّار برسم مثال مزيّف لها فلا
يصيب منها إلاّ نسخة النسخة وربّما لهذا السبب يتّخذ أفلاطون موقفا سلبيا من الفنّ
حيث أطرد الشعراء والرسّامين ومن دون رجعة من جمهوريته الفاضلة، توقّيا من شرّ
الخداع ومن سلبيات المغالطات التي قد يوقعنا فيها هؤلاء.
إلاّ أنّ فلسفات الذات رفضت أن
تكون الجماليات مرتعا للدغمائية. وتندرج في هذا الإطار تحليلات كانط.
فالجميل عنده وبخلاف أحكام المعرفة والعلم لا يفترض مفهوما عقليا يتقوّم به. يتعذر
علينا أن نحدّد الجميل في ذاته مثلما زعمت
ذلك فلسفة أفلاطون، ويصعب علينا بالتالي ضبط قواعد لإنتاج الجمال بل وكل حكم قيمة
نصدره هو حكم فريد وجزئي لا يقبل التعميم.
فالجمال مفهوم معياري تحيل عليه الأحكام
الجمالية وهو حكم يفيد الإيجابية ولا يكون خاضعا لمعايير ثابتة أو علمية أو
أخلاقية فالجميل ليس بالضرورة الفاضل لذلك ينزل إيمانوئيل كانط الجمال ضمن
مجال الإستيطيقا وهي علم الحساسية (كلّ ما يرتبط بالإحساس والذوق والتلقّي)
حيث يكون الجميل كانطيا ما يولد إحساسا بالجمال، إنّ النسبية المحاصرة لهذا
المفهوم تعود أحيانا لمعطيات ذاتية تكون متعلّقة بالذوق وبالحالة
النفسية و برؤية الشخص الذي يصدر حكما جماليا كما قد تعود إلى معطيات تاريخية فلو
أخذنا على سبيل المثال الموضة نجد أنّها تتغيّر من زمن إلى آخر وما قد يبدو جميلا
اليوم يبدو مضحكا غدا، لذلك تعدّدت الرؤى الفلسفية في تأويل ظاهرة الجمال و ردّها
إلى آليات ومعطيات مختلفة فنجد على سبيل المثال كانط: فلا تقول أحكامنا أن
كل الأزهار جميلة أو متساوية الجمال، وإنما تقول فقط أن هذه الزهرة الماثلة أمامنا
جميلة، والحكم لا يبرر وإنما يعبر عن تلك اللذة، أو عن إحساس المتعة الذي ينشأ
بداخلنا عند إدراكنا لشيء جميل. هذه المتعة هي منبع الحكم ومعياره في الآن نفسه.
وهو معيار ذاتي طالما أنه يُجلي حالة الذات، فقولي عن هذا الشيء أنه جميل هو في
الحقيقة قول عن نفسي أكثر مما هو قول محمول على الشيء، وفي حكمي أحدّث عن نفسي
أكثر مما أحدّث عن خصائص الشيء الماثل أمامي. وهذا ما يجعل من أحكامنا الذوقية
أحكاما نسبية، تتوقف على كيفيات إدراكنا للأشياء وعلى الهيئات التي نتقبل فيها
آثار الأشياء فينا. ولا أحد منا يجوز له الحكم بإطلاق، أو الإصرار في عناد دغمائي
على وجاهة حكمه ولا على جدارته. ولكن يتطلب الأمر بعض الحذر لكي لا تأخذنا النسبية
إلى إعدام الجميل وإفساده، أو إلى إبطال شرعية هذا الحكم، لأننا لو أبحنا لكل ذات
أن ترى الجميل على طريقتها، أمكن لما اتفق من الأشياء أن يجد من يشهد له بقدر من
الجمال. فتكون الذاتية وبالا على حكم القيمة، وهو ما كان يتوجّس منه كانط ،
فحكم القيمة وإن كان يفتقد إلى أساس مفهومي في العقل ، فليس هذا ما يمنع من نزوعه
إلى الكونية. وحين تطلق الذات حكمها ، تأمل أن تشاطرها فيه كل ذات وتؤيّده. وقصد كانط من هذا الموقف
أنه حين يتعذر وجود جمال كوني فلا أقل من أن إحساس كل إنسان بالجميل هو إحساس
كوني: يتشابه الجميع من جهة الإحساس في هذه الطبيعة الكونية التي عبر عنها كانط
بما يلي:« تكون الشروط الذاتية لملكة الحكم واحدة لدى جميع الناس(...)
وإلا فما قدروا على تبادل تمثلاتهم ومعارفهم ». ووحدة
هذه الشروط هي التي تجعل سحر الفن عابرا للثقافات والحضارات.
في
تأكيده على ذاتية الخبرة الجمالية لا ينفي التحليل الكانطي موضوعية الجمال
باعتباره خاصية الأشياء أو الموضوعات. وتفرض النقدية الكانطية أن نحقق في هذه
الخبرة تأليفا بين ذاتية الحكم الجمالي، طالما أنه لا شيء جميل إلا بالنسبة إلى
ذات تحكم وتقدّر، ثم موضوعية الجمال، باعتبار أن الشيء الجميل هو الذي يثير
الأحكام ويستدعيها فيعبر عن ذاته من خلالنا نحن. وإذا ما تحقق أن الجميل لا يبدو
جميلا إلا لمن يرى فيه جمالا محسوسا، بَطُل أن يكون ما اتفق من الأشياء جميلا في
أعين ما اتفق من الذوات. ليست أحكامنا هي التي تنشئ الجمال وتصنعه، وإنما هي تنشأ
فقط بمحضر الجمال.
كما
أكد كانط على أهمية الذوق في الحكم على الجمال: قال كانط :«
الذوق هو ممارسة العبقري المنضبطة ».
علق
جيمينيز على قول كانط بما يلي:«
يُنقذ الذوق الفنون الجميلة من الخزي، الذي قد يلحق بالفن عموما »
قال بركو:«
يتوجب على المرء أن يكون رفيع الذّّوق لكي ينجو من ذوق عصره»
يُلبس
علينا مفهوم التذوّق لتعدّد معانيه ودلالاته؛ فاللفظ يدل على موهبة شخصية يمتاز
بها فرد دون آخر. ويدل على ظاهرة جماعية أو على توجه جماعة معينة وميلها إلى أشكال
فنية تستهويها دون أشكال أخرى. تتيح لنا ملكة التذوّق أن نختار بين أمرين.
فالتذوّق هو إحساس مرهف إزاء الجودة يمنحنا القدرة على خلق حالة من الانتشاء. إن
سلامة التذوق ورهافته في مجال الفن والجماليات تتهيأ بالحواس (بصر وسمع)، ونجد
عوامل عديدة تؤثر في تكييف أذواقنا وتشكيلها بالتهذيب والتجويد والإرهاف والصقل،
وهي عمليات يتداخل فيها المزاج الشخصي والاستعداد الطبيعي والبيئة الثقافية
المحيطة بنا. مما يجعل ملكة التذوق لدى الإنسان تقبل التطور بمثل ما تكون عرضة
للتدهور.
يدل
التذوق على استعداد فطري أو قدرة متيقظة لتمييز الجمال الحسي عن سواه. إنه حسّ
يقترن بشفافية ونفاذ إلى صورة التناسق والتناغم في الأشياء والألوان والإيقاعات
مهما كان مجالها. تتوقف هذه الموهبة في تصور الجميل على تكوين الفرد وعلى البيئة
التي نشأ فيها، ثم على كفاءاته العقلية واستعداداته الروحية.
تتم ممارسة التذوق ضمن شروط لا
تختارها الذات دائما؛ فمبدعو الفن والجمال سواء كان ذلك في ميادين الرسم، النحت،
الموسيقى، الأدب... هم الذين يطرحون تصوراتهم عن الجمال ويفرضونها. وهؤلاء بدورهم
ليسوا بمعزل عن مؤثرات عديدة لعل أهمها، مفعول التاريخ والتلاقح الثقافي بين
الخبرات الجمالية المتنوعة. كل إثراء في جانب الثقافة يتبعه تجديد في الفنون،
وبالتالي تحول في الذوق. وتنشأ الميول الذوقية الجديدة تاريخيا في أطر ضيقة ثم
يتوسع انتشارها على ميادين عديدة لتصبح طرازا فنيا عاما يطبع مرحلة بكاملها. ويلعب
المبدعون دورا رئيسيا في استمالة ذوق عصرهم إلى لون جديد من الفن.
II - الفن و الحقيقة:
1) الفن والمحاكاة:
إن إقصاء الفن من مجال اهتمام الفلسفة عند أفلاطون
له دلالة مزدوجة: دلالة ينحدر فيها إلى أسفل المراتب الأنطولوجية. ودلالة يقترن
فيها بالحواس لا بالعقل. ليس الجميل عنده هو ما يثير الحساسية، إنه فكرة ندركها
بالتأمل، أي بواسطة الجدلية (الديالكتيك) بما هي « فن
القسمة والتجميع » حيث نمرّ من جمال الأجسام إلى جمال النفس،ثم
من جمال النفس إلى فكرة الجمال كحقيقة في ذاتها: عالم المثل هو عالم الحقائق
الأزلية والثابتة، أما عالم الفن فهو عالم النسخ التي تحتل مرتبة أسفل من النموذج
الذي تحاكيه. ولو تأتت للمحاكي موهبة فوق بشرية، فإنه لن يبلغ بمحاكاته درجة
الكمال التي
يقاربها الفيلسوف الحكيم. وتبقى أعمال الفن مجرد مرايا تعكس ظاهر الشئ ولا تطال
منه الماهية. يحاكي الحِِرَفي النموذج الأصل، أما الرسام فإنه يحاكي النسخة التي
صنعها الحِرَفي، ويكون إبداعه هكذا«إنتاجا يبتعد عن الطبيعة درجات
ثلاث ». ولن يكون الفنان مربي البشر ما دام فنه يتيه بنا بعيدا عن الحقيقة، واقرب
بهذا المبدع من الدجّال، يقول أفلاطون:« جميع
الشعراء، ولا أستثني منهم هوميروس، كانوا مجرد محاكين لظاهر الفضيلة، و لسائر ما
عالجوا من مسائل، ولكن ما أبعدهم عن الحقيقة ». إنه
يعتقد أن فن المحاكاة لا يكترث لموضوعه قدر عنايته بإتباع قواعد المحاكاة نفسها.
فهو يحاكي ما لا يعرف تاركا لدينا الانطباع بأنه يعرف، ولا فرق في هذه الحالة بين
خدعة الفن وخدعة السفسطة.
2) الفن تعبير عن
الحقيقة:
أ- هيقل: حقيقة الفنّ تكمن في توقه إلى الفكرة المطلقة:
إذا
كان نقد أفلاطون للفن بسبب طابعه الوهمي والمحسوس، ولبعده عن الحقيقة، فإن
الفن عند هيغل يمثل" الظهور" الحقيقي
للفكرة، إنه نوع من العبقرية اللطيفة حيث تتمكن إبداعات البشر من التعبير عن وعيهم
وثقافتهم. ويجد هيغل صورة الإبداع الحقيقية في الفنون الجميلة التي تقابل
جمال الطبيعة. الفن الجميل هو إنتاج إنساني أسمى مما تنتجه الطبيعة؛ ويقول في هذا:«
إن أسوأ فكرة تخطر بالبال هي أفضل وأعلى من أعظم إنتاج للطبيعة، وذلك يعود تحديدا
إلى أن هذه الفكرة تصدر عن الروح، والروحي
أسمى من الطبيعي ». وكان من نتائج هذا التفوق إبطال المحاكاة في
الفن، إبطالا عبر عنه بما يلي:« إذا جرى الإدعاء بأن المحاكاة
تشكل هدف الفن، وأن الفن يشكل بالتالي محاكاة أمينة لما هو موجود أساسا، فإننا
نجعل إجمالا من التذكر قاعدة للإنتاج الفني. عندها سيفتقد الفن حريته، وقدرته على
التعبير عن الجميل ».
لقد
أقامت عبقرية الفنان خلال مراحل التاريخ علاقات مميزة مع الدين والفلسفة، لتثبت أن
الفكر الإنساني هو جزء من فكر مطلق يقود التاريخ. وما انفك يرتقي نحو الأفضل برغم
تتابع الحروب والمظالم والشرور. ولكن للنسق الهيغلي طريقة عجيبة في تجاوز
التناقضات في العالم وفي الفرد، بين الخير والشر، بين الحقيقي والزائف، بين الجميل
والقبيح، بين الحرية والضرورة، بين الذاتي والموضوعي...فلا شيء يمنعنا من تخطيها
ديالكتيكيا كلما تذكرنا أن الواقعي معقول والمعقول واقعي.يقول هيغل:«
لو أردنا تحديد هدف نهائي للفن، فإنه لن يكون غير الكشف عن الحقيقة، وعن التمثيل
بشكل ملموس ومصور لما يتحرك في الروح الإنسانية. هذا الهدف مشترك بينه وبين
التاريخ، والدين... ».
وتتبين في هذا القول أن الجميل عند هيغل هو واقع ملموس، وينتشر عبر التاريخ. وفي
هذا الانتشار يمر بمراحل أساسية ثلاثة، تعكس مسعى المخيلة للتحرر من الطبيعة:
* مرحلة الفن الرمزي:
وهي تعبر عن بدايات تشكل الوعي لدى الإنسان، وتُظهر أعمال فن العمارة في هذه
المرحلة غلبة الشكل على المضمون لأن الفكر
لا يزال عند عتباته الأولى ولم ينضج بعد.
* مرحلة الفن الكلاسيكي:
وهي تتميز بالتناسب التام بين الشكل والمضمون. فبينما كان الفن الرمزي «
يتأرجح بين ألف شكل وشكل » حسب العبارة الهيغلية، فإن الفن
الإغريقي « يحدد شكله بكل حرية »، تبعا للمفهوم وللمقاصد
التي تحرك الفنان، بل كانت التقنية دقيقة إلى درجة أنها تسيطر تماما على مادتها
وتخضعها إلى تدابير المبدع: ولنا في نحوت الإغريق أبرز مثال على ذلك. إلا أن
التوازن كان من الهشاشة بحيث تهاوى سريعا تحت سيطرة التجارة والمكائد السياسية في
ديمقراطية أثينا المنكوبة حسب التفسير الهيغلي.
* مرحلة الفن الرومنسي: وهي
مرحلة الفردانية الواعية باستقلاليتها وحريتها، والتي عبرت عن نفسها في آثار فنية
مثل التصوير والموسيقى وإبداعات الأدب والشعر خاصة. إنها مرحلة تعكس غلبة المضمون
على الشكل، وتعكس تفوق الفكر النهائي على الطبيعة في الإنسان وخارجه.
ب- الحقيقة في الفنّ كشف عن الواقع و تفعيل لحركة
التاريخ: الماركسيّة
ـ الفنّ في الجماليات الماركسيّة ليس
منعزلا عن حركة التاريخ لذلك فهو وثيق الارتباط بأشكال التطوّر الاجتماعي عبر
العصور و يعكس طبيعة الوعي الاجتماعي الذي هو بنية فوقية تنبثق عن البنية التحتيّة
و الأرضيّة الماديّة للمجتمع التي تحدّد أنماط وسائل و علاقات الإنتاج
القائمة أساسا على الاستغلال الطبقي و صعود طبقة على جماجم طبقة أخرى لذلك يعتبر
التصوّر الماركسي للفنّ أنّ لكلّ مجتمع فنونه و لكلّ طبقة فنونها التي تعبّر
عن واقعها و مصالحها لذلك أكّد ماركس على الطابع الواقعي للفنّ رافضا بذلك الفنّ
الرومنطيقي و فنّ الطبقات البورجوازية (مثل الأوبيرا، أو موسيقى الصالونات، أو فنّ
الرسم التشخيصي لشخصيّات هذه الطبقة...) و ناعتا إيّاهما بالرجعية و
الانحطاط مؤكّدا على قيمة الفنّ الملتزم و النضالي الذي يحاول توعية
الجماهير ببؤسهم قصد تحفيز الثورة الاجتماعية و تحقيق العدالة المفقودة ـ في هذا
الاتّجاه يذهب المفكّر الماركسي ليون تلستوي في كتابه "ما
هو الفنّ ؟" إلى الدفاع عن مبدأ دمقرطة الفنّ مناديا
بضرورة المصالحة بين الفنّان والمتذوّق للفنّ مستبعدا بذلك موسيقى الأوبيرا
المعاصرة بتعلّة أنّها لا تفهم من قبل عامة الناس لذلك لا تكمن الحقيقة في التجريد
أو في الفنّ البورجوازي بل في الفنّ البسيط و الشعبي و الواضح مستبدلا منطق
التعقيد بمنطق السهولة حيث يعتبر أنّ أغنية شعبية في ريف ما يمكن أن تكون
أعظم وقعا من سنفونيات موزار أو مسرحيات شكسبير الفلسفية.
3) الفن بديل عن
الحقيقة:
ـ يعلمّنا المنعرج النيتشي في تاريخ
الفلسفة فنّ قلب المواقع و كذلك فنّ التنسيب الذي قد يفضي بنا إلى إعادة
التفكير في الموروثات الفلسفية القديمة بدءا بالأفلاطونية وصولا إلى رموز
الميتافيزيقا في الأزمنة الحديثة كما يعلّمنا أيضا محاربة "الصنميّة"
و"الفرعونية" (بمعنى التحنيط للحقائق) اللتان
وَسَمَتَا تاريخ الحقيقة في الفلسفة لهذا السبب هاجم نيتشه هذا المفهوم معلنا موت
الإله و موت الحقيقة أو "الحقائق"
كما يروق لنيتشه تسميتها والتي يعتبرها "أوهام نسينا أنّها
كذلك" حيث ما انفكّ العقل الإنساني يبدع الحقائق التي تخارجت على أنحاء
شتّى طيلة تاريخ الميتافيزيقا الطويل مثل "المثل "الأفلاطونية أو"
النفس" أو العقل أو الإله الشيء الذي أفرز إنسانا تابعا للأوهام التي
ابتدعها، أخلاقيّا و معرفيا و وجوديا مدافعا بذلك عن خيار إنساني يحطّ من قيمته و
يبوّبه ضمن خانة العبيد، الشيء الذي رفضه نيتشه بعنف مدافعا عن نظرية "السوبرمان"
العاشق للقوّة و المحتلّ لمرتبة السيادة في هذا العالم، لذلك كانت فلسفة القوّة و
السيادة التي نادى بها نيتشه هي فلسفة في تحرير الجسد و فلسفة في عتق الرغبة و
الشهوة واللذّة دفاعا عن فلسفة الحياة و نضالا ضدّ التاناتوسية و فلسفة الموت...
ـ لا تنفصل جماليات نيتشه عن فلسفة المتعة
لديه لذلك يعتبر أنّ الفنّ قد خدم الجانب الإيروسي و الديونيزوسي
منذ القديم حيث يقول: "لقد علّمنا الفنّ على مدى
آلاف السنين أن ننظر إلى الحياة و إلى كلّ شكل من أشكالها باهتمام و متعة و أن
نستدرج أحاسيسنا هذه إلى الحدّ الذي تصرخ فيه: أيّا تكن هذه الحياة فهي
جميلة" ففي مقابل الحقيقة التي تنمّط و تموضع و تشيّء الوجود، لنا الجمال
الذي يعيد تسريح ما تعطّل من ذواتنا و إحياء الحيوي فينا بعد أن جمّدته العقلانية.
حيث أنّ فلسفة الجمال لديه لا تعتبر الجمال مجرّد أثر أو عمل بل هو كيفية وجود:
حرّية، إقبال، امتلاء، انتشاء (ديونيزوس، زارادشت،... )
ـ يقول نيتشه: "قبل
كلّ شيء يجب أن يجمّل الفنّ الحياة... يجب أن يخفي كلّ ما هو قبيح و يعيد
تأويله" (إنسانيّ مفرط في إنسانيته) فالفنّ من هذا المنظور هو سلاح ضدّ
القبح و ضدّ بشاعة الواقع و ضدّ صنمية الحقيقة وجمودها، و هو بذلك أداة يجب أن
يحتمي بها الإنسان من الثبات و الصنمية أي أنّه مبدأ إبداع و تجديد للتجربة
الإنسانية و تأكيد لمبدأ القوّة ضدّ الوهن الشبيه بنسيج العنكبوت الذي تتّسم به
حقائق الواقع وحقائق الميتافيزيقا التي يحوّلها نيتشه إلى أوهام و خيالات للعقل
الشبيه بنسيج العنكبوت لذلك يقول نيتشه: "الفنّ ولا شيء غير الفنّ، لنا الفنّ
لكي لا تميتنا الحقيقة..." (نيتشه ـ أسطورة سيزيف).
4) الفن ولادة متجددة
للحقيقة
الفن حسب هيدجر مدعو لمجاوزة الميتافيزيقا، وبات مطروحا سلوك طريق آخر
لتصور العالم غير طريق الميتافيزيقا، وخاصة ميتافيزيقا الذاتية التي تأسست على يد
ديكارت، والتي تقدم تصورا للوجود بناء على تمثله كموضوع قابل للتملك. لقد قادتنا الميتافيزيقا إلى نسيان الوجود ولعل الفن يعيدنا إلى مسكن الوجود. لذلك قطع مع فلسفات الجمال السابقة التي سلكت طريقا خاطئا في السؤال
عن ماهية العمل الفني، عبر عنها هيدغير بما يلي:« الأسلوب الذي به تنظر فلسفة الجمال إلى العمل الفني من الخارج
قد ساد بواسطة التفسيرات التقليدية لكل الموجودات ».(أصل العمل الفني).
فما مفهوم الفن عند هيدجر؟ وما الذي يمنحه هذه القدرة على تجاوز
الميتافيزيقا وتلافي نسيان الوجود؟ الفن انكشاف لحقيقة
الوجود، وترك الوجود يوجد (Laisser-Venir) وتحويل الاختفاء إلى تحجب (Aleteia). إن ماهية الفن هي ما يجعل الوجود يظهر، والحقيقة تلتمع وتسطع. إذا كانت ماهية
الفن هي ترك الوجود يوجد، والحقيقة تستطع، فهذا لا يعني قطعا مطابقة الواقع
ومحاكاته.
لا ينبغي البحث عن حقيقة الفن خارج الفن، أي في الواقع. إن حقيقة الفن ترقد داخله، أي داخل حضوره وانفتاحه. الفن انبجاس (Emergence) وظهور (Apparition) لعالم هو عالمه ولحقيقة هي حقيقته.
فالفن هو راعي الوجود وحارسه. والفنان لا يعمل سوى الامتثال لما يمليه عليه نداء الوجود، وينزع منه ما يقدر عليه بواسطة هذا الخط ما بين العالم والأرض. الفن توتر ما بين هذين القطبين. الفنان لا يبدع شيئا من عنده، بل يجد اللغة المناسبة لنداء الوجود، واللغة المناسبة هي الشعر بمعناه الواسع.
لا ينبغي البحث عن حقيقة الفن خارج الفن، أي في الواقع. إن حقيقة الفن ترقد داخله، أي داخل حضوره وانفتاحه. الفن انبجاس (Emergence) وظهور (Apparition) لعالم هو عالمه ولحقيقة هي حقيقته.
فالفن هو راعي الوجود وحارسه. والفنان لا يعمل سوى الامتثال لما يمليه عليه نداء الوجود، وينزع منه ما يقدر عليه بواسطة هذا الخط ما بين العالم والأرض. الفن توتر ما بين هذين القطبين. الفنان لا يبدع شيئا من عنده، بل يجد اللغة المناسبة لنداء الوجود، واللغة المناسبة هي الشعر بمعناه الواسع.
الفن إذا توترا ما بين العالم والأرض،
فما العالم؟ وما الأرض؟
العالم انبجاس وانفراج "Eclaircie" بينما الأرض عَتَمة وظُلمة. العالم ظهور والأرض انسحاب، يستعمل هيدجر الأرض بمعنى الأساس بما هي مسكن يستقر فيه شعب تاريخي أصيل. الفن توتر ما بينهما، وهو مطالب بتقريب العالم من الأرض، والظهور من الاختفاء، والمجيء من الانسحاب. مهمة الفن تأسيس الوجود، ومن خلال إقامة عالم على أرض هي منبع كل الإمكانات ودعوتها لأن تصير مستقرا ومسكنا للإنسان. ولا يقصد هيدجر بالأرض الطبيعة، مادامت هذه الأخيرة خاضعة للحسابية (Calculabité) والموضعة التقنية والعلمية منذ العصور الحديثة، حيث تم إفراغها من أسرارها، وصارت مجالا لسيادة الإنسان الحديث. فالطبيعة قد أفشت كل أسرارها، أما الأرض فهي لا تظهر إلا لتنسحب من جديد، إنها، "اللانكشاف" الذي يستعصى بطبيعته على كل انكشاف." يُوَفَقُ الفن فيما أخفقت فيه الميتافيزيقا ألا وهو تأسيس الوجود وإتاحة السمع لندائه بواسطة تسميته.
العالم انبجاس وانفراج "Eclaircie" بينما الأرض عَتَمة وظُلمة. العالم ظهور والأرض انسحاب، يستعمل هيدجر الأرض بمعنى الأساس بما هي مسكن يستقر فيه شعب تاريخي أصيل. الفن توتر ما بينهما، وهو مطالب بتقريب العالم من الأرض، والظهور من الاختفاء، والمجيء من الانسحاب. مهمة الفن تأسيس الوجود، ومن خلال إقامة عالم على أرض هي منبع كل الإمكانات ودعوتها لأن تصير مستقرا ومسكنا للإنسان. ولا يقصد هيدجر بالأرض الطبيعة، مادامت هذه الأخيرة خاضعة للحسابية (Calculabité) والموضعة التقنية والعلمية منذ العصور الحديثة، حيث تم إفراغها من أسرارها، وصارت مجالا لسيادة الإنسان الحديث. فالطبيعة قد أفشت كل أسرارها، أما الأرض فهي لا تظهر إلا لتنسحب من جديد، إنها، "اللانكشاف" الذي يستعصى بطبيعته على كل انكشاف." يُوَفَقُ الفن فيما أخفقت فيه الميتافيزيقا ألا وهو تأسيس الوجود وإتاحة السمع لندائه بواسطة تسميته.
نفهم مما سبق أن الفن في أرقى صوره شعر. وبما أن الفن حسب تعريف هيدجر هو
تهيئ لانكشاف الحقيقة، فإنها لا تنكشف سوى بتكثيفها. فالحقيقة تكشف نفسها شعريا مما يجعلها قصيدة "Poème" أو لنقل. مكثفة في قصيدة.
إذا كانت الأرض أساس الفن ومسكنه ومستقره الأصلي، فهي ليست شيئا آخر سوى اللغة باعتبارها مسكن
الوجود. يقول هيدجر "اللغة مسكن الوجود
وفي أحضانها يسكن الإنسان" (Lettre-Page74) يحاول الفن أو الشعر تأسيس عالم هو بمثابة إضاءة على أرض هي اللغة البدائية،
ومحاولة صياغتها وحملها على الظهور رغم استعصائها وتمنعها وانسحابها الدائم، وذلك
في حيز إضاءة ولمعان.
يقول هيدجر في مكان آخر "الأثر الفني بدون أدنى شك يصير فعليا ويأتي للوجود بواسطة حركة الرسم والكتابة هو انفتاح الحقيقة ذاتها كدائرة أوسع تحتوي سلفا الأثر الفني والفنان معا (Chemins Page 195) ".
ويضيف "أن من يخط الدائرة الأوسع ليس الفنان وإنما الحقيقة ذاتها في انكشافها" (Chemins Page 195). وحتى إن سلمنا بمقولة الإبداع، فليس الفنان هو المبدع، بل الحقيقة هي المبدعة، وتبدع أثناء انكشافها. حقا إن الأشكال الفنية تتوقف على الفنان لإخراجها في شكل عمل أو أثر فني، وتجد إرهاصاتها ومقدماتها في الحقيقة التي تظهر وتختفي. فالحقيقة تؤسس الفن والفن يستجيب لندائها. الحقيقة عهدة في يد الفنان، والفنان مرتهن لها. توجد علاقة تأسيس متبادل. الفنان لا يعمل سوى على النظم والتركيب لما هو قابل للنظم والتركيب.
يقول هيدجر في مكان آخر "الأثر الفني بدون أدنى شك يصير فعليا ويأتي للوجود بواسطة حركة الرسم والكتابة هو انفتاح الحقيقة ذاتها كدائرة أوسع تحتوي سلفا الأثر الفني والفنان معا (Chemins Page 195) ".
ويضيف "أن من يخط الدائرة الأوسع ليس الفنان وإنما الحقيقة ذاتها في انكشافها" (Chemins Page 195). وحتى إن سلمنا بمقولة الإبداع، فليس الفنان هو المبدع، بل الحقيقة هي المبدعة، وتبدع أثناء انكشافها. حقا إن الأشكال الفنية تتوقف على الفنان لإخراجها في شكل عمل أو أثر فني، وتجد إرهاصاتها ومقدماتها في الحقيقة التي تظهر وتختفي. فالحقيقة تؤسس الفن والفن يستجيب لندائها. الحقيقة عهدة في يد الفنان، والفنان مرتهن لها. توجد علاقة تأسيس متبادل. الفنان لا يعمل سوى على النظم والتركيب لما هو قابل للنظم والتركيب.