حدود الصورة


حدود الصورة

يلاحظ "رولان بارت" أن ما يميّز مجتمعاتنا المعاصرة هو تنوع أنظمة التواصل وكلها أشكال تعبيرية لسانية أو غير لسانية وتمثل الحامل الأسطوري للتواصل المعاصر، غير أن هذا الجمع بين الأنظمة التواصلية يفسح بالنسبة إليه مجالا لكشف القدرة التأثيرية للأشكال التواصلية، إذ هي أشكال لها وظائف دالة ضمن نطاق الوضعية التي ترتبط بها داخل نسيج العلاقات بين الأفراد والمجتمعات أين تتكون علامات تجمع بين مفهوم وصورة أو بين شكل ومعنى و تعبر عن نسق تواصلي، و الصورة بالنسبة إليه لا تخلو من الإكراه البنيوي الذي يميز اللغة، بل إن الصورة «آمرة أكثر من الكتابة» بما أنها تفرض الدلالة دون تحليل و دفعة واحدة.
و في نفس الإطار يعتبر جون بودريار J.Boudillard  أن كل الوسائط تمثل رسائل تُخضِع المشاهد للإكراه والقصر، فالإنسان المعاصر محكوم بنظام علامات تمثل بدائل عن الواقع ذلك أن "المضمون يحجب عنا في معظم الأحيان الوظيفة الحقيقية للوسيط: فهو يقدّم نفسه كرسالة" حيث يكون استهلاك الرسالة هو ذاته الرسالة، رسالة تمجيد المضمون بوصفه علامة و هو ما يصح على كل الوسائل الإعلامية التي غدت الصورة علامتها المميزة.
وهذا التراكم الهائل للصور كبضاعة للاستهلاك جعل غي ديبور Guy Debord يتحدث عن المجتمعات المعاصرة باعتبارها مجتمعات الفرجة إذ تمثل الفرجة عنده رؤية كلية للحياة. والفرجة هي أساسا ترسانة من الصور المؤثرة على المشاهد وهي ظاهرة تشمل مختلف المجالات المعنية بالاستهلاك أي مختلف المجالات الخاصة بالوجود الإنساني مما جعل ديبور يتحدّث عما سمّاه بالاستعباد المعمّم الذي يمثل وجها من الاغتراب والاستلاب الذي يشمل كلّ الناس دون تفرقة، الصغير والكبير، الفقير والغني، الرجل والمرأة، وهذا الاغتراب له قدرة تأثيرية بالغة تُستمدّ من الأساس الاقتصادي بحيث تُطوّع الصورة والكلمة لتشكيل الوعي الزائف، إنه تأثير يغري الجُموع صنعه مخططو الاقتصاد الليبرالي للتحكم في سلوك الناس وإبعادهم عن حياتهم الواقعة عبر التشبه بسلوك المشاهير والنجوم الذين يتصدرون الفرجات الاشهارية. وبقدر ما تعتمد الفرجة أنواعا من الصور الباهرة وأشكال الترفيه المغرية، يتحوّل الإنسان المستهلك للسلع إلى مستهلك للأوهام، والصورة التي كانت في الأصل تبلّغ الدلالة وتحدث التواصل تحولت إلى عنصر تأثير مفسد للتواصل الحقيقي ومعطل للحوار بين الذوات.
        فالصورة تجعلنا نردّ الفعل بنوع من الاسكيمة الحسية الحركية، ردّ فعل مشرط، إذ بواسطته تتولّد ردود أفعال عضلية في الجسد، وهي ردود تُرى على الوجه، إلى درجة أننا نتبيّن مباشرة ما تنتجه صورة جسدنا في الآخر، الانجذاب أو الشهوة، اللامبالاة أو حتى الرفض، ويجب أن نلاحظ أن ردّ الفعل هذا يكون مصحوبا بإحساس، إحساس لا نفقد واقعيته أبدا ولا نشكّ في حقيقته قطّ بما أن الإحساس الذي هو مكابدة الذات لذاتها ليس في حاجة إلى شيء ليرتقي إلى يقين واقعيته وهذا يعني أن سلطة الصورة تُستمدّ أوّلا من جهة كونها تستند على واقعية الإحساس الذي نولّده إذ لا أحد يشكّ في ما يبصره. وهكذا فإنّ الوعي المباشر يقدّم حكما مسبقا حول تطابق بين التمثل الحسي وكيان الشيء الذي يولّد هذا التمثل، تماما كما لو لم يكن هناك فرق واضح بين الانعكاس والنموذج، بين الأصل والصورة كإعادة إنتاج بالتقليد.
          ومن هذا المنطلق فإن سلطة الصورة تكون كبيرة على الحسّ المشترك خاصة وأنّ الصورة تعكس رغبة من قام بأخذها أكثر مما تعكس الواقع ذلك أن سلطة الصورة تستند إلى ميل الإنسان إلى تحويل حاجاته إلى معرفة أي الاعتقاد في ما يريد رؤيته، ومن هنا يتأتى استخدام الصور كأداة في الخطاب الديني أملا في خلق الخلط بين واقع الصورة والواقع الذي تتمثله وكذلك الشأن في الحروب الإعلامية الموجهة إيديولوجيا.
          يتعلق الأمر إذن بقوة خاصة، بوظيفة تعطي للصورة قدرة فعلية على توليد ردّ فعل مباشر و فعل منعكس شرطي، والفعل يقتضي معرفة نعتبرها يقينية أو على الأقل محتملة بحيث لا نضعها موضع شكّ على الأقل في لحظة الفعل. وهذه السلطة التي للصورة جعلت ريجيس ديبراي R.Debray يقسم تاريخ الإنسان والحضارات إلى ثلاث عصور محكومة بنُظُم سلطوية متناسبة مع الشكل الذي تتخذه الصورة في كلّ عصر:
1 عصر الخطاب رمزه أفلاطون و شكل صورته هو الصنم الذي يتطلب الرهبة، والنظام السياسي الذي يقابله هو الثيوقراطية.
2 عصر الأشكال رمزه ديكارت وشكل صورته الفن الذي يتطلب الحياة ونظامه السياسي يسميه ديبراي الايديوقراطية أي سلطة الفكر.
3 والعصر الثالث هو عصر الشاشة رموزه "الكهنة الجدد"، على حد عبارة ميشال هنري، الذين يمثلهم المشاهير، وشكل الصورة هو الصورة البصرية التي ترتبط بالمصلحة أمّا النظام السياسي الذي تولّده فهو "الفيديوقراطية".
          هذا يعني أن كلّ حضارة بالنسبة لـديبراي تنتج صورا هي مجال وسائطي يشكل وعيا زائفا، نظاما «يمارس قيادة صارمة للعقول إلى درجة لا يتمّ التفكير فيه باعتباره كذلك»، ذلك أن كلّ نظام سلطة يقدّم نفسه على أنّه بديهي ومن هذا المنطلق يرى ديبراي  أنّ الصورة التي ترينا العالم هي بالذات ما يمنعنا من النظر إليه.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم