المقدس

المقدس
إنالمقدس هو قبل كل شيء تجربة انفعالية، وهو تجربة تنحو إلى أن تتواصل فيتمثلات، و في صور، و في مقولات ثقافية، و في الممارسة، و في مؤسساتدينية. و بهذا المعنى فإن الدين ليس إلا وضع تجربة المقدس في مؤسسة، أوإن شئنا مقدس مؤسساتي يوضع في علاقة بمقدس مؤسس للتجربة ذاتها. و يجبأن نلاحظ أن تجربة المقدس هي ضرب روحاني من المعانقة للعالم، إنها حدسمؤسس لنوع من الحضور الغامض لشيء يتجاوز الحدود المعتادة للتجربةالإنسانية، و هذا الشيء مغاير تماما للدنيوي و يفلت من ظروف التجربةالمدنسة رغم كون ما فيه و ما به يتمظهر المقدس هو المدنس أوالدنيوي.
          إن المقدس هو خاصية لا تمتلكها الأشياء من جهة كونها أشياء، و لكن هو خاصية تضفيها عليها عناية ملغزة،  فهو خاصية بعض الأشياء ( كأدوات العبادة : السجاد، عصا الراهب...)، وبعض الناس ( الملك، الراهب..)، و بعض الأمكنة (المعبد، المسجد...)، و بعض الأوقات (يوم الجمعة، يوم السبت، أيام الأعياد...). لذلك يمكن أن نحدد المقدس باعتباره واقعا مطلقا يتجاوز الواقع الإنساني و الأرضي. فالمتدين يتوجه إذن إلى العالم اللاإنساني للقيم المتعالية، و هو ما يتضمن قطيعة مع العالم الأرضي. و هذا يعني أن الدين يرتبط  بثنائية المقدس و المدنس، يقول ميرسي إلياد :«إن كل التحديدات المعطاة إلى حدّ الآن للظاهرة الدّينية، تحتوي على قاسم مشترك : فكل تحديد يقرّ تناقضا بطريقته، بين المقدس و الحياة الدينية و المدنس و الحياة الدنيوية»، فبالنسبة إليه تفترض التجربة الدينية دائما الاعتقاد بكون شيء ما يأتي من العالم الآخر، و بالتالي مخالف للتجربة المعتادة التي تميز المدنس و يتمظهر. و هذا الشيء المخالف تماما هو المقدس الذي يشارك ضرورة في التعالي.
          لكن إذا كانت هناك قطيعة بين العالم الأرضي و العالم الآخر، فكيف يدخل المؤمن في علاقة مع العالم المقدس؟
إن ذلك يتم بفضل الرموز، فالرمز يسمح بالانفتاح على الواقع المطلق، لأن شيء ما عندما يصبح رمزا يمتلك معنى مغاير، إذ يشير إلى شيء آخر غيره. لذلك يمكن أن يكون الرمز شيئا ما أو أسطورة ما أو طقسا ما، يقود الإنسان إلى اكتشاف بعد آخر هو المقدس الذي يفلت بالماهية من كل لغة و ذلك ما تشهد عليه تمثلات الفن الأكثر بدائية و الأكثر تعقيدا، مما جعل الأنتروبولوجيا الدينية تدرس كل أصناف المحاكاة التي تمكنها من تناول المقدس كوحدة حية عن طريق البحث عن النماذج الثقافية و الإنسانية اللاواعية التي تقف وراءها، خاصة و أن الدين هو نسق يعبر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز و الأسطورة. و هذا يعني أن الرمزية الشعائرية و الأيقونية تحيلنا دائما إلى نموذج-مثال أسطوري، فهي تحليل رمزي لنموذج إلاهي، لفعل أول مؤَسِّس، فعيد الأضحى في الإسلام مثلا، يحين حادثة النبي إبراهيم مع ابنه إسماعيل، وهي رمزية تحيل إلى معاني مختلفة : الموت، البعث، قدر الإنسان...إلخ إذ تقيم تواصلا أسطوريا بين مختلف مستويات الواقع الكوني و بعض ضروب الوجود الإنساني. و بما أن الرمز الديني يمكن المؤمن من إقامة علاقات بين الوقائع المختلفة فإن وحدة العالم يمكن أن تدرك عبره فيجد المؤمن مكانه في العالم و يضفي معنى على قدره.
          و إذا كانت تجربة المقدس مرتبطة بالقدرة الرمزية التي للإنسان و التي جعلت اللغة و الفن و كل أشكال التعابير الإنسانية الأخرى ممكنة، فإن كل تراجع للفكر الرمزي يؤدي بالضرورة إلى تراجع قدرة الإنسان على تجربة المقدس، ذلك أن كل تدنيس يقتل الروحاني في الإنسان. و تراجع الفكر الرمزي يمكن أن يتخذ عدة أشكال، فإما أن ينتصر الإنسان للفكر المنطقي، مثلما هو الشأن في المجتمعات الغربية، و يحيل الفكر الرمزي إلى العلم البدائي، أو إلى عالم الأطفال و الشعراء أو حتى عالم المجانين، أو مثلما يكون عليه الحال في بعض الإضطرابات الإجتماعية و النفسية، و إما أن يسقط الإنسان في التعصب حيث تغيب الخاصية الرمزية للرمز، فالرمز الذي من المفروض أن يحيل إلى العالم الآخر، عالم المقدس، يعتبر هو ذاته هذا العالم الآخر، و يكف على أن يكون أيقونة و يصبح معبودا فيتولد العنف و الإرهاب و الإرهاب المضاد.        

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم