الإنية والغيرية
1­الإنية كِوحدة:
أ- ­الإنية من المفهوم إلى المشكل:
يقول ”أرنست بلوخ“ [Ernest Bloch]: «لا شيء يمنحنا انطباعا بوجود إجابة ممكنة إذا لم يتوافر في البدء تساؤل ما، لهذا السبب وحده نجد أن أشياء ساطعة بقيت في معزل عن رويتنا و كأنها لم تكن أبدا…»(مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماز-د.علاء طاهر-ص9 –منشورات مركز الإنماء القومي-بيروت-ط الأولى)، ما من شك في أن أكثر الأشياء قربا منا و أوكدها مباشرية هي ذواتنا التي بها نفكر، وبها ندرك ونعي ونتساءل ونحب ولا نحب ونفعل وننفعل ونتفاعل ومنها نخجل أحيانا… غير أن حضور هذه الذات و تواجدها في العالم والبرهنة على وجودها هو ما يسمى بالإنية التي هي مصطلح مشتق من ”الأنا“ ولكنها ليست ”الأنا“ بالمدلول الحرفي و إنما ما به تكون هذه ”الأنا“ ”أنا“ أي عينية ”الأنا“ و ما دل على وجودها فعلا و عن حقيقتها الفعلية بهذا يمكن أن نفهم تعريف ”الجرجاني“ للإنية في كتاب ”التعريفات“ باعتبارها «تحققا للوجود العيني من حيث رتبته الذاتية» بذلك يتخذ هذا المفهوم معنى أنطولوجيــا [un sens ontologique ] أي وجوديا لأن الحديث عن الوجود يعتبر وجودية فقياسا على هذا يكون المبحث في مجال الذات و الأنا: إنية [ipséité] (من الجذر اللاتيني ”ipso” أي: الهُو َهُوَ وهذا التأصيل الفيلولوجي أي الإشتقاقي يكاد يوحي لنا بتعريف ”الجرجاني“ لمفهوَميْ ”الماهية“ حيث يقول «ماهية الشيء ما به الشيء هو هو وهي من حيث هي»، و"الهُوِيَّة" التي يعرفها بأنها: «الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق».
يمكن أن نستنتج منذ البدء أن مفهوم الإنية باعتباره منطلق البحث في مسألة الإنساني هو مفهوم ديناميكي [un concept dynamique] أي متحول يروم الانزلاق في تيار التكثر و ليس مفهوما ستاتيكيا [un concept statique] أي ثابتا و مستبعد الإلتباس والأشكلة، ولأنه كذلك فهو مفهوم لا تروقه نظرية الانعزال و التقوقع داخل حصن الذاتية لأن تناولنا له من الخارج بربطه مع الآخرية والغيرية يمكن أن يوصلنا إلى ممكنية ملامسة حقيقية لمدلولاته المتكثرة والمتوحدة في الآن ذاته...
ب -الإنية بين هاجس الإثبات و مأزق الذاتية:ديكارت ونظرية ”الكوجيتو“
لم يكن اكتشاف الإنية ثم إثباتها بالأمر اليسير أو الهين بالنسبة ِلـ ”أب العقلانية“ ديكارت، نظرا لأن هذا الأخير لا يقبل بالبديهي و العادي و المألوف إلا بعد التثبت من صحته و تبرئته عقلانيا من كل إلتباس; لأننا إذا اعتقدنا في كل شيء على انه يقين يمكن على ضوء ذلك أن نأسس معارف أخرى مرتبطة بالمعرفة السابقة التي لم نتثبت من يقينيتها بعد؛ فنقع بذلك في وهم أضخم من الأوهام السابقة لأن ما يبنى على باطٍل باطلٌ بالضرورة; لقد كتب ديكارت في التأمل الأول من ”التأملات الميتافيزيقية“ [ص1968, p.u.f 25] قائلا: «تفطنت، منذ مدة، أنني تلقيت منذ كنت صغيرا، جملة من الآراء الخاطئة، كنت أظن أنها صادقة وإلى أنَّ ما أقمته بعد ذلك على مبادئ هذه حالها من الاضطراب، لا يمكن إلا أن يكون مشكوكا فيه جدا ومفتقرا إلى اليقين. فكان لابد لي أن اعزم، مرة في حياتي، على التحرر جديا من كل الآراء التي اعتبرتها صادقة إلى حد الآن وأن أبدأ كل شيء من جديد من الأسس».
إن أزمة البحث عن منطلق صلب و موثوق به، و الذي يمكن أن نطلق عليه اسم ”نقطة أرخميدس“ [و هو عالم رياضي و فيزيائي إغريقي، اكتشف ما يسمى في الفيزياء بنظرية مركز الثقل (éle centre de gravit)، ويشهد له بمقولته الشهيرة: «أبحث عن نقطة ثابتة لأرفع بها الأرض» و هذه النقطة التي بحث عنها أرخميدس في علم الفيزياء أصبحت مجازا فلسفيا مرادفا للثبات و منقذا من منزلق الرمال المتحركة التي هي رمز للخديعة والمأزق و اللامرتكَز]، هي التي دفعت بديكارت إلى القيــام بعملية هدم لكل شــيء و هـــي عملية أطلق عليهـــا هذا الفيلسوف اسم عملية «مسح الطــاولة» [وهي ترجمة للعبارة اللاتينية:tabula rasa ] و هذا الهدم تم عن طريق تجربة شك منهجي شمل كل شيء تقريبا، فبعد أن شك ديكارت في المعارف السابقة، شك في الحواس و أكد أنها تخدعنا باستمرار و «من عدم الحكمة أن نطمئن لمن حاول أن يخدعنا ولو مرة واحدة» [ديكارت ­”مبادئ الفلسفة“­الجزء الأول] ثم شك في العالم عن طريق المقارنة بين تجربة الحلم و تجربة اليقظة مبرزا أن الأحلام إذ تصور لنا أشياء غير موجودة و إذ تجعلنا نتصور أنها موجودة فعلا ماذا يضمن لنا أن ما نراه في يقظتنا هو من قبيل الأحلام و من جنس السراب و الوهم الجميل، بعد ذلك حاول ديكارت توسيع إمبرياليته الشكية التي لم يصمد شيئا أمامها حتى يقينية العلوم الرياضية و فكرة وجود الله... غير أن المبدأ الثابت الذي على ضوئه سيعيد هذا الفيلسوف تأسيس كل ما قام بهدمه هو أنه يشك و لأنه لا يمكن أن يشك في أنه يشك فهو لا يمكن أيضا أن يشك في أنه يفكر و باعتباره كذلك لا يمكن أن يكون إلا موجودا بالضرورة، لذلك صاغ نظرية الكوجيتو[ cogito ergo sum]أي «أنا أفكر إذن أنا موجود»·
لئن أجاب ديكارت بعد رحلة الشك التي عاشها عن سؤال وجودي مسؤول و معضلي في الآن ذاته كان قد طرحه من قبله رائد المسرح الأنڤليزي ويليام شكسبير«أكون أو لا أكون ذلك هو السؤال ؟[ ? To be or not to be that is the question,.  مسرحية "هاملت" لشكسبير المشهد الأول المقطع الثالث] طبع فكر الحداثة الغربية و أسهم في فتح المجال لإنبجاس التيارات العقلانية التي أثرَت و أثَّرت في طبيعة المسائل الفلسفية فيما بعد، فإن مشروعه لا يكاد يخلو من نقائص سيكشف عنه تاريخ الفلسفة فيما بعد حيث سينظر إلى مسألة الإنية ليس من المنظور الديكارتي الذي أقصى الغير من أفقه أو يكاد و لم يهتم إلا بإثبات ذاته فحسب وذلك يعتبر نقصا في النظرية لأنه يشرع للتقوقع والإنعزال و”الأنا وحدية “ [le solupcisme]. هذا المفهوم الذي سيتعرض للنقد من طرف دعاة الانفتاح على خصوبة العالم الثري بالمعنى الذي لا يمكن أن نطاله إلا بخروج الوعي من قمقم ”الأنا أفكر“ الكلاسيكية التي ماتفتئ تتخفى خلف نقاب الذاتية وما تنفك تعلن برجوازيتا المعرفية وترنسندنتاليتها العاشقة لذاتها[الترنسندنتالية: le transcendantalisme أي التعالي] مقصية كل غيرية للأنا التي لايمكن أن تكون إلا متكثرة فهي الوعي تارة والجسد تارة وهي الرغبة واللاوعي تارة أخرى وهي أيضا وجود متزمن و كينونة منفتحة على الكرونولوجي والأنطولوجي والسوسيولوجي والسيكولوجي قبل أن تكون منغلقة على الإيڤولوجي المتزمت والمتزندق الذي نسي أو تناسى «الفرق بين الوجود والموجود» على حد عبارة هيدغير كما نسي الكوجيتو الديكارتي أنه لكي يفكر يجب أن يكون موجودا أولا نظرا لأن الوجودية مثلا لا تعترف إلا بـ «وجود سابق عن الماهية» أي أن الإنسان يوجد أولا كجسد، كوعي، ثم تتحدد ماهيته وفق علاقته بالعالم واﻵخر والغير، من هذا المنطلق يمكننا أن نتحدث عن ضرورة فك العزلة لأحادية الإنية بحثا عن دلالات تكثرها، حيث يقول ”ج­ جيرار“ [j.Gerard]: «إن وحدتي، مهما كنت متوحدا، إنما تتخللها دلالات إنسانية أحملها معي; فلا وجود إذن لخبرة هي خبرة وحدة الذات». [انظر: ”معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية“ جلال الدين سعيد ­دار الجنوب للنشر­ تونس200461
2  ­الإنية المتكثرة [أو من الإنية إلى اﻵخرية]:الجسد ،اللاوعي والتاريخ
يمكن أن نفهم التكثر في هذا السياق بمعنى الوجوه الأخرى التي يمكن من خلالها الولوج إلى مشكل الإنية التي عالجناها إلى حد الآن من منظور الوعي و التفكير والنفس والذاتية والواقع أن الإنية يمكن تناولها فلسفيا من أنحاء شتى مستفيدين من عبارة المعلم الأول أرسطو «الوجود يقال على أنحاء شتى»، ذلك لأن الحديث عن الإنساني لايمكن ملامسته من زاوية وحيدة بل من منطلقات أخرى يمكن أن تخرجنا من منزلقات الأحادية إلى دروب الكثرة والاختلاف و الآخرية; فنشرِّع بذلك للتطرق لمسائل متورطة في مسألة الإنساني مثل: الجسد واللاّوعي و الزمنية …
  أ‌- الجسد:
لقد جسَّد الجَسَدُ مشكـــلا فلسفيا منذ بدايات الفلسفة، حيث رأينا موقف الأفلاطونية التحقيري له ضمن تصور مثالي يعطي قيمة للروحي و للسماوي (الإلهي) على حساب المادي والحسي وهو موقف يهمش الجسد ويحاول استبعاده لتتمكن النفس من بلوغ المعرفة والحقيقة حيث نقرأ في محاورة ”المأدبة“ لأفلاطون ما يلي: «إن عيون النفس لا تبدأ في النظر الثاقب إلا عندما تبدأ عيون الجسد في غض بصرها»، كما علمتنا الديكارتية أن الجسد هو الخادع والمنخدع نظرا لاعتماده على الحواس أولا ونظـرا لطابعه الامتدادي المادي المتحول تحول قطعة الشمع بفعل الحرارة; غير أن حضور الجسد في التفكير الفلسفي قد شهد تحولا يُشهد له حيث سيحاول الجسد افتكاك مركزيته ورد الاعتبار لتاريخ السلب والسلبية الذي حاصره وذلك ببروز فلسفات جديدة جسدت النيتشوية أبرز محطة فيها نظرا لاعتبارها فلسفة القلب والإنقلاب على الموروث الفلسفي القديم الذي اتهمه نيتشه بالصنمية والفرعونية لأنه يؤمن بوجود حقائق خالدة لا تملك الجرأة والقوة الكافية لتظهر للعيان فلا تعدو بذلك إلا أن تكون أوهاما محنطة، نسينا أنها كذلك; لذلك يرفض نيتشه أن تكون الفلسفة الفعلية « تدرب على الموت» مثلما رام أفلاطون أن تكون عليه معلنا أن التدرب على الحياة هو تدرب على مبدأ إرادة القوة وإرادة الفعل اللذان لا يكونان إلا بتقديس الجسد لأنه «العقل الكبير» والفاعل الحقيقي في هذا العالم حيث يقول في كتاب ”هكذا تحدث زارادوشت“: «يحمل جسدك أكثر عقلا من أفضل حكمة يفرزها عقلك»; لقد حاول نيتشه أن يبين أن للجسد أولوية و أفضلية على منظومة الوعي الذي سيصبح معه مجرد وسيلة و أداة طيعة في خدمة الجسد لذلك يعلق إيريك بلاندال في كتابه: [”نيتشه:الجسد والثقافة“­­ ص 128­ﭙيف­1983] قائلا:«إن نيتشه قد عانى جهدا سيزيفيا ليثبت أن كل شيء يبدأ من الجسد» ولأن الجسد قد أعلن مع النيتشوية سيدا فقد سعى هذا الأخير إلى تأسيس نظرية أخلاقية قائمة على إعطاء أولوية أولا: للبعدين الإيروسي والديونيزوسي (نسبة إلى ”إيروس“ إله الحب و”ديونيزوس“ إله الخمر و النشوة عند الإغريق)، وثانيا: لمبدأ إرادة القوة الذي يعتبر مفهوما تأسيسيا في الفكر النيتشوي الذي يرفض التوجهات الميتافيزيقية نظرا لأنها تشرع للخضوع والإستعباد و بالتالي تكون منظرة لما يسميه نيتشه بـ”أخلاق العبيد“ التي تعطي أولوية للسماء على الأرض و تقزم الإنسان وتجعله في تبعية لأوهام ابتدعها مثل العقل والآلهة و الحقيقة و الفضيلة و الحال أن الأخلاق الحقيقية التي يجب أن نتعلمها و نعلمها هي ”أخــــــلا ق السادة“ التي يمكن أن تحول الإنسان من كائن عادى خاضع للآخرين إلى سوبرمان [super man] مؤكدا لحضوره على الأرض وسيدا لمصيره وعلى الآخرين، بذلك تضحي الإنية الفعلية حسب نيتشه هي جسدية في مجملها أما الغيرية فتوضع موضع خطر وفق هذا الفكر الباحث عن السيادة التي لن تتحقق إلا عبر إستعباد بشكل أو بآخر للغير إن لم نقل استبعادا له·

*التصور الوجودي والظاهراتي للجسد الفلسفة المعاصرة (
تعتبر الوجودية والظاهراتية من أبرز التوجهات الفلسفية المعاصرة التي سعت إلى إيجاد تصور للجسد بربطه بالتجربة المعيشة للإنسان في العالم أي باعتباره ظاهرة قابلة للدرس وحاملة للمعنى بمعزل عن التوجهات الميتافيزيقية التي تخبط فيها تاريخ الفلسفة ذلك لأن حضور الإنسان في العالم هو حضور متجسد فالجسد هو وعاء للوعي وهو أيضا رابط بين الوعي و العالم فلا يمكننا دراسة العالم بدون توسط للجسد ولا يمكننا دراسة الجسد بفصله عن مبدأ الوعي و بعزله عن العالم الذي ينتمي إليه حسيا و وجوديا ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم كلمة ”الدازاين“[dasein] التي استعملهـا ” هيدغير“ بمعنى [الموجود ­هناl’être-là ] التي تفيد الوجود في العالم عن طريق شعورنا داخل ذواتنا بالانتماء إليه وشعورنا بالحضور فيه عن طريق أجسادنا فالإنية هنا هي إنية للذات المتجسدة المنفتحة على العالم؛ وعلى الآخر باعتباره ذاتا أخرى وجسد آخر منغمس هو بدوره ومنخرط في خارطة العالم ذلك لأن الآخر (الغير) لا يشاطر فقط العالم مع الذات المتجسدة بل يجسد في حد ذاته شرطا أساسيا في إعادة هيكلة العالم وفي تغييره ليكون كما هو عليه داخل ذاتي المدركة له لذلك يعتبر أب الظاهراتية ”إيدموند هوسرل“إننا عندما ننظر إلى طاولة أو جدار أو كرسي نعرف انه ثمة أشخاصا آخرين قد قاموا بتشييد الجدار أو بصناعة كل ما نراه بذلك يضحي الآخر حاضرا دائما في وعينا على شاكلة مجموعة من الدلالات أي انه معنى من معاني العالم وكذلك شرطا من شروط تكون الأنا لأن الأنا تكون دائما مرتبطة بأنا الآخر عبر حضورها في العالم معه وذلك ما عناه ”هوسرل“ بمفهوم”البينذاتية“ [l’intersubjectivité] هذا المفهوم الذي يحمل شحنة نفسية يمكن أن تفيد التعاطف وكذلك شحنة رمزية تعني التعرف على الآخر عبر مدلولاته الذاتية في العالم لأن الموضوعات في الظاهراتية لا يمكن أن ترتبط بذات واحدة بل هي مرجع لبقية الذوات الأخرى لذلك يقول هوسرل:«إن الآخر ينكشف لي على هذه الطاولة، على هذا الحائط باعتبار أن هذا الموضوع هو موضوع دوما للآخر وهو كذلك مرجع لكل الذوات الأخرى»[ايدموند هوسرل:”التأملات الديكارتية“­­التأمل الخامس]؛ غير أن مفهوم البينذاتية الذي جاء به إيدموند هوسرل وإن نجح في كسر عزلة الكوجيتو الكلاسيكي لديكارت جاعلا من تجربة الوعي الحقيقي تكون ”وعيا بشيء ما“ أي انفتاحا للذات علي تجربة العالم الذي هو قبل كل شيء مليء بالذوات التي بدورها تسعى إلى الإنفتاح لتلتقي بالذوات الأخرى إما بطريقة مباشرة أو عن طريق الموضوعات فإنه قد أغفل بصورة أو بأخرى الجسد الذي سيحاول موريس ميرلوپونتي تحيين الهيكلة الظاهراتية له وذلك بتجاوزه لمفهوم البينذاتية الذي دافع عنه أستاذه هوسرل وإستبداله بمفهوم أكثر حميمية وأكثر واقعية هو مفهوم البينجسدية[l’inter corporéité]وذلك أولا: نظرا للإحراجات التي يمكن أن تحاصر مفهوم البينذاتية المعرضة دائما لخطر اللاتواصل والموضعة من طرف الآخر عن طريق النظرة كما هو الشأن بالنسبة لفلسفة جون پول سارتر أو عن طريق عدم الاعتراف بذاتية الآخر كما هو الشأن بالنسبة للتصور الهيڤلي أي عندما « ينسحب كل منا داخل طبيعته المفكرة ويضحي كل منا نظرة لا إنسانية بالنسبة إلى الغير؛ وإذا أحـس كل منا بأفعاله لا من حيث أن الغير يستعيدها ويفهمها؛ بل من حيث هو يلاحظها كما لو كانت أفعال حشرة؛ وهذا ما يحصل مثلا عندما يسلط علي نظر شخص مجهول»[ موريس ميرلوپونتي- ظاهراتية الإدراك- ط – ڤاليمار – ص414]وثانيا:لان تصور موريس ميرلوپونتي للجسد قد سعى إلى تجاوز كلاسيكيات التفكير الفلسفي الدارسة لمنظومتي الوعي والجسد على شاكلة انفصالية تكون بمقتضاها الذات مقيمة في الجسد ولديها قيمة أفضلية عليه لتتحول المعادلة لديه من أنا لديها جسد إلى أنا متجسدة ومتداخلة تداخلا ليس بقابل للفصل أو التفاضل مع الجسد حيث يقول موريس ميرلوپونتي في كتاب:[المرئي واللامرئي –ط-ڤاليمار-ص239]:"إذا كنا ندرك بالجسد, فان الجسد…بمثابة الذات التي تدرك“نظرا لان المفهوم القديم للنفس أو للوعي لا يمكن أن يدرك في معزل عن الجسد والجسد بمفرده الخالي من الوعي لا يدرك هو الآخر لأنه مجرد جثة لذلك يميز هذا الأخير بين الجسد الموضوع الذي هو مجال الدراسة العلمية في المختبرات التشريحية والجسد الخاص المتفاعل مع مفهوم الوعي الذي يجعل منه ذاتا متجسدة وجسد مذوت الذي به:"تتعارض تجربة الجسد الخاص مع الحركة التأملية التي تخلص الموضوع من الذات والذات من الموضوع والتي لا تمنحنا إلا فكر الجسد أو الجسد في الفكرة لا تجربة الجسد أو الجسد على حقيقته“ [موريس ميرلوپونتي- فينومينولوجيا الإدراك – ط - ڤاليمار- ص231] إن الحقيقة الفعلية للجسد وفق هذا التصور هي الحقيقة المؤكدة للجسد الخاص كإنية متجسدة فاعلة ومنفعلة "في"وبمشهد العالم الذي يكون طابعا في أجسادنا ومطبوعا بها وذلك هو المعنى الحقيقي للبينجسدية التي هي علاقة وجودية بين أجساد العالم التي تتقاطع وتتداخل وفق جدلية الرائي والمرئي- اللامس والملموس- المصافح والمصافح .
لئن حاولت الظاهراتية الاشتغال على ثالوث الوعي- الجسد-العالم تأسيسا لعلاقة بيتذاتية و بينجسدية بين الإنية والغيرية وفكا للحصار الذي لازم تاريخ الوعي طيلة تاريخ الفلسفة؛ فان مدرسة التحليل النفسي مع قطبها الدكتور سيڤموند فرويد كانت قد اشتغلت وفي نفس الفترة تقريبا على ثالوث آخر هو ثالوث الهو[le ça]-الأنا[ le moi] –الأنا الأعلى [le sur moi] هذه البنية المميزة للجهاز النفسي التي ستؤسس علاقة لا واعية في مجملها مع الغير لينقلب الوضع من بينذاتية وبينجسدية واعية بالآخر إلـى “بينجنسية"[intersexualité] لا واعية يتحول ضمنها الغير إلي مجال للرغبات والنزوع الجنسي المكبوت إن لم يكن مجالا للعدوان والعنف الناتج لاعن ممارسة واعية بل عن عقد مضمرة في الخزان اللاشعوري للإنسان الذي يمكن أن ينفلت من دائرة الرقابة الفردية ليصبح شحنة تدميرية أو إبداعية يمكن أن تستهدف الغير كما يمكن أن تنقلب بصورة عكسية على الذات نفسها.
ب‌-   اللاوعي:
يعتبر مفهوم اللاوعي من المفاهيم الرئيسية المعاصرة التي أنتجها حقل علم النفس التحليلـي[la psychanalyse]في القرن العشرين مع مؤسس هذه المدرسة الطبيب والمحلل النفسي النمساوي سيڤموند فرويد وهو أيضا من المفاهيم النقدية الكبرى التي سعت إلى تجاوز التوجهات العقلانية في الفلسفة مثل الديكارتية وكذلك التجديد في حقول علم النفس والعلوم الإنسانية لذلك يرى فرانسوا شاتلي أن اكتشاف قارة اللاوعي وبلورة هذا المفهوم نهائيا مع فرويد يعد الحدث الرئيسي الذي ميز عصرنا[فرانسوا شاتلي- مقال بعنوان: فلسفة الحداثة- مجلة العرب والفكر العالمي]  وكاستتباع لهذا التعليق يمكن أن نصف سيڤموند فرويد بكريستوف كولومب علم النفس المعاصر نظرا لأنه أزاح النقاب على الجانب الخفي الكامن وراء تفكير الإنسان وسلوكا ته التي كنا نعتقد فيما مضى أنها نابعة عن إرادة حرة وإنية واعية ذات عقل محقق لسيادة” الأنا“ ليكتشف أن هذا العقل المزعوم ليس سيدا حتى في بيته بل هو مجرد خادم مطيع لسيدين اثنين هما” الهو“ و”الأنا الأعلى “ حيث أصبح مفهوم النفس الكلاسيكي منقسما إلى ثلاثة عناصر يسميها فرويد ببنية اللاشعور أو الجهاز النفسي التي يمكن أن نفهمها أكثر بالنظر إلى هذا الجدول:
الأنـــا:[ le moi]
-جانب خاضع لمبدأ الواقع
-الوجه الظاهر للشخصية
-في حالة توتر وقلق مستمرين لأنه بين مطرقة ”الهو“ وسندان ”الأنا الأعلى“ الشيء الذي يجعله خادما لسيدين في الآن ذاته
-الأنا تدرك وتخاف وتدافع وتقاوم وتخضع
-يحدث أن يفشل ”الأنا الأعلى“ في كبت رغبـــات” الهو“ فتتسلل هذه الرغبات اللاواعية إلى الأنا في شكل زلات لسان أو هفوات في الكتابة أو في الأفعال مثل النسيان أو فعل شيء مكان شيء آخر
-إذا فشل الأنا في تحقيق التوازن النفسي بين رغبات ”الهو“ وما يفرضه الواقع من كبت وتجميد لمبدأ اللذة من قبل الأنا الأعلى يتحول الوضع إلى حالات مرضية عصابية أو هستيرية مثل بعض الحالات التي يتحدث عنها فرويد في كتاب:” خمسة دروس في التحليل النفسي “(مثل المريضة -ايليزاباث فون.ر- التي وقعت في حب زوج أختها ولما ماتت أختها فرحت ولكنها بعد ذلك أصيبت باضطرابات نفسية نتيجة للصراعات اللاواعية التي كانت تعيشها).
الهــــو:[le ça]
-جانب خاضع لمبدأ اللذة
-الجانب الخفي في الشخصية
-الجزء المرتبط بما هو بيولوجي وغريزي
-خزان للطاقة الليبيدية [l’énergie libidinale]أي الطاقة الجنسية التي تولد الرغبة في إشباع الحاجة الجنسية
-المبدأ المولد لنزوتي الحياة والموت لأنه محكوم بالنزعة الإيروسية [نسبة إلىEros””“ اله الحب في الميثولوجيا الإغريقية] والنزعة التاناتوسية [نسبة إلى thanatos”“ إله الموت عند الإغريق ]
- ترمي نزعة الحياة إلي إشباع الرغبة الجنسية وترمي نزعة الموت إلى العدوان تجاه الغير فنتحدث عن ما يسميه فرويد بالســـــــادية[le sadisme] أو إلى الرغبة التدميرية للذات فنتحدث عن المازوشـــــــــــية   le masochisme ) ] -لا يعد” الهو“ خزانا للرغبة فقط بل هو أيضا رقعة امتصاص للعقد النفسية التي تبدأ في التشكل منذ الطفولة المبكرة مثل عقدة أوديپ التي تتشكل لدى الطفل كنتيجة لتعلقه الجنسي في المرحلة الفمية بأمه وغيرته الغريزية من الأب الذي يحتل مكانة المنافس في موضوع الرغبة العاطفية لدية والتي يقابلها لدى الإناث عقدة إيلكترا.
الأنا الأعلى:[ le sur moi]
-جانب خاضع لمبدأ الواقع
-دوره مواجهة الرغبات ونزوات الحياة أو الموت ومنعها من التسلل إلى سطح  ”الأنا“
-يمارس وظائف الضبط والحكم والاتهام والتجريم والإشعار بالذنب والخطأ والخطيئة وبتعبير أدق هو عنصر يمـارس الرقابة الذاتية علــــى الأنا
-هو الجانب الثقافي و الاجتماعي والتربوي والديني
-يرجح فرويد في كتاب ”الطوطم والمحرم“[totem et tabou]   انه قد نتج بسبب الجريمة الأولى التي وقعت لدى القبائل الطوطمية وهي جريمة قتل الأب مـــن طرف أبنائه الذين منعـهم الأب من ممارسة الجنس مـع جميع نساء القبيلة اللائــي انفــرد بهن لذاته ولكن بعد قــتل هذا الأب أحس الأبناء بالذنب  فقامت العديد من الشعائر التكفيرية عن ذلك الذنب مثل ظاهرة الختان التي هي ممارسة رمزية تحمل طابعا جزائيا بالأساس.
لقد أكد فرويد من خلال نظرية اللاوعي أن الإنسان هو كائن غريزي بالأساس تحكمه عقد الجنس والعدوان بطريقة لا واعية ولاعقلانية حتى وان تظاهر بالعفة والأخلاق والاعتراف بالغير فان ذلك لا يعدو أن يكون إلا حيلة من حيل الأنا الظاهرة التي يسعى الإنسان بها أن يخفي ما يدور داخل لا وعيه العميق الذي يستمد جذوره من الصدمات الطفولية التي تسعى دائما إلى اختزان التجربة الخصوصية للفرد وإمتصاص تاريخه وزمنيته الملتصقة في حميميتها بحضور الغير داخل افقها وتأثيره إيجابا أو سلبا في    توازنه أو لا توازنه النفسي الذي قد يتحول إلى حالات مرضية متفاوتة التعقيد ومن هذا المنطلق يكون للبعد الكرونولوجي والتاريخي ضلعا واضح المعالم في مسألة الإنية والغيرية ..
     ت‌-    التاريخ:
        يقول ابن خلدون في”المقدمة “:«التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار …وفي باطنه نظر وتحقيق» ويفهم هذا القول على عدم التعامل مع الظاهرة التاريخية سواء كانت تاريخا شخصيا للفرد أو تاريخا جماعيا للشعوب تعاملا سطحيا بل يجب التحقق من صحة الخبر غيران النظر والتحقيق اللذان دعا إليهما الفكر الخلدوني هما الإعتراف بالتاريخ وبفلسفة الوقائع والأحداث ودور ذلك في هيكلة العمران البشري وفهم التحولات التي طرأت عليه ورصد دور البعد الزمني في موقعة العلاقات الإنسانية فيما بينها لأن حاضر الإنسان هو استتباع منطقي وتواصل بشكل ما لماضيه الشخصي أو الاجتماعي أو الحضاري أو الاقتصادي أو السياسي …
من هذا المنطلق سعى العديد من الفلاسفة إلى فهم الإنساني في تكثره وتنوعه ضمن تصور معين لفلسفة التاريخ وفي هذا الإطار سنكتفي بعرض تصورين كان لهما قيمة كبرى ضمن تاريخ الفلسفة وهما النظرية المثالية الجدلية لجورج ويلهالم فريديريك هيڤل(I831-1770) والنظرية المادية التاريخية لكارل ماركس (1883-1818).
*النظرية المثالية الجدلية لهيڤل:
تعبر المثالية الجدلية قراءة فلسفية للتاريخ العام للإنسان أي هي حفر في منطق التاريخ الكلي دون أن تختص في تاريخ معين لحضارة ما أو لشعب من الشعوب وسميت هذه المدرسة بهذا الاسم لان الهيڤلية قد سعت إلى تتبع نشأة الفكرة أو المفهوم عبر التاريخ وتطورها ضمن مسار جدلي أي ثنائي قائم على التداول بين السلب والإيجاب، النفي والتحقق، الفعل والانفعال، الإغتراب والتحرر، العبودية والسيادة، الموضعة والتذويت، النكران والإعتراف،  النسبية والإطلاقية…وذلك تتبعا لتشكل الفكرة
المطلقة عبر صيرورتها التاريخية(الصيرورة من صار يصير أي تحول عما هو عليه وتبدل من وضع إلى آخر). فحسب هيڤل كانت بدايات تشكل العالم من الروح أو الفكرة أو الوعي المطلق (لتقريب الصورة من الأذهان يمكن استحضار ما تحدثت عنه الأديان السماوية بشان قصة الخلق التي انطلقت من فكرة الإله الذي قال للعالم كن فكان) فكانت الطبيعة اللانهائية أولا غير أن العقل المطلق أحس بالإغتراب في الطبيعة فحاول البحث عن ذاته وتجاوز الموضعة التي نتجت له بفعل تحول الفكرة إلى موضوع طبيعي فاكتشفت الطبيعة إمكانية البحث عن العقل داخلها باعتباره ملكة موجودة في الطبيعة ولم تكتشف بعد لذلك قام هيڤل برصد لحظات ظهور العقل ومراحل اكتشاف الإنسان للوعــــــــــي الذي مر بمراحل ثلاث هي:الوعــي” في الذات“[la conscience en soi] (وهي لحظة وجود الوعي كاستعداد طبيعي لم يكتشف ذاته بعد)والوعـي” بالذات“[la conscience de soi] (وهي لحظة اكتشاف الوعي لدي الإنسان باعتباره مبدأ يميزه عن بقية الكائنـات )  والوعــي ”للذات“ [la conscience pour soi] وهي أهم مرحلة في تجربة الوعي نظرا لأنها تجسد لحظة إلتقاء الوعي الفردي بالوعي الفردي الآخر  وعمل كل منهما على نزع الإعتراف من الطرف المقابل بذاتيته لان طبيعة النظرة الأولى بين إنسان وإنسان آخر تكون عادة مموِضعة أي تتعامل مع الآخر كموضوع وليس كذات مفكرة وواعية ومالكة لما يمكن أن تفتقده الذات الأولى .
إن عملية إنتزاع الإعتراف بين الطرفين كانت من ابرز محطات كــتاب ” علم ظهور الــــروح “[la phénoménologie de l’ esprit] لهيڤل لان هذه المسألة لايمكن أن تحل حسب هذا المفكر إلا بخوض الصراع الذي يضع خلاله كلا الطرفين حياته في الميزان فإما أن يعترف به الآخر أو أن يموت، لكن فد يحدث أن يضعف احد الطرفين خلال النزاع فيفضل الحياة لكن تفضيل الحياة في صراع يمكن أن نموت خلاله له ثمن باهض هو أن يقبل الطرف المنهزم بان يكون عبدا للطرف المنتصر الذي انتزع الإعتراف به كذات من طرف الوعي الثاني؛ لكن تاريخ العلاقة بين السيد والعبد لن ينتهي هنا فسيعى العبد إلى استرجاع السيادة المنتزعة وذلك عن طريق العمل وعن طريق تطويع الطبيعة لفائدة السيد الذي سيظل مكتوف اليدين منتظرا لما سيقدمه له العبد من جهد غير أن العبد سيكتشف هذا الدور الذي يلعبه ويعرف انه إذا لم يعمل سيموت السيد جوعا وبذلك يضحي العبد سيدا لسيده والسيد عبدا للعبد فيتحرر الطرف الثاني وتستبدل العلاقة بينهما بعلاقة حقوقية يكون بها لكليهما حاجة للآخر.
لقد حاول هيڤل أن يبين من خلال ما يسميه ب:جدلية السيد والعبد، هذه القراءة الرمزية للتاريخ إزدواجية العلاقة بين الإنية والغيرية ذلك لأن الوعي بالذات يستوجب الوعي بالآخر ويحتاجه حتى وإن مرت العلاقات البدئية بينهما ببعض العراقيل لذلك يقول: «إن الوعي الذاتي لا يحقق لنفسه الإشباع إلا عن طريق وعي ذاتي آخر».
*الماركسية والقراءة المادية التاريخية للتاريخ:
لئن انطلق هيڤل من مسلمة نشوء الوعي أولا وبروز العلاقات الاجتماعية على ضوئه ثانيا ضمن ابرز لحظات تعرف الروح المطلق على ذاته فان ماركس قد عمل على قلب الجدل الهيڤلي معتبرا إياه جدلا يمشي على رأسه ويجب أن نقلبه على قدميه وذلك لسببين:أولا لأن الهيڤلية إنطلقت من الروح المطلق أي من السماء لتصل إلى الأرض وثانيا لان الوعي حسب المنظومة الماركسية هو نتاج للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية وليس كما هو الشأن بالنسبة لهيڤل حيث يقول كارل ماركس في كتاب:” الإيديولوجيا الألمانية“:«ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة بل إن الحياة هي التي تحدد الوعي» ومعنى ذلك وباستعمال المفاهيم الماركسية لا يكون وعي الإنسان الذي هو عبارة عن بنية فوقية[l’ultra structure] تظم كل ضروب الأنشطة الثقافية بم في ذلك اللغة و الدين و الفن والأدب إلا نتاجا لبنية تحتية[l’infra structure] هي المجتمع والإقتصاد والمؤسسات السياسية وهذه البنية هي التي تحدد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد ومن ثم طبيعة الوعي الذي ينتج لذلك يقول ماركس في نفس الكتاب:«إن الوعي هو أولا نتاج إجتماعي ويظل كذلك طالما وجد بشر».
من هذا المنطلق كانت القراءة المادية للتاريخ التي قام بمقتضاها ماركس برصد التحولات الكبرى التي طرأت للوعي استنادا لتأثره بطبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه ومن ثم رصد التغيرات الكبرى للمراحل التاريخية فالإنسان الأول كان يعيش في المرحلة المشاعية البدائية وهذه المرحلة اتسمت بالوجود الاجتماعي البدائي الذي يعكس وعيا قطيعيا نظرا لعدم توفر الأرضية الاقتصادية للاستقرار حيث كان الصيد هوالمبدا الإنتاجي الوحيد الممكن، لكن مع اكتشاف الزراعة بدأت بوادر الملكية في التشكل من خلال ملكية الأرض وملكية العبيد الذين هم القوة المنتجة وفي هذا المجتمع العبودي بدأت بوادر الوعي الطبقي في الظهور نتيجة لوعي العبيد باضطهادهم من قبل السادة وهذا المناخ الاجتماعي هو الذي أسهم في ثورة العبيد و تحويل المجتمع إلى مجتمع إقطاعي شهد هو الآخر علاقات اضطهادية من قبل مالكي الأرض ووسائل الإنتاج تجاه الاقنان هذه الطبقة التي تعمل بمقابل جزء ضئيل من الإنتاج، ومع بروز الثورة الصناعية وتركيز أسس المجتمع الرأسمالي كان الصراع الطبقي مرتكزا بين الرأسمالية البرجوازية والﭙروليتاريا [le ploritariats] الشغيلة والمضطهدة الشيء الذي يجعل من الثورة حتمية تاريخية قصد تأسيس مجتمع اشتراكي يكون فيه العمال مالكين للمصانع والفلاحين مالكين للأرض لينتهي التاريخ بتصدير الثورة الاشتراكية إلى بقية العالم وتأسيس النظرية الشيوعية الكونية.
لقد حاولت الماركسية الإجابة عن سؤال الإنية والغيرية من منظور تاريخي واقتصادي يجعل من المسألة مجرد صراع طبقي بين إنية مسيطر عليها وغيرية مسيطرة اقتصاديا وسياسيا ويجعل من التاريخ عامل مصالحة بين الطبقات الاجتماعية لكن السؤال الذي يطرح هل يمكن فعلا إيجاد مجتمع خال من الطبقية ومحقق فعلي لعدالة مزعومة ولمصادقة حقيقية بين الإنية والغيرية الشيء الذي يشرع إلى دراسة العلاقات الممكنة بينا وبين الغير هل هي فعلا منبنية على العدوانية أم على الصداقة أم على ضرورة المصادقة؟
3  -الإنية والغيرية: جدلية الاختلاف والائتلاف:
لقد حاولنا دراسة الإنية في مدلولاتها المختلفة راصدين تكثرها وآخريتها المترامية الجذور بين الوعي والجسدية واللاوعي والزمنية غير أننا لم نكد نفلت خلال هذا التمشي من التعريج على مفهوم الغير[l’ autrui] الذي يعرفه جون ﭙول سارتر بقوله:«هو ذلك الأنا الذي ليس أنا، ولست أنا هو» فالغير وعي مغاير وجسد مغاير ولا وعي مغاير لي ومنفصل عن تجربتــــي الوجودية وعن هويتي وخصوصيتي ومجالي الفكري والوجداني وإن شاركني الإطار الزمكاني [le cadre spatio-temporelle]الذي يحتويني وإياه في هذا العالم، أما الغيرية فهي الإنفتاح على مجال الذوات الأخرى المغايرة لي جسدا ووعيا و المختلفة جنسا ولونا ومعتقدا وفكرا وثقافة وتوجها إيديولوجيا.على ضوء هذه الاختلافات الجوهرية بين الإنية والغيرية تبدو أية علاقة بين الذاتيتين شائكة نوعا ما فهل أن هذا الغير المختلف عني مكمل لي أم مكبل لحريتي واستقلاليتي؟هل يمكن تحقيق مصالحة ومصادقة بينا وبين اللا-أنا أم أن الصراع والتصادم هو النتيجة الحتمية المحتملة والواردة رمزيا أو واقعيا؟هل يعني الاختلاف بين الذاتين خلاف بينهما؟إلى ما ترد أسباب الخلاف ؟هل هي وجودية أم طبيعية أم ثقافية أم نفسية أم اقتصادية أم تاريخية؟كيف يمكن تجاوز حالات الصراع مع الغير وتحويلها من فردانية فوضوية مكرسة للأنانية والانغلاق والوحدة إلى غيرية إنسانوية[un altruisme humaniste] معترفة بالغير ومؤسسة لثقافة الحوار و التسامح والتكاتف والتعاطف ومحولة للوضع الإنساني ومن سباق التدافع إلى أخلاقيات التتابع و من حب البقاء إلى حسن البقاء؟
    أ‌- فلسفة الصراع بين الأنا والغير:
يمكن للصراع مع الغير أن يتخذ أشكالا مختلفة و وضعيات عدة تتنوع بتنوع الأسباب وتختلف باختلاف نظرتنا له والنتيجة المرجوة قبليا من هذا الخيار لذلك سنحاول رصد هذا المفهوم في بعض المرجعيات الفلسفية التي كنا قد بدأنا الحديث عن بعضها بعد، وذلك وفق هذا الجدول الذي لا نريد به في الحقيقة التأريخ لتاريخ الأفكار الفلسفية بل استعراض بعض أسباب وملابسات العلاقات اللامتوازنة القائمة أساسا على العنف والتعالي وعدم الإعتراف والموضعة والرغبة في التجاوز بين الأنا واللا- أنا الشيء الذي يجعل من الاختلاف بين الإنية والغيرية خلافا حقيقيا قد يعزز الرغبة في الأنانية ويخرجنا من كثرة الإنساني إلى وحدة الفرد:
هوبز والأصل الطبيعي للصراع:
يعتبر هوبز(1679-1588) وهو فيلسوف أنڤليزي يصنف تاريخيا ضمن فلاسفة العقد الاجتماعي بان طبيعة الإنسان قائمة أساسا على العدوان تجاه الغير حيث يصف لنا في كتاب ”التنين “ وضعية الإنسان في حالة الطبيعة وهي فرضية عمل انطلق منها بعض الفلاسفة للبحث عن اصل المجتمعات الإنسانية وأصل المؤسسات السياسية التي نشأت لتسوية الوضع الإنساني الموسوم بالعنف الناتج عن التنافس والاحتراس وحب المجد ولكن السبب الأكثر جدية والأكثر إستدعاء للعنف هو الصراع لأجل البقاء الشيء الذي يعلن حالة” حرب الكل ضد الكل“التي لا تعبر إلا على أن” الإنسان ذئب للإنسان“[homo homini lupus] الشيء الذي يستوجب إيجاد حل سياسي لاستنقاذ الإنسان متمثل في اختراع جهاز الدولة عن طريق التعاقد.
فرويد والأصل النفسي للصراع:
-إن توجه سيڤموند فرويد وكما تعرضنا لذلك هو شبيه جدا بما ذهب إليه هوبز حيث يقول في كتاب” قلق في الحضارة“:«إن الإنسان ينزع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب الآخر والى استغلال عمله دون تعويض عنه وإلى استعماله جنسيا دون رضاه و إلى الاستحواذ على ممتلكاته وإهانته وإلى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله »وذلك استنادا إلى النزوع الايروسي والثاناتوسي الذي تحكمه العقد اللاواعية المختزنة منذ الطفولة في الخزان اللاشعوري للهو القائم أساسا على إرضاء مبدأ اللذة الذي يتعارض مع مبدأ الواقع المحكوم بالرقابة الشديدة للأنا الأعلى.
ماركس والأصل الطبقي للصراع:
أساس الصراع حسب التصور الماركسي هو الفروق الطبقية الناتجة عن فروق اقتصادية بين الطبقة الفقيرة والمضطهدة وبين الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج ولذلك يكون الوعي الاجتماعي هو وسيلة لخفض التوتر بين المواقع الاجتماعية قصد تحقيق مجتمع اشتراكي قائم على ديكتاتورية الپروليتاريا وفق مبدأ "الأرض للفلاحين والمصانع للعمال"
سارتر والأصل الوجودي للصراع:
-الصراع السارتري شبيه جدا بالتجربة التي تحدث عنها هيڤل بين وعي السيد ووعي العبد قبل خوض الصراع الديالكتيكي الرامي لنزع الإعتراف لذلك يقول في احد مؤلفاته:« إما أنا أو الآخر».
-يقول في كتاب” الأبواب الموصدة“:« الجحيم هو الآخرون »ومعنى ذلك لا يفهم إلا بفهم التوجه العميق للفلسفة الوجودية القائم أساسا على تقديس مفهوم الحرية الفردية الذي لا يكون له أي معنى إذا ما تقاطع مع حرية أخرى لأنا مغايرة الشيء الذي يحدد حرية الطرفين وبالتالي يكون له دور فاعل في تكبيل الأنا وخنق أفقها اللامحدود
- مفهوم الصراع لدى سارتر ليس ديناميكيا كما هو الشأن بالنسبة لهوبز أو ماركس بل هو صراع ستاتيكي ثابت لأنه قائم أساسا على الموضعة للغير والنظرالى الشخص الغريب كشيء كانسان نكرة فاقدا لأي معنى من معاني الإنسانية
ب-  نتائج الصراع بين الإنية والغيرية:
لقد أفرز الوعي العميق بقيمة وخطورة مسألة العيش مع الآخرين  بما يتضمنه من أخلاقيات وأدبيات وتنازلات ناجمة عن الاختلافات الطبيعية والنفسية والاجتماعية والإيديولوجية والرمزية العديد من التوجهات الفلسفية والفنية يمكن تلخيصهما بضرب من ضروب المجازفة الفكرية إلي تيارين اثنين هما تيار الوحدة وتيار الكثرة:
فلسفة الوحدة :
يرمي  هذا التوجه إلى عزل الفرد عن الغير ونبذ أي شكل من أشكال التواجد الاجتماعي نظرا لأن الإنسان هو كائن يمتاز بالخصوصية الفكرية التي تجعله قادرا على التفكير بمفرده ومواجهة مصيره في معزل عن الوصاية الاجتماعية والرمزية للغير ومن بين أقطاب هذا التوجه نجد المدرسة الفردانية التي من ممثليها المفكر الألماني” ماكس شتاينر“[max Stirner](1806-1856)صاحب كتاب «الفرد و ملكيته» الذي أكد فيه أن الفرد لا يحتاج إلى مجتمع يفرض عليه أنماط القولبة الثقافية والدينية التي تسعى دائما إلى مد الفرد بإجابات جاهزة قد لا تجيب فعليا عن ميولاته وذوقه ونمط الحياة الذي يختاره لذاته، كما أن الأجهزة السياسية التي تحاول إجبار الفرد على أن يكون كائنا عضويا تتوقف حريته بمجرد حضور الآخر ضمن مجاله هي أنماط قمعية تسعى دائما إلى تأكيد ذوبان القيمة المتميزة لما يحق للفرد أن يملك من خيارات وحريات فعلية لذلك يرفض هذا الفيلسوف الديمقراطيات القائمة على تغليب رأي الأغلبية على حساب الأقليات التي هي فئة من المجتمع يحق لها أن تختار ما تراه مناسبا لتسيير شؤونها·
إن أطروحة هذا التيار ، وإن دعت إلى عدم المجازفة بالفرد والتضحية بخصوصيته في سبيل إسعاد المجموعة ،قد تناست أن الفردانية المبالغ فيها هى فوضوية إنتحارية لا تنبت إلا الوحشية ولا تنبئ إلا باللا-حضارة··
فلسفة الكثرة:
إن الحديث عن فلسفات الكثرة ضمن مسألة الإنية والغيرية يرجح استدعاء الأفكار الأخلاقية المعاصرة أكثر من غيرها من بين الأنساق الفلسفية التي تناولت هي الأخرى مسألة الاختلاف التي زخرت بها فلسفة ما بعد الحداثة على سبيل المثال، لسبب بسيط هو اعتبار بعض الكتاب الأخلاقيين أن الحديث عن الغير اليوم موضوع يتسم بأكثر إستعجالية من غيره نظرا لما تروجه حضارة المشهد اليوم من صور مروعة لا تشي إلا بانتهاك الغير واستهدافه بضروب العنف والإقصاء المادي والرمزي ومن بين أم هذه التيارت الانسانوية سنكتفي بالتعرض لمفكرين كان لهما شديد الأثر في عقد المصالحة المفقودة ضمن حلقات تاريخ الإنية الأنانية والغيرية الملغاة وهما إيمانوئيل ليفيناس وماكس شيلر :
إيمانوئيل ليفيناس [Emmanuel levinas]
- يعتبر من الذين اتسمت كتاباتهم بالخطاب الايتيقي(الأخلاقي) المنفتح على الغير وقد انعكست التجارب التي عاشها في حياته على هذا التوجه حيث ولد بليتوانيا سنة 1905 وهاجرت عائلته إلى روسيا إبان الثورة البلشفية أين عاين عن كثب مآسي الفقر والعنف والتفرقة الاجتماعية بين الفقراء والمترفين ثم سافر إلى فرنسا بمفرده في فترة مابين الحربين قصد الدراسة الجامعية وفي تلك الأثناء شهدت تلك الفترة صعود النازية التي أحدثت العديد من المآسي من اعتقالات وقتل وتعذيب للأبرياء ولم يسلم هذا المفكر كغيره من المثقفين حيث سجن لمدة خمس سنوات وتعرض جميع أفراد عائلته للإبادة من قبل الجيش النازي وكنتيجة لهذه الظروف التاريخية أطلق صيحة فزع تدعو إلى السلم والتآلف مع الغير فكتب كتابات مضادة للإرهاب والحرب والنازية
- دعا في كتاباته إلى البينذاتية التي تقلص من التماس بين الذوات وتسعى إلى التعامل مع الغير كذات وليس كموضوع لأن التعامل معه كذلك يجعلنا متخارجين عنه والأفضل أن تتداخل ذواتنتا أي أن يجعل كل منا الغير مسؤوليته الرئيسية فالفرد إذا أراد يستطيع أن يفعل أي شيء ضد الغير ولكن الغير يطالبني بكل شيء أيضا لذلك تكون مسؤوليتي تجاهه ما إن يري وجهي وجهه لانهائية.
-ابرز فكرة شملها كتابه ”الكلية واللانهائية“ تحليل رمزية النظر إلى الغير” وجها لوجه“ التي هي أكثر التجارب أخلاقية لان وجه الإنسان هو الجزء الأكثر تعري لديه وهو كذلك الأكثر افتقارا والأكثر وضوحا وهشاشة تجعله عرضة لكل ضروب العنف ولذلك فان هذا الوجه يكون قادرا على التكلم دون كلام أي أن قسماته وبؤسه المرسوم عليه تكون قادرة في رمزيتها الصامتة والمعبرة في نفس الوقت أن تكلمني وتجبرني على عدم ارتكاب جريمة القتل لان الوجه حسب ليفيناس هو دلالة دون نص.
ماكس شيلر[Max scheler]
- ماكس شيلر هو فيلسوف ألماني معاصر جسد كتابه  ” طبيعة وصورة التعاطف““ركيزة فلسفته الأخلاقية حيث قام فيه بدراسة ظاهرة التعاطف والحوار وفهم انية  الأنا والآخر قصد تأسيس مشروع حضاري للتعامل بين الأنا والانت من منظور انصهاري متلاحم يؤسس للتواصل ويشرع للكثرة والعيش المتآنس و أكد أن التعاطف هو أساس الإنصهار الاجتماعي وفك العزلة عن المجموعات المهمشة والأقليات المستبعدة والمقصاة اجتماعيا أو سياسيا والتي يعبر  عنها بالجماعات اللا-عضوية
-عند هذا المفكر يكون أساس الأخلاق كالتزام هو المشاعر التي يحملها كل فرد بداخله والتي تخاطبنا لحظة القيام بالفعل الأخلاقي عن طريق حدس مباشر حاصل عن شعور عفوي لا يستند إلى أية مرجعية دينية أو اجتماعية فلحظة الشعور بالآخر هي اللحظة الحقيقية للأخلاق
- ضمن هذا الفهم الحدسي للأخلاق يحاول شيلر نقد  التصورات التقليدية للأخلاق مثل الأخلاق الدينية التي ترجع الفعل الأخلاقي إلى واجب يمليه الوعي الديني لان الأخلاق الدينية هي أخلاق ملغومة وتحمل العديد من المفارقات التي حاول الكشف عنها خاصة في كتاب ”إنسان الحقد“ ومن ذلك مثلا الوعي الديني يدعو ضمنيا إلى فعل الخير ولكنه يحمل في طياته اللاواعية نوع من التفرقة بين معتنقي  الديانات أو المذاهب المختلفة  وبذلك لم تخرج الأديان من العقد الإيديولوجية الحاملة في طياتها لشحنات الرغبة في العنف فمثلا نجد أن المسيحية هي ديانة تدعو إلى التسامح ولكنها شهدت العديد من الحروب بين الكاثوليك والبرتستان.
- ملخص نظرية هذا الأخير هو أن الانفتاح الحقيقي على الآخر والاعتراف به يجب أن يكون عن طريق وعي ذاتى نابع من حدس عاطفي ذاتي وليس من أي إملاء خارجي يمليه الدين أو القانون.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم