في تنسيب قدرة الأنظمة الرمزية

في تنسيب قدرة الأنظمة الرمزية
ابرهيم قمودي
إن القيمة الفلسفية لتنسيب قدرة الأنظمة الرمزية على تحقيق تواصل إنساني تتمثل في إبراز حدود كلّ هذه الأنظمة و بالتالي إبراز العوائق التي تحول دون التواصل، خاصة و أن الوقوف على سلطة الأنظمة الرمزية على الذات و الوعي بعوائق التواصل من شأنه أن يكشف عن أفق التواصل الحقيقي أملا في وعي الذات بأنها لا يجب أن تستعمل الأنظمة الرمزية كما لو كانت حواسيب تستعمل رموزا و أنظمة هيكلية، ذلك أن الذات لها القدرة على توليد المعنى من جهة كونها فكر، و خصوبة الدلالات و تعدّد المعنى يفتح المجال أمامها للإبداع خاصّة و أنّ الوعي بشروط التواصل قد يمكننا من تلطيف سلطة الأنظمة الرمزية علينا و بالتالي التحرر من سلطانها.
إن الفلسفات الناقدة للمجتمعات الاستهلاكية و ما ألحقته من اغتراب بالإنسانية، هي فلسفات تقف على أنقاض الحداثة لفضحها و لكشف فشلها كمشروع في إثراء الإنساني و لاجتراح الكونية المزعومة التي حققتها. و من هذا المنطلق سعى هوركهايمر M.Horkheimer و أدورنو T.Adorno إلى فهم المفارقة التي يفتح عليها التقدم التقني، مفارقة تتمثل في انبجاس أشكال البربرية التي عرفها القرن العشرين، بربرية في أحشاء الحضارة المتطوّرة، إنهما يحاولان الكشف عن التباس العقل، إذ يلاحظان أن السيطرة على الطبيعة مرتبطة ارتباطا وثيقا بتحرّر النوع الإنساني، إذ يتحرّر الإنسان من الحاجة الطبيعية. و لكن هذه الحركة الأوّلية و الأولى لسيادة الذات التي تتحقق عبر السيطرة على الطبيعة كمشروع للحداثة جعلت من وجود الذات وسيلة للهيمنة على مجموع العالم و وسّعت من هذه الهيمنة لتشمل الإنسان أيضا. لذلك يقرّ هوركهايمر و أدورنو أنّ نتائج هذه السيادة تتمثل في كون النسق الثقافي الذي محوره البضاعة أدّى إلى استعباد الإنسان، وهكذا فإن علاقات الاتصال اضطربت كثيرا في المجتمعات الحالية تحت تأثير الأمراض الاجتماعية الناتجة عن فرط التقدّم التقني ولا يتعلق الأمر فقط بمشاكل اللاتساوي المادي الذي يتعلق بالدخل وبظروف الحياة بل يتعلق الأمر بعدم الاعتراف  و بإهانة الفئات غير المحظوظة الذي غدا صراعها اليوم صراعا من أجل الاعتراف بها، صراعا ضد اللاعدل الذي تعاني منه وصراعا من أجل تحسين ظروف العيش. ذلك أن العنف الرمزي في الحضارة الصناعية دائم الحضور و يشكل بعمق كلّ أصناف الهيمنة.
و العنف الرمزي عند بورديو P.Bourdieu هو ذلك العنف الذي يولد التبعية التي لا تُرى، بالاستناد إلى انتظارات جماعية و اعتقادات اجتماعية أنتجتها و رسختها وسائل الاتصال، إذ أنه يستند إلى نظرية في إنتاج الاعتقادات. و في هذا العنف الرمزي تتجلى السلطة الرمزية باعتبارها سلطة تكوين المعطى بمجرد التصريح به، سلطة الفعل في العالم عبر الفعل في تمثل العالم، و تتحقق في علاقة تنتج الاعتقاد في شرعية كلمات أو شرعية الأشخاص الذين ينطقونها. في حين أن مقومات التواصل المتمثلة في الاعتراف بالآخر و بحقه في الاختلاف و التعارف المتبادل الذي يجعل التفاهم ممكنا، مبنية على معياريْ الحقيقة و الحرية كقيم، و هي بالذات القيم التي داستها وسائل الاتصال الموغلة في التقدم. فما يتواصل الناس حوله اليوم في إطار غزو الوسائل التكنولوجية لكلّ الفضاءات الإنسانية هو "الخطاب الكاذب" الذي تتناقله وسائل الإعلام، هو هذا الخطاب الذي لا يؤدي إلاّ إلى اغتراب الإنسان عن مشاكله الأصيلة و قضاياه الوجودية، عبر تحويل موضوع التواصل إلى بضائع يتمّ تقديمها بشكل يغري الناس من أجل تحقيق الربح، فالعملية الاشهارية مثلما بين ذلك ماركوز H.Marcuse تقوم بغسل الدماغ و بتجميل القبح، مما يفضي إلى فرض مواقف و عادات على الناس و يُلهيهم عن مشاكلهم الحقيقية، إنه الاغتراب الذي يميز الواقع الإنساني اليوم.
ذلك أن نمط الحياة المعاصرة يتسم بالتكالب على المصالح و بتقديس التقنية و منتجاتها الناجعة في غير اكتراث بالبعد الثقافي و الروحي للوجود الإنساني. لقد أطردت الثقافة تحت وقع النزعة المادية. و لا يتعلق الأمر بالنسبة إلى ميشال هنري M.Henry بانحطاط القيم الفنية و القيم الأخلاقية و القيم الدينية و القيم  الثقافية بل بإعدامها، لا يتعلق الأمر بأزمة في الثقافة و لكن بصيرورة تحطيمها. إذ نلاحظ اليوم تراجعا للإنساني في كل المستويات تحت تأثير وسائل الاتصال و خاصة وسائل الإعلام التي تنشر خطابا رديئا يتمثل في خطاب «مقدمو البرامج التلفزية و السياسيون و المغنّون و الأوغاد و العاهرات و أبطال شتّى الرياضات و المغامرون بشتّى أصنافهم»، أولئك الذين هم اليوم «الكهنة الجدد، المفكرون الحقيقيون لزماننا»، و بكل اختصار: «إننا ندخل في البربرية» تلك فاتحة كتاب «البربرية» لميشال هنري. و التشخيص الذي يقوم به كلّ من هوركهايمر و أدورنو لواقع الإنسان في المجتمعات الاستهلاكية المريضة يبرز انعزالا مزدوجا للإنسان، انعزال روحيّ وانعزال مادي. انعزال روحي يتمظهر في غياب التواصل و العلاقات الحميمية بين الناس في إطار تنظيم عقلاني للعمل لا يهتمّ بما هو إنساني بقدر ما يسعى إلى تحقيق الربح الأوفر. و داخل مفارقة تطوّر وسائل الاتصال و عزلة الإنسان يبرز هوركهايمر و أدورنو مفارقة انعزال الفرد داخل المجموعة، فالموظف في إطار التنظيم للجديد للعمل يعمل مع الجماعة في فضاء فسيح و لكن فضاء تغيب فيه الحوارات الخاصة حيث يُمنع العامل من إضاعة الوقت فينعزل داخل الجماعة ذاتها. و هذه العزلة الروحية مضاعفة بعزلة مادية، عزلة ماديّة تتجلى في أبسط أشكالها في استبدال وسائل النقل العمومية أين يكون الاحتكاك بين الأنا و الآخر فضاء للتحاور و التبادل بوسائل نقل عصرية و أكثر تطورا تتمثل في السيارات الخاصة التي تقضي على إمكان اللقاء بين الناس و الحوارات الوحيدة الممكنة داخل السيارة هي حوارات متعلقة بالمصلحة العملية.
وهكذا يبدو أن تعدّد وسائل الاتصال وتقدمها، و عوض أن تساهم في تفعيل الحوار بين الناس وتدعيم التواصل، أدت عكس ذلك إلى شلّ التواصل خاصة و أن تنظيم المجتمعات وفق النموذج العقلاني الذي سهّل على الإنسان السيطرة على الطبيعة مكن السلطات من السيطرة على الإنسان و تحويله إلى مجرّد بضاعة و موضوع يتحقق الربح على حسابه. و ليس غريبا في ظل غياب الحقيقة التي عوضها الكذب الإعلامي، و في غياب الحرية التي عوضتها تبعية الإنسان للأشياء المادية أن يتعطّل التواصل. و العدالة الوحيدة التي تحققت في الحضارة ليست عدالة اجتماعية و لا هي عدالة سياسية، و إنما هي عدالة لا تساوي كلّ الناس و تماثلهم في وضعية العزلة التي أنتجتها وسائل الاتصال

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم