العنف السّياسي في تونس: ديمقراطية بآليات الاستبداد
من المفارقات العجيبة التي نشهدها اليوم في بلادنا وخاصة
بعد انتخابات 23 أكتوبر 2012 هو لقاء الأضداد"العنف والديمقراطية":
تطربنا الخطب السياسية على اختلاف ألوانها ومرجعياتها وتثلج صدورنا عندما تتحدّث
عن تجربة ديمقراطية في تونس فريدة من نوعها أفرزتها انتخابات نزيهة وديمقراطية
وشفافة...الخ تعد الجميع بالعدالة
والحرية والكرامة من جهة، ومن جهة أخرى ترتعش
أجسادنا وتضطرب أفكارنا وتتبدّد أحلامنا عندما نعايش يوميا وفي كل أرجاء وطننا
العزيز مظاهر مختلفة من العنف الموجّه للأفراد والمجموعات وحتّى الممتلكات الخاصة بشعارات
دينية يغلب عليها التعصّب ونبذ الحوار المتمدّن و رفض قبول الآخر المختلف إيديولوجيا
وثقافيا.
ان طرح مثل هذا المشكل اليوم للنقاش يكتسي أهمية كبرى
باعتباره يتعلق بمصير شعب بأكمله ورسم ملامح سياسته الداخلية والخارجية لأن النهج
الديمقراطي التي يتبعه الائتلاف الحاكم تحوم حوله عدة نقاط استفهام سواء من حيث
النوايا أو من حيث فهم هؤلاء للديمقراطية والتنمية.
أنّ تفوز
ديمقراطيا من خلال صناديق الاقتراع هذا لا يعني أبدا أنك بالضرورة أصبحت ديمقراطيا
لأنّ الديمقراطية منظومة رؤى ثقافية وليست مجرّد شعارات ونوايا حسنة.
"الترويكا" ومأزق الديمقراطية:
الأطراف التي ارتضت الديمقراطية خيارا أو قسرا- لست أدري-
لم تكن حريصة كل الحرص على تكريسها بصورة منهجية وفي تلاؤم
تام مع روح الديمقراطية التي نادى بها شعب انعتق للتوّ من ربقة الاضطهاد والظلم،
ذلك أن الائتلاف الحاكم لم يفهمها إلاّ في معناها الأرستقراطي الأفلاطوني وهو التشريع
لقانون الأغلبية في كل المسائل ولم يراع التدرج العقلاني في اقامة المؤسسات
الجديدة الذي يتطلب الوفاق وأخذ رأي
الأقلية وتشريكها في جملة الخيارات ولم لا المناصب لإيجاد مناخ ثقة يساعد على حل المشاكل العويصة التي تعيشها البلاد والتي تعجز
على حلّها الأغلبية في أيّ حكومة في العالم.
إنّ المؤشرات
الأولى لسلوك حركة النهضة التي تقود الائتلاف الحاكم منذ أشهر في تونس تقول إنها حكومة
ذات طابع ايديولوجي ديني ستنتهي ضرورة إلى دولة قمع مثلما حدث في تجارب أخرى، فحين
تمارس السياسة وأنت مقتنع بأنك تمتلك الحقيقة وأن خصمك بالضرورة مخطئ وكلما عارضك
أحد توجّه له ترسانة من التهم كالخيانة أو بث البلبلة والفوضى أو التكفّير.
أن تتوجه لتحكم شعب وأنت لا تحمل في مشروعك السياسي سوى
رؤية واحدة تقوم على ثقافة دينية لا تؤمن بحكم الانسان للإنسان بل بحكم الله
للإنسان وكل ما هو مخالف لشرع الله يعتبر كفرا، فانك لا تؤسس دولة ديمقراطية بقدر
ما تمهّد الطريق للعنف والفوضى.
لقد وجدت "الترويكا" نفسها وبقيادة حزب حركة
النهضة بعد تسلّمها الحكم في مأزق سياسي أربك في تقديري كل خطواتها السياسية والاقتصادية،
لنقل كل محاولاتها للإصلاح، بين أن تبقى وفية لمبادئها الايديلوجية وما وعدت به
قواعدها في الخطاب البيني الداخلي، وبين متطلبات العولمة في معناها الواسع اليوم
حتى لا تجد نفس مصير حركة حماس بفلسطين المحتلة على سبيل المثال فسارعت تطلب ودّ
كلّ الدوائر الرأسمالية الغربية والعربية بالتأكيد على أنها حكومة مدنية ديدنها
ارساء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بين الجهات.
كما أنّ عدم
التزام هذه الحكومة بالديمقراطية في معناها الحقيقي بما هي ديمقراطية توافقية وتمسّكها
بمنهاج ديمقراطية تلفيقية مشوهة أربك أداءها وجعلها ضعيفة متذبذبة مما انعكس سلبا
على واقع البلاد اليوم من خلال تفاقم الفقر والبطالة وتزايد حجم المديونية للخارج،
وكل مظاهر العنف لاسيما العنف السياسي من خلال تنامي ظاهرة السلفية يوما بعد يوم
التي أصبحت وكأنها فوق القانون.
العنف السياسي ومخاطره:
ولفهم حقيقة العنف عموما والعنف السياسي خصوصا يمكننا
العودة إلى دلالة هذا المفهوم ولو بايجاز:
كثيرا
ما يعرف العنف على أنه " لجوء غير مشروع للقوة وأنه فعل مرادف للشدّة يؤدي
إلى إلحاق الأذى بالآخرين " ( جميل صليبا : المعجم الفلسفي – 1994 ).
لذلك من الصعب جدا الحديث عن نوع واحد من العنف بل عن أنواع وصور مختلفة يتداخل
فيها العنف المادي بنظيره المعنوي والعنف المعلن بالعنف الخفي . في هذا السياق
يمكن القول إنّ أشكالا جديدة من العنف قد ظهرت بعد ثورة 14 جانفي 2011 نتيجة
الاعلان عن ميلاد ديمقراطية مشوّهة مع الحكومة الحالية أو حتّى مع الحكومة التي
سبقتها. هذا العنف نلحظه في شتّى المجالات بدءا بالمجال المهني مرورا بالمجال
الإعلامي ووصولا إلى المجال السياسي ، وهو عنف يختلف في مضامينه وأهدافه ووسائله
عن "عنف الدولة" الذي أشار إليه "ماكس فيبر" Max Weber وأضفى عليه المشروعية كل من "اريك فايل"
و "كانط" ، باعتباره الأداة الرئيسية لتطبيق القانون وحفظ الأمن وضمان
الاستقرار.
ولعل
ما يجعل العنف السياسي من أخطر أنواع العنف هو كونه يهدّد االتوازن الاجتماعي و يعصف بأركان الدولة ويفقدها هيبتها .
ولئن
تعددت التعريفات المتعلقة بمفهوم العنف السياسي فإنه يوجد شبه إجماع في أوساط
الدارسين والمختصين في مجال علم الاجتماع السياسي على أن العنف يصبح سياسيا متى
تكون أهدافه ودوافعه سياسية عقائدية.
أيّ ديمقراطية وأيّ دولة نريها بعد الثورية
ما
أحوجنا اليوم لدولة ديمقراطية تحقق أهداف الثورة وتكون وفية لدماء شهدائنا البررة،
وفي هذا السياق أستنجد بكتاب المقدّمة للعلامة ابن خلدون حيث عندما أكّد بأنّ الاجتماع البشري يحتاج الى وازع يمنع اعتداء
افراد ذلك الاجتماع على بعضهم البعض مبينا ان الوازع الاخلاقي والديني غير كاف
لتحقيق هذه الحاجة ومبينا ان الوازع السلطاني هو الوازع الذي من شانه ضمان التعايش
السلمي بين افراد المجموعة البشرية الواحدة كما انه الكفيل بحماية تلك المجموعة ضد
الاعتداءات الخارجية. انّ مهمة السلطة الحاكمة حفظ الأمن الخاص والعام وإذا
لم تقم بدورها المدني فقدت شرعيتها كسلطة يحتكم اليها الناس وينتظمون ضمن
تشريعاتها.
كل
دولة لا تستمدّ قوتها إلاّ من عدلها وإنصافها بين مواطنيها دون تمييز وهذا لا يمكن
تحقيقه إلاّ بإتباع نهج ديمقراطي ينزع عن نفسه العباءة الحزبية الثاوية لكل مقومات
العنف والعنف المضاد.
الديمقراطية التي
ننشدها إذن هي كما تناولها عالم الاجتماع الفرنسي "ألان توران" في
كتابه"ماهي الديمقراطية؟" حيث يشرح، بوضوح، لماذا
ينبغي أن لا نفهم الديموقراطية كمجرد حكم للأكثرية، وكيف أن العملية الديموقراطية
مرشحة لأن يهدّدها عدم التسامح، دينياً كان أو اثنيا أو قومياً.
فالديموقراطية لا يمكن أن تنهض على القوانين وحدها،
كما يرى "توران"، بل ينبغي تأسيسها أيضاً على تطور التربية السياسية
التعددية وعلى قلقٍ ما حيال العنف، فضلاً عن مفهوم حديث للمساواة يميزها، جوهرياً،
عن النظرة التوتاليتارية إليها.
إن الديموقراطية، في تقديره، نظام من التوسط الدائم
بين الدولة والعناصر الناشطة اجتماعياً في المجتمع.
وختاما يمكن القول انّ الديمقرطية والعنف ومن
الناحية المنطقية خطّان متوازيان لا يلتقيان أبدا، ولكن تلتقي اليوم هذه الأضداد
لتبعث فينا الخوف على مستقبل ثورتنا التي أضاءت شموع الأمل لكل المضطهدين في
العالم فلا بدّ من تصحيح مسار الثورة الذي لا يكون في تقديري إلاّ بتصحيح تصورنا
للديمقراطية الحقيقية وما تحمله من قيم انسانية كونية كالعدالة الاجتماعية والحرية
وحقوق الانسان وحقّ الاختلاف.
الشاذلي الكسّابي
القيروان في: أفريل 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق