الثقافة الكونية عند هيقل


الثقافة الكونية عند هيقل
ابراهيم قمودي
         إن الكوني يبدو في الفلسفة كلمة مفتاح فما أن تبدو أطروحة ما قابلة للطعن على ضوء الكوني يتمّ دحضها نهائيا، وما أن تبدو أطروحة أخرى قابلة للدفاع من جهة الكوني يتمّ تحليلها. لكن هذه الكلمة المفتاح التي هي سند الوضوح والتميّز هي في ذاتها مفهوم غامض ولا يخلو من مفارقات. ولا يتعلق الامر بالنسبة إلينا بالتظنّن على الكلّي، بما أنّ من يتكلم الكوني يتكلّم الفلسفة، ولكن أن نرفع مع هيغل المفارقة الأولى في الكوني، فالكوني يُقال كفردي وليس هناك كوني قادر على أن يأخذ شكل الكلّ بل إنّ الكلّ ذاته قابل للتعداد وبالتالي لا يخلو من الفردي وربما ذلك ما جعل "هيغل" يقرّ :أنّ الكوني ليس إلاّ عملية تضمين للفردي" ففيما تتمثّل علاقة الكوني بالفردي؟ وما هو دور المثقف في تحقيق الكوني؟
إنّ الفرد بالنسبة لـ"هيغل" لا يتحرّر من طبيعته المباشرة إلاّ عبر اغتراب الذات المشكّلة وبالتالي يمكن له تحقيق اعتراف الآخرين به في بعده الإنساني النوعي ككائن ثقافي قادر على تحقيق كلّ أنواع الغايات، ذلك أنّ الثقافة في توجّهها المطلق هي عند هيغل التحرّر، هي فعل التحرّر الأرقى، فهي نقطة التحوّل المطلق نحو الروحاني السامي إلى شكل الكونية، فبفضل الثقافة تستطيع الإرادة الذاتية اكتساب الموضوعية داخل ذاتها، فتكون قادرة وجديرة بأن تحقّق الواقع الفعلي للفكرة، ذلك أن الإرادة الفردية لا تتوصل إلى تحقيق الحرية إلا إذا تعالت على الرغبات والدوافع الفردية، وبالتالي إلا إذا احترمت حركة السموّ المحايثة التي تجعل هذه الرغبات والدوافع الفردية متوسّطة في ذاتها، لا عبر خضوعها الخارجي للمطلب الأخلاقي مثلما هو شأن الإنسان الجاهل، بل إن الإرادة تحقق الحرية عبر تحرير العنصر الكوني والعقلاني الذي تحتويه من جهة كونها التمظهر الذي في ذاته للإرادة الحرّة، وذلك يتحقق في سيرورة الثقافة. ذلك أنّ دوْر الثقافة باعتبارها سيرورة مشكلة للطبيعة الخارجية عبر العمل ومشكلة في ذات الوقت للطبيعة المباشرة للإنسان، يتمثل بالنسبة لهيغل في توسّع الخصوصي والكوني. فالفرد لا يتحرّر من طبيعته المباشرة ولا يتأنسن إلاّ بفضل العمل إذ أنّ العمل يجعل الفرد خاضعا لنظام خارجي مغاير لنظام تحطيم الموضوع الذي تنحى إليه الرغبة الطبيعية للفرد، فالعمل كسلْبٍ جزئي لموضوعه لا يُموْضعُ الماهية الكلية والنوعية للذات الإنسانية إلا عبر تمكينها من تمثل ذاتها في مسافة مع الرغبات والحاجات الخاصة. و هذا يعني أنه، بالنسبة لهيغل، هناك قطيعة وتواصل في ذات الوقت بين الطبيعة والثقافة، والعنصر المحرّر الذي يحتوي عليه النشاط الغائي للعمل يمنع من تجذير الحرية في المباشرن يمنع دمج حالة الطبيعة و حالة الثقافة، ذلك أن الحاجة الطبيعية و اشباعها المباشر ليست إلا الحالة الروحية في الطبيعة، و بالتالي حالة غياب الحرية، فالحرية لا توجد إلا في انعكاس الروحي على ذاته. وهذا يعني أنه بالنسبة لـ"هيغل" يمثل الفكر العنصر الخاص بالكوني إذ لا شيء يصل إلى مرتبة الكوني إذا كان في شكل موضوع،فالكوني هو لا موضوعي جوهريا ولا يمكن تحققه إلا في إنتاج وإعادة إنتاج صيرورة الفكر، فالذات تستدعى في كلّ مرة كفكر في لحظة الإجراء أين يتكون الكوني. والكوني بهذا المعنى هو الذي يحدّد مواقف الذات وهو ما يعني أن الجدلية المركزية للكوني عند هيغل تتمثل في جدلية الجهوي كذات وجدلية الشامل كإجراء لا متناهي،وهذه الجدلية هي جدلية الفكرة ذاتها، ولذلك ليس هناك أي تغيير كوني ممكن للخصوصية كخصوصية. ومن هذا المنطلق الهيغلي يجب الاحتراس من الأطروحات الدارجة اليوم والتي تقرّ بأن وصفة الكونية الوحيدة تتمثل في احترام الخصوصيات لأن هذه الأطروحات تصطدم دائما بخصوصيات قد يعتبرها رُوّاد هذه الأطروحات كخصوصيات لا يمكن التسامح معها، خاصة وأنّ الإقرار بأن احترام الخصوصيات هو قيمة كونية يميّز قبليا بين خصوصيات جيدة وخصوصيات رديئة، فنقول مثلا بأن خصوصية ثقافية هي رديئة إذا لم تكن تتضمن في ذاتها احترام الخصوصيات الأخرى، و من هنا يجب الإقرار بضرورة التخلي عن الخصوصية إذا ما رمنا الكونية، وهو ما يعنيه هيغل عندما أقرّ "إن الإنسان المثقف هو الذي يحسن ختم أفعاله ببصمة الكلية، وهو الذي تخلى عن خصوصيته بحيث أصبح يتصرّف وفق مبادئ كلية". وهذا يعني بأن الكوني لا يتقدّم كتقنين للخصوصي أو للاختلافات ولكن كفرادة تملصت من المحمولات الهووية رغم كونها تشتغل في هذه المحمولات وبها.
         ولكن ماذا لو نزعت فرادة للكوني؟ هل يمكن أن نقول عندها أن الكوني واحد بالنسبة للكلّ؟ هل يمكن أن نقول عندها أن الانخراط في الكلي لا يرتبط بأيّ تحديد خصوصي؟ أليس معنى التاريخ عند هيغل مرتبطا بمعنى الارتقاء والتقدم لما هو أفضل؟ ألم يعبر هيغل عن كون الروح بما هي الثقافة الإنسانية تتجسد في التاريخ المتصل بالشعوب وأن هذا الروح يتجسّد في الشعب الألماني؟ ألا يتنزّل هذا القول في موقف شعوبي؟ وإذا كان هيغل في تصوره للتاريخ قد اعتبر تحقق روح المطلق هو نهاية للتاريخ ألا يكون قد شرّع لمفكّر مثل "فوكوياما" بإعلان نهاية التاريخ في انتصار الرأسمالية على الاشتراكية التي تمظهر فشلها في تفكك الاتحاد السوفياتي؟ علينا إذن أن نميز بين كونية حقيقية تؤسس الإنساني  وأخرى ليست إلا خصوصية مدعية للكونية، خصوصية تتقدّم في شكل كونية تمثل خطرا على ما هو إنساني، وإذا كان الانتصار للخصوصية وانغلاق الهوية على ذاتها يقضي على الإنساني فإن، و بالتوازي، انفتاح الهوية نحو الهيمنة، وهو ما يتجلى في مفهوم العولمة، هو أيضا خطر على الإنساني.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم