إصلاح موضوع :العدالة والإنصاف

إصلاح موضوع :العدالة والإنصاف
                                                                        زهير الخويلدي

مقدمة:
إن مأزق اللامساواة بين الأشخاص والطبقات والثقافات والدول هي التي تثير انزعاج الإنسان من ذاته وان عار الفوارق الاجتماعية هو الذي سبب الإعراض عن القيم الأخلاقية والنظر باشمئزاز إلى القوانين السياسية وان الاختلاف في القدرات الطبيعية والملكات الإدراكية هو الذي يجعل الفرد يتحدى القدر وينتفض ويطلق العنان لروح التساؤل ويتحرك عنده هاجس التفكير.
إن القلب ليدهش والفكر ليذهل عندما يلقى على مسامعه مثل هذه الحقيقة الدامغة:"أكبر ثلاثة أغنياء في العالم يملكون ثروة تزيد على مجموع الناتج الداخلي الخام لربع دول العالم بينما هناك ثلاثة مليارات شخص يعيشون بأقل من دولار ونصف يوميا ويعاني مليار شخص من فقر الدم ولا يحصل ثلث البشرية على ما يكفيهم من ماء ولا يتناول خمس أطفال العالم ما يلزم من وحدات حرارية".
قد تزداد درجة الحيرة والاندهاش عندما يرصد الفكر  التناقض البادي للعيان بين حالة الإنسان في الواقع المعاش الفاقدة لمقومات الإنسانية والمداهم بالفقر والمرض والجهل والقهر وبين ما يؤكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من أن:” لكل شخص الحق في مستوى معيشة يؤمن له الصحة والرفاه”، فهل هذه اللامساواة خاصية طبيعية أم أنها بنية علائقية مكتسبة؟ ما طبيعة العلاقة بين العدل والإنصاف؟ ألا يظهران أنهما مفهومان متجاوران أم أنهما في العمق متفارقان؟ وهل من العدل أن نعامل أشخاص متفاوتين بالطبيعة بنفس القيمة؟ أم أنه يجب أن نعطي لكل ذي حق حقه ونعلن أنه لكل حسب مساهمته في الخير العام؟ ماذا ذنب الذين لم تتوفر لهم فرص لإبراز قدراتهم ولم تتح لهم نفس الحظوظ؟ ألا ينبغي أن تتدخل العدالة الاجتماعية لإزالة اللامساواة والفوارق الطبيعية وأن نعوض مبدأ “لكل حسب مجهوده” بمبدأ “لكل حسب حاجته”؟ لكن ماذا نفعل للرغبات غير المتناهية وللحاجيات غير قابلة للإشباع؟ ألا يمثل اللهث وراء الاستهلاك والرفاه والمصلحة الشخصية عائقا أمام تحقيق العدالة؟ ألا يجب عندئذ أن نلتجئ إلى مبدأ الإنصاف من أجل الإفلات من قبضة مبدأ المنفعة العامة وللتحرر من البراغماتية المقيتة؟ كيف نحول الإنصاف إلى مبدأ توجيهي قادر على تأسيس العدالة المفقودة؟
إن الغاية من دراسة الإنسان الأصلي ليس التوقف عند معرفة أشكال الظلم والتعسف والتفاوت فقط والاعتراف بأن واقع اللامساواة هو أمر لا يمكن تبريره أو تفاديه بل العمل بكل جدية على تجهيز العدة المفاهيمية من معاني الحق والخير والجمال قصد استنباتها في الفضاء الإتيقي والبحث عن شروط مادية يصبح فيها حلم مدينة الفارابي الكاملة واقعا ملموسا. فكيف ارتبط مفهوم العدالة في بادئ الرأي بمفهوم المساواة؟
1-     من المساواة إلى العدالة :
العدالة في معناها اللغوي هي إعطاء لكل شخص حقه حسب القانون المدني مع ضرورة احترام حقوق الآخرين، وهي بهذا المعنى تعارض مبدأ الأنانية الساذج الذي يزعم لنفسه حق امتلاك كل شيء، غير أنها قد تعرف بكونها التقسيم الصحيح والدقيق للخيرات والثروات على الجميع عن طريق قاعدة النسبية. يترتب عن هذا التعريف أن العدالة توجد في وضعية متناقضة مع الحق. لكن قبل كل شيء ماذا نعني بالحق؟
يختلف الحق عن القانون لأنه يتحرك في مجال الإمكان والحرية بينما القانون يتحرك في مجال الضرورة والإكراه ويعرف الحق كذلك بأنه قوة طبيعية مشروعة يستعملها الإنسان سواء في فعل شيء ما أو في سعيه للمحافظة على بقائه وعادة لا تتماهى هذه القوة مع الحق إلا إذا مورست في إطار ماهو عادل. تبرز هنا صعوبة أولى والتي تمثل ضغطا حقيقيا على كل الفكر الحقوقي والسياسي والأخلاقي وتتمثل في العلاقة الإشكالية التي يمكن أن تقوم بين العدالة والحق، فهل يمكن تأسيس العدالة انطلاقا من احترام الحق أم بالارتكاز على القانون؟ وأية علاقة ممكنة بين الحق والقوة في الطبيعة وفي المجتمع؟
أن نؤسس القيم بالاعتماد على الطبيعة سواء مباشرة من خلال المنفعة أو بشكل غير مباشر بالانطلاق من الأحاسيس والأهواء هو أن نسلب هذه القيم خصائصها ومميزاتها الأساسية وأن نرجع أصول كل مبادئ الحياة الأخلاقية إلى عالم التجربة العمياء والميولات الذاتية المتضاربة والعدالة كقيمة إذا كانت مستمدة من القوة الفيزيائية وتترجم لغة الأهواء فإنها لم تعد تشير إلى أية قيمة ولم تعد تعني أية عدالة أصلا لذلك كان السفسطائيون على خطأ عندما جمعوا بين الحق والقوة وشرعوا لحق الأقوى واعتبروا أن اللامساواة الاجتماعية هي ترجمة صادقة لللامساواة الطبيعية وانهم ارتكبو حماقة كبيرة لما أكدو أنه مثلما يوجد تفاوت في القدرات البيولوجية والكفاءات فانه يوجد نمطين من الناس: أفراد خلقوا ليحكموا وآخرون خلقوا ليطيعوا،أي أن أفرادا خلقوا ليكونوا أسياد وآخرين وجودوا ليكونوا عبيدا.
إن العلاقات التي تربط بين الأفراد في المجتمعات ليست علاقة قيم بقدر ماهي علاقة قوى لذلك فان البعض يرون أنه من حق الأقوياء أن يستعملوا القوة لفرض الهيبة ومن حقهم استعمال القانون بسنه ونسخه لتحقيق سطوتهم. غير أن الطبيعة كما يقر أفلاطون لم تر فضيلة في اقتراف الأعمال غير المستقيمة ولا رذيلة في شعور الإنسان بالألم عند ارتكابه لهذه الأعمال بل أقرت أن العدالة هي احتلال مكان وسط بين الخير والشر وبين المحمود والمذموم وستصبح محمودة أكثر عندما تكون بين هذين الحدين أي اقتراف سلوك غير فاضل من جهة والتحمل عندما نعجز عن الانتقام من جهة أخرى، إذ ليس من العدل لتحقيق سعادتنا أن نفعل ما نشاء وأن نطلب من الآخرين أن يفعلوا ما يحلوا لهم بل السعادة لا نصل إليها بتحقيق اللذات الجزئية الفردية بل بمعانقة الخير الأسمى الذي لا يكون كذلك إلا لتعاليه حتى على مجموع هذه الخيرات الجزئية.
إن العدالة هي التي تضمن لنا السعادة في هذه الحياة بالانطلاق من فعل ما أوكلته إلينا الطبيعة أن يفعله أي كل شخص يكون عادلا إذا أدى وظيفة حتمتها الطبيعة عليه أن يقوم بها فلا طبقة الصناع أو العمال تتدخل في شؤون الأمن والحراسة والحكم ولا الحراس يتدخلون في شؤون الحكم ولا الفلاسفة الحكام مطالبون بالقيام بالأعمال اليدوية الشاقة والقتال لأن معدنهم نفيس ويجب أن يهتموا بشؤون الحكم وبتشريع القوانين ووضع الدساتير، لكن أية رابطة يمكن أن توجد بين الحق الطبيعي والقانون الوضعي؟ وهل يمكن تصور نوع آخر من العدالة مغايرا للعدالة التوزيعية؟
في الواقع يوجد اختلاف حسب أرسطو بين الحق الطبيعي والقانون الوضعي، فالأول هو ما يتفق مع نظام الكوسموس ويرتبط بدرجة القوة ويحقق تناسق الطبيعة البشرية مع الطبيعة الكونية أما الثاني فيستمد مشروعيته من الحق الطبيعي وهو متغير بتغير ظروف التطبيق وخصوصية الممارسة.في نفس السياق وفي إطار الوجود الاجتماعي السياسي ونظرا لتبعية القوانين للحق الكوني يمكن أن نميز بين ثلاثة أنواع من العدالة: تبادلية commutative  وتوزيعية distributive  وجزائية ردعية répressive.
تستند العدالة التبادلية على تساوي المتبادلين في الحقوق والواجبات وتساوي الشيئين المتبادلين في القيمة ونعبر عليها بطريقة رياضية كما يلي: إذا كانت أ تساوي ج وإذا كانت ب تساوي ج فان أ تساوي ب، من جهة ترى العدالة التوزيعية أنه من غير العدل أن نساوي في توزيع الخيرات بين أفراد غير متكافئين في القوى والملكات الطبيعية وفي المساهمة والإنتاج وبالتالي يجب أن نحدد عدالة التوزيع غير المتساوي عن طريق قاعدة النسبية. إن ما بقي هو العدالة الجزائية أو الردعية والتي تقوم على مبدأ مشهور هو "العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم".
لو قارنا بين هذه الأنواع الثلاث للعدالة فإننا نستنتج وجود تناقض بين المساواة المحضة للعدالة الجزائية في مستوى الواجبات وبين  اللامساواة التطبيقية بالنسبة للعدالة الجزائية في مستوى الحقوق وبالتالي فإن توزيع الحقوق لم يراع التزام الأفراد بأداء الواجبات ولم يؤدي بهم إلى احترام القوانين الوضعية وهو ما يدعونا إلى التساؤل: هل العيب في علاقة العدالة بالحق أم في علاقتها بالقانون الوضعي؟
من البين إذن أن العدالة التوزيعية تحقق قاعدتها في النسبية لكي تطيع مطلب إنساني لا يزول وهو مطلب المساواة، فإذا عرفنا العدالة بكونها:"مجهود لجعل المثالي النموذجي متحققا وملموسا وذلك باختزاله في الطابع الكمي" فإن الإنسان لا يستطيع أن يقيس وفق مقادير كمية القيم والأشخاص بل الأشياء والكتل المادية وآيتنا في ذلك أن هناك فرق بين الأشياء التي تملك ثمنا ويمكن المتاجرة بها وتبادلها كوسائل من أجل تحقيق غايات أخرى والأشخاص الذي لهم كرامة وقيمة وينبغي أن ننظر إليهم كغايات في حد ذاتها.
إذا كان التصور الدقيق للعدالة هو تصور رياضي لا يلاءم السياسة والأخلاق التي توجه عالم من البشر وليس عالما من الأشياء فانه يجب ” أن نفعل بشكل نعامل فيه الإنسانية في شخصنا كما في أي شخص آخر وكأنها دائما غاية وليست أبدا وسيلة” مثلما يرى ذلك كانط ومثلما وعى بذلك أرسطو عندما وضع الشعور بالعطف الذي يجمع بين الأشخاص فيما بينهم فوق قيمة العدالة ورأى أن العدالة تنصهر في الشعور بالصداقة Philia الذي يحتويها ويتجاوزها.
غير أن أرسطو يميز ببراعة في كتابه ذائع الصيت “أخلاق إلى نيقوماخوس” بين العدالة والإنصاف عندما يعتبر المفهوم الثاني:الإنصاف أهم على السلم القيمي من المفهوم الأول: العدالة لأن كل إنصاف عدالة بالضرورة ولكن ليس كل عدالة إنصاف ،فهو ليس تطبيق صارم للقوانين الوضعية وقواعده العامة على جميع الناس في جميع الوضعيات الخاصة بل يعتمد بالأساس على مراعاة التغيرات في الظروف واختلاف الخصوصيات أثناء تطبيقه للقاعدة القانونية[1], إن الإنصاف بلغة أرسطو هو اتفاق العدالة وانسجامها مع ماهو مشروع، لكن ما الحاجة إلى الإنصاف في ظل وجود مبدأ العدالة؟
2-    من العدالة إلى الإنصاف:
إذا كانت العدالة تتعلق بالأطر الموضوعية للوجود وتنظم المبادلات والوظائف وتؤسس نسقا من الحقوق والواجبات المتبادلة وتوفر شروط التماسك الاجتماعي فان الإنصاف يسعى إلى تأسيس جماعة من الأشخاص المتحابين الذين يستمدون كينونتهم من تبادلهم المنصف للعطاء والبذل والخيرات. من هنا يظهر التناقض المحض بين العدالة ككلية مجردة تؤسس قانونا عاما والإنصاف كخاصية ملموسة تلهم كل حركة إخلاص تجاه أي شخص، من جهة أخرى لا تهتم العدالة بماهو ملموس وواقعي ولا تعطي للأشخاص بشكل ظاهر للعيان ومباشر أما الإنصاف فيجهد نفسه لكل يحل محل كل نظام إلى درجة أنه ينوب عن كل إنسان ويعبر بشفافية عن حاجياته وإنسانيته.من هذا المنطلق تطرح العدالة كسلبية خالصة [ لا تسيء إلى غيرك] أو كقيمة إصلاحية [ ادفع ديونك] أنها إعادة بناء توازن داخلي أو وقاية نظام اجتماعي معين، إنها المبدأ المجعول لتأسيس المحافظة والتوازن.
 على خلاف ذلك يطرح الإنصاف كايجابية خالصة أو كقيمة ثورية مطلقة ويعزم على معاملة الآخر كغاية في ذاته وليس كمجرد وسيلة.  يفضل الإنصاف المبدأ الايجابي التالي:” عامل الآخر بما لا تريد أن يعاملك به” على المبدأ السلبي للعدالة:” لا تعامل الآخر بما لا تريد أن يعاملك به”.وحده الإنصاف يعبر عن النزاهة والحلم المطلق أما العدالة فتقتضي بأن لا نطالب أكثر من حصتنا لكنها تسمح لنا بأن نحتج دائما عندما تصادر هاته الحصة. بهذا المعنى تبدو العدالة سجينة الميولات والحاجات بل إن نداء العدالة قد لا يكون دائما وأبدا بريئا بل معبرا عن حقد واضطغان وعنف، فالعدالة كقيمة أخلاقية لا تملك قيمة نظرا لأنها حسب نيتشه مجرد مثال زهدي وظيفتها هو الإخفاء وعدم الاعتراف باللامساواة الطبيعية بين البشر في مستوى القوى والمؤهلات، فكيف يمكن المطالبة بتحقيق المساواة في مستوى الحقوق بين أفراد غير متساوين بالطبع؟
يصرح نيتشه في هذا السياق:” لأن الناس نسوا الغاية الأولى التي وجدت من أجلها هذه السلوكيات المسماة: عدالة، إنصاف، تكون شيئا فشيء الوهم القائل بأن كل فعل عادل هو فعل نزيه وتأسست على هذا الوهم القيمة المطلقة التي وقع إعطاؤها لهذه السلوكات”.[2] إن "الفرق بين الإنصاف والعدل: أن الإنصاف إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل إنه عدل عليه ولا يقال إنه أنصف، وأصل الإنصاف أن تعطيه نصف الشيء وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل أطلب منك النصف كما يقال أطلب منك الإنصاف ثم استعمل في غير ذلك مما ذكرناه، ويقال أنصف الشيء إذا بلغ نصف نفسه، ونصف غيره إذا بلغ نصفه"[3]  
نستنتج إذن أن الاختلاف بين العدالة والإنصاف يستعيد بشكل ما الاختلاف القائم بين الحق الوضعي والحق الطبيعي، فإذا كانت العدالة تلتقي مع مفهوم التساوي الرياضي الدقيق والصارم وتعامل الأشخاص كمجموعة من الأشياء الكمية أو مجرد قوى فيزيائية ونقاط في فضاء هندسي فان ” الإنصاف هو الإحساس اليقيني والتلقائي بالعدل واللاعدل خاصة بصفته تلك التي تتجلى في عملية التقدير لكل حالة خاصة وملموسة.”[4]
على الرغم من أن كل من العادل  le justeوالمنصف  l’équitable هما نفس الشيء ويتحركان في نفس الأرضية الأخلاقية فان الاختلاف بينهما يظهر عندما ننتقل من المفهوم المجرد إلى أرض الواقع، وعلى الرغم من أن كل إنسان يتوق إليهما معا ويريد أن يعيشهما في حياته إلا أن الإنصاف كما يقول أرسطو في كتاب أخلاق إلى نيقوماخوس أهم من العدالة وآيته في ذلك أن الصعوبة تثار من جهة كون يمكن أن يكون دائما عادلا ليس لاتفاقه مع القانون بل لإحكام تغطيته لماهو قانوني. إن هذه الأهمية المعطاة للإنصاف بالمقارنة مع العدالة ترجع إلى أن القانون الكلي هو كلي ولكن كليته العامة والصورية لا تسمح له بأن يطبق الصرامة والدقة اللازمتين.
إن القانون المتعلق بالأغلبية ويشمل كل الحالات لا يعترف بالخطأ بل يقصيه من دائرته ويرجعه إلى طبيعة الأشياء وينفيه عن المشرع رغم أن المشرع عند سنه للقوانين ووضعه للقواعد العامة والالزامات قد لا يحيط بكل الواقع وقد تفلت من دائرة معرفته عدة حالات جزئية دقيقة وقد لا يراعى عدة ظروف يجهلها، لهذا السبب بالذات يمكن أن يخطئ المشرع ويمكن للقانون ألا يكون ضروريا وكليا وكونيا ويتفوق الإنصاف على عدة أشكال من العدالة أخطأ في التنظير إليها العقل البشري ولا على العدالة الحقيقية ومن هذا المنطلق يعرف المعلم الأول:” الإنصاف هو إتقان تشريع القانون نظرا إلى أن هذا الأخير يمكن أن يكون مقصرا بسبب عموميته”[5].
عندئذ يمكن للقانون الوضعي أن يخون مطلب العدالة الحقيقية التي يعد باحترامها وتطبيقها ويمكن أن ينحاز ويخدم مصلحة فئة دون أخرى  إلا أن الإنصاف بماهو تجرد ولاتحيز يصبح العدالة المثالية الأخلاقية الحقيقية والتي تتعالى على كل النظم والقوانين. على هذا النحو يكون الإنصاف هو القيمة النموذجية لكون الإنسان ينطلق منه كلما أراد أن ينقد الحق الوضعي والدساتير المدنية وأيضا لأنه يمثل المبدأ الموجه الذي يضمن تجسيم وتطبيق القوانين بصرامة ودقة متناهية رغم تغير الوضعيات وتباين الظروف.
من البين إذن أن فضيلة العدالة هي واحدة من أصعب القيم غير القابلة للتحقيق لأن كل شخص يرى في نفسه أنه ضحية لاعدالة الآخر ويتألم من هذه المعاملة اللاانسانية ولا يظهر أنه بريء من معاملة الآخرين له بشكل لاعادل إذ تراه أول من ارتكب أخطاء تتناقض مع مبدأ العدالة التي يطالب بإيجادها.هذه الهوة بين المثال والواقع استوجبت ضرورة استبدال العدالة على نطاق الفرد بمفهوم الاستقامة الذي يحترم الحس الأخلاقي ويجعل إمكانية تطبيق القوانين الوضعية واحترام القيم الأخلاقية واقعا ملموسا وتجربة معيشة واقتضت ضرورة الحديث عن مفهوم الإنصاف كمبدأ مؤسس للحياة الاجتماعية خاصة وأنه يحترم حقوق الآخرين ويراعى المشروعية ويتفق مع الحس الأخلاقي. لكن كيف يتحول الإنصاف إلى شرط أساسي لتحقيق كل عدالة ممكنة؟
3-    من الإنصاف إلى الحرية:
في الحقيقة أدى تشبيه العدالة بالميزان ومجاورتها لمفاهيم المساواة والتناسب والاستحقاق إلى اختزالها إلى مجرد التوازن الميكانيكي بين القوى والى تناقضها كليا مع المعنى المعاصر الذي يقدمه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن العدالة خصوصا اعتباره أن "كل الناس يولدون وهم متساوون في الحقوق"، فجميع الناس لهم نفس القيمة والكرامة لصدورهم عن نفس المصدر الإلهي والطبيعي. عندئذ لا ينبغي أن تخفي اللامساواة في الواقع وفي المؤهلات الطبيعية والاختلاف في المواقع الاجتماعية والتنوع في الرؤى تساوي الأشخاص في الحقوق وتحركهم قانونيا على نفس السطحي الأفقي.
إذا كان الفكر القانوني ينشد الصرامة والنزاهة والاستقامة ويعلن أنه لا أحد يعلو فوقه بما في ذلك المشرع وإذا كانت فلسفة الأخلاق تميز بين الأشياء الموجودة لغيرها والتي لها ثمن وتقبل الاستعمال والتبادل وتعامل كوسائل وبين الأشخاص الموجودين لذواتهم والذين لا يمكن أن نعاملهم إلا كغايات لاستحالة بيعهم وتشييؤهم وامتلاكهم بصفة نهائية ولأن لهم قيمة وليس لهم ثمن فان الفكر السياسي الفلسفي يسعى إلى إزالة اللامساواة الاجتماعية والطبيعية بين الأفراد وذلك بتحقيق المساواة المدنية وفرض نظام من الواجبات والحقوق على كل المواطنين وبتوفير نفس الفرص عند نقطة الانطلاق لكل المواطنين وإعطائهم نفس الحظوظ لتنمية قدراتهم الطبيعية وبوضع الشخص المناسب في المكان المناسب وبتكليف الأفراد الأكثر كفاءة بالمسؤوليات الأكثر أهمية وبالتوفيق بين مبدأ العدالة:"لكل حسب مجهوده" ومبدأ الإنصاف:"لكل حسب حاجته".
غير أن العدالة التي تدفع إلى إصلاح معين لأشكال اللامساواة الطبيعية قد تصطدم بصعوبة أخرى تتمثل في أن بعض الأنظمة الاجتماعية التي ترى في قوانينها قوانين عادلة تسبب لامساواة طبيعية بين الأفراد، إذ يبدو أن التفاوت في القدرات الذهنية والملكات الطبيعية سببه الفوارق الموجودة على المستوى الاجتماعي، فالظروف المعيشية السيئة والفقر والبطالة وسوء العناية الصحية والأمية هي عوامل تساهم في كبت الشخصية ومنع الأفراد من تطوير مؤهلاته الطبيعية والإخلال بأشكال التكاتف والتعاون والتبادل التي تكونها المجموعات بشكل طبيعي.
إن فكر النصح والوعظ والإرشاد عاجز عن تجاوز هذه الإحراجات:في عالم تحكمه العدالة ويحتل فيه الأفراد الأماكن التي تلائم مؤهلاتهم يجبر الشخص الضعيف الذي ليس له مؤهلات على اليأس والتشاؤم لفقدانه الأمل في التمتع بخيرات لم يساهم في إنتاجها ومن جهة أخرى في عالم تحكمه الميولات والثروة ومتروك للحظ والصدفة ويحتل فيه الأشخاص مكانا قد لا يوافق استعداداتهم الواقعية يجبر الشخص الحاذق والكفء على اليأس والتشاؤم لفقدانه الأمل في المشاركة في إنتاج الخير العام وبالتالي نستنتج بقاء الحياة اليومية تعاني نفس الإحراجات.
على هذا النحو يجب أن يخدم القانون الوضعي حق الإنسان الطبيعي في المحافظة على بقائه وينبغي أن يأتي مفهوم العدالة ملائما مع مكونات عقد الخضوع الذي يربط الحاكم بالمحكومين ولابد أن يشرع القوانين ويحافظ على الأمن والسلم ويوفر الحماية للأفراد باستعمال قوة الإرغام والردع، فإذا كانت حالة الطبيعة غير منصفة فان العدالة هي مجرد اتفاق مكتسب تخدم رغبة الإنسان الأصلية في المحافظة على بقائه وتراعي مجمل حقوقه الطبيعية في الحياة والتملك والحرية. لكن أليس الإنصاف وليس العدالة هو الذي يضمن الحرية كقيمة مطلقة للإنسان مهما كان موقعه في العالم؟ هل يمكن تصور حالة طبيعية عادلة وسليمة؟في الحقيقة يمكن أن نفترض وضعية أصلية أولى تتصف بالطيبة والشفقة والحب الخالص خاصة وأن الإنسان ولد حرا ولكن تراه في أغلال كما يقول روسو وبعبارة أخرى الإنسان خير بطبعه ولكن المجتمع والتاريخ والحضارة هي التي جعلته يصبح شريرا ويتباعد عن طيبته الأصلية.
 إن الإنسان يمكنه أن يستعيد حريته الطبيعية عندما ينضوي داخل شكل اجتماعي وتأسيسه لدولة عبر إبرام عقد تشاركي تكون الغاية منه ليس التفويض والخضوع بل الإدماج والاحترام للإرادة العامة التي تسهر على ضمان الحرية والكرامة، يقول كانط في هذا السياق:"إن الفعل الذي ينشىء به الشعب دولة هو العقد الأصلي الذي بموجبه يتخلى الجميع عن حريتهم الخارجية التي هي دون القانون من أجل استعادة حريتهم في تبعية للشرعية". لذلك يمكن أن نتصور الموقع الأصلي للإنسان على أنه موقع منصف حيث هناك حجاب من الجهالة يمنع الأفراد من إدراك مصلحتهم الخاصة مثلما يذهب إلى ذلك جون راولز الذي وضع الإنصاف كمبدأ مؤسس للتشريع القانوني لجسم سياسي معين وكمرجع قانوني تستمد منه الدساتير الوضعية مشروعيتها بما في ذلك قيمة العدالة نفسها[6].
إذا تصورنا الوضعية الأصلية على أنها وضعية منصفة لجميع الأشخاص يستطيع هؤلاء بوصفهم كائنات أخلاقية عقلانية موجودة لذاتها وتعامل ذاتها كغاية أن ينتجوا عن طريق المداولة اتفاقا اجتماعيا تؤسس بمقتضاه معنى العدالة الحقيقي أو التنظيم العادل للمؤسسات. لهذا فان إنصاف الموقع الأصلي يطبع بالدرجة الأولى إجراء المداولة الذي يؤدي إلى إنتاج عقد يفرز بدوره شكل التنظيم العادل للمؤسسات، وان المؤسسة العادلة هي تلك التي يختارها مجموعة من الأفراد العاقلين المنزهين الذين استطاعوا التشاور والاتفاق في وضعية منصفة. لكن كيف يكون الإنصاف ركيزة أساسية للعدالة المؤسساتية الناتجة عن تداول والتزام بين الأفراد العاقلين على تأسيس عقد يتم وفق المعايير الموضوعية للعدل والظلم؟ من يضمن للأفراد وضعية الإنصاف التي تنتج اتفاق يتعلق بالتنظيم العادل للمؤسسات؟ وكيف يستطيع الأفراد في هذه الوضعية المنصفة اختيار مبادئ معينة للعدالة دون أخرى؟ فهل يمكن مفهوم العدالة من التحرر من الغائية وتبعية للخير بارتمائه بين أحضان مفهوم الإنصاف الأخلاقي؟
  خاتمة:
 صفوة القول أننا لتجاوز عيوب البراغماتية المعاصرة التي تعمم وضع الفرد على الكل وتشرع للفرد بضرورة استعمال كل الوسائل من أجل الوصول إلى الرفاهية كغاية تسقط في عيوب مفهوم العدالة بدلالته الميكانيكية الكمية والجبرية الصارمة التي ترفض نظرية القرار بوصفها نظرية للعب حيث الرابحين والخاسرين مجردين من أي هم أخلاقي لتشرع بإمكانية التضحية ببعض الأفراد المهمشين والمجموعات غير المحظوظة من أجل الخير العام والتنازل عن لذة آنية مباشرة من أجل الحصول على لذة أكبر دائمة ونحاول من جديد تجاوز عدالة التوزيع اللامتساوية للخيرات بين الأفراد باعتبار مفهوم الإنصاف هو المرجع التأسيسي لكل القوانين الوضعية وشرط إمكان شكل التنظيم العادل للمؤسسات لكننا من جديد نسقط في عيب التعميم والدائرية الفارغة ولا نراعي بعض الحالات الخاصة والظروف الاستثنائية التي يستحيل فيها ليس فقط تجسيم قيمة العدالة  بل وأيضا يصعب فيها للإنصاف أن يمارس وظيفته التأسيسية خصوصا عندما تغيب الضمانات التي تجعل عملية إتقان سن القوانين متلازمة مع الجهد المبذول لممارستها ومعايشتها.
إذا كانت العدالة هي الجمع بين التوزيع المتساوي عن طريق قاعدة النسبية [ لكل حسب مساهمته] والتوزيع المتساوي الانتماء للإنسانية والحق [ لكل حسب حاجته] وتدعو لا فقط إلى إعطاء نفس الفرص والحظوظ إلى كل الأفراد بل إلى إصلاح التفاوت الاجتماعي اللامساواة في التملك والتمتع بالخيرات فان الإنصاف يدعو إلى اللاتحيز والى احترام القوانين المدنية والدساتير الوضعية للمبادئ الأخلاقية الكبرى والقيم الإنسانية النبيلة ويحاول لا إصلاح التفاوت وإنما القضاء على أصله وتجفيف منابعه خاصة وأنه يضع نفسه فوق ثنائية الخير والشر والعدل والظلم كما يرى يانكليفيتش.
إذا كانت الدعوة إلى الالتزام بالإنصاف تخفي ميكيافلية تبريرية فان مشكل اللامساواة لا يمكن اجتثاثه بإعطاء بعض الصدقات أو بالالتزام ببعض القيم المثالية وإنما بضمان الحرية الإنسانية كقيمة القيم، فالإنصاف قد يضيف رقما إلى مجموع الأشخاص غير المنحازين ولكنه لا ينقص رقما واحدا من مجموع الأشخاص المغتربين لذلك فان غير المنصف الحقيقي ليس ذلك الشخص غير العادل بل ذلك الذي لا يريد أن يكون حرا. لكن ألا ترتبط الحرية باحترام قيم الصداقة والحب ؟ ألم يقل يانكليفيتش في مفارقات الأخلاق:" من أجل أن نحب لابد أن نكون ومن أجل أن نضحي لابد أن نحيا ومن أجل أن نهب لابد أن نملك"؟ 
[1]Aristote, Ethique à Nicomaque, Trad de J. Tricot, Editions Vrin, 1983
[2] فريدريك نيتشه، إنساني مفرط في إنسانيته،ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق 2001
[3] أبو الهلال العسكري، الفروق اللغوية، فقرةرقم317
[4]Lalande, dictionnaire technique et philosophique, Quadrige, PUF, 2 éditions Paris, 1992
[5]Aristote, Ethique à Nicomaque, livre 5, Trad de J. Tricot, Editions Vrin, 1983
[6]John Rawls, Théorie sur la justice, Ed du Seuil, Paris, 1993
أضافها رواق الفلسفة في دراسات حول المسائل و الشخصيات المتعلقة ببرنامج الف @ 12:05 م
خبّر عن هذا المقال:                                                                     
(0) تعليقات

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم