الديمقراطية والاستبداد المقنّع
إنّ الديمقراطية ليست حكم الأغلبية
و من الخطأ اعتبار أن الأغلبية
التي تحصد أصوات في الانتخابات هي التي تحتكر السلطة وبهذا نكون قد حققنا
الديمقراطية.
الديمقراطية وانزياح المعنى:
يعدّ مصطلح الديمقراطية واحد من بين المصطلحات في علم
السّياسة الذي حضي بكمّ هائل من التعريفات، كما يعدّ مطلبا رئيسيا لكل الشعوب
المضطهدة لاسيما منها الدول العربية التي ترزح تحت وطأة الاستبداد بكل أشكاله وقد
تجلى ذلك في كل شعارات الثورات العربية وفي مقدمتهم تونس.
بالعودة إلى أصلها الاشتقاقي الإغريقي الديمقراطية هي
حاصل دمج الكلمتين (demos) وتعني الشعب وكلمة (Krtos) وتعني
سلطة، وعند دمج الكلمتين معا نحصل على المفهوم "ديمقراطية" الذي يشير
إلى سلطة الشعب أو حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب.
يبدو أن هذا المفهوم قد فُهم خطأ
عن قصد كان أو عن غير قصد، فمنذ انتخابات 23 أكتوبر 2011 بتونس وصعود
"الترويكا" إلى سدّة الحكم لم نلمس من الديمقراطية سوى معنى وحيد: هيمنة
كتلة على كل السلط والاستبداد بالرأي.
إنّ حكم الاغلبية إذا لم يكن في مجتمع حر فإنه يتحول الى
دكتاتورية الأغلبية كيف ذلك؟
إنّ الحرية هي الغاية والديمقراطية هي الوسيلة أو المنهج
للوصول إليها وإلاّ ما فائدة أغلبية تستلم
السلطه بأغلبية التصويت وهي مَنْ تستأثر بكل مقدرات الشعب وممارسة الأحكام حسب ما
يناسب فكر وتطلع ومُعتقد تلك الأغلبية؟
وماذا بشأن الأقلية التي لا تشاطر الأغلبية قناعاتها
الفكرية والأيدلوجية؟
كيف ستعبر عن
قناعاتها ورفضها لما لا يتناسب وطموحاتها ورغباتها؟
لا يوجد غير إجبارها
على القبول برأي الأغلبية وبذلك تتحقق الدكتاتورية بمفهومها الفكري الصحيح.
وخير دليل على ما ذهبت إليه ما يجري عندنا لقد أطرد
الشعب الدكتاتورية دافعا ثمنا باهظا يتمثل في الشهداء والجرحى من خيرة شبابنا،
ودخلوا هم بدكتاتوريتهم الجديدة المكسوة بلباس الديمقراطية باسم الأغلبية.
فالديمقراطية هي روح ونص هي نص كما فسّرها فلاسفة
اليونان وهي روح كما يجب ان تكون حافظاً للإنسان و لحريته الكاملة وحقه الكامل في
العطاء والمشاركة في المجتمع حُكما ونقدا وبناءً، فالديمقراطية ليست حكم الأغلبية
فهي عبارة عن مجموعة من المعايير والمسلمات التي يجب أن يؤمن بها المجتمع قولا
وممارسة.
يجب أن نقبل أنّ إرادة الأغلبية ليست مرادفة للحكمة،
الألمان صوتوا لصالح "هتلر" كما أنّ "شامبرلين" أُنتخبت
بطريقة ديمقراطية، وقد صوّت الجزائريون لصالح "جبهة الإنقاذ" التي تحمل
فكرا مناهضا للديمقراطية إنّ القرارات الديمقراطية هي قرارات الأغلبية لكن ليست كل
القرارات التي تتخذها الأغلبية قرارات ديمقراطيه. هل من الحكمة أن تعيّن "الترويكا"
الولاة والمعتمدين مثلا من لون سياسي واحد؟
أليست الكفاءة هي التي يجب أن تكون الشرط الوحيد لهذه
التعيينات؟ من المضحك والمبكي في نفس الوقت أن "الترويكا" تتحدّث بأنها
اعتمدت هذا الشرط يا للصدفة الغريبة!
لم تعثر "الترويكا" في بحثها عن الكفاءات بكامل أرجاء الوطن إلا من حركة
النهضة!؟ هل من
الحكمة أن يُتّخذ قرار خطير (بمعنى الأهمية) وأُحادي الجانب بشأن تنحية محافظ البنك المركزي وتعيين آخر؟
كما أصبحت جلسات المجلس الوطني التأسيسي ومناقشاته للمسائل المصيرية عملية شكلية
تغلب عليها الرتابة التي تبعث على الملل والاشمئزاز: في كل مناسبة نعيش مشهدا من
النقاشات والتحاليل المهمّة تتخلّلها بعض التشنّجات ـ وهذا أمر عادي ـ ولكن ما هو
غير عادي وغير ديمقراطي هو أن كل تصورات المعارضة تتبدّد لحظة التصويت باسم
ديمقراطية الأغلبية، لقد سئم المواطن هذه المشاهد المسرحية الهزيلة والمحزنة.
إنّ هذا الإنزياح على الديمقراطية
الحقّة من طرف الرئاسات الثلاث يرسي بظلاله على الشارع التونسي من خلال العديد من
الاعتداءات على حرية التعبير والتفكير مثل الإعتداءات التي يتعرّض إليها المبدعين
والفنانين، أو على الحريات الفردية مثلما تعرّضت له الموظفة بصفاقس من تدخل سافر
في حرية لباسها عندما كانت بصدد الدخول لمقر الولاية لقضاء شؤونها، والواقع إنّ
الأمثلة في هذا المجال كثيرة.
الديمقراطية بماهي الإرادة عامّة:
حكم الأغلبية يجب أن يكون نابع من إرادة شعبية ويجب على
هذه الأغلبية أن تدرك أنّها لا تمثل كل الشّعب وليست الوكيل الحصري له ويجب على الأغلبية
أن يكون لها برنامج انتخابي وطني يركز على هموم الناس وقضاياهم اليومية وسيادتهم
الوطنية وألّا تستند على المصالح الحزبية الضيّقة، فالناس لا يهمهم من سيحكم بقدر
ما يهمهم من سيُحقّق أهداف الثّورة كالتشغيل والحرية والعدالة ... ويهمهم من
سيُطبق القانون على الجميع لأنّ الأغلبية المستندة على حسابات حزبية ضيّقة، تفسد
بالضرورة قيم الديمقراطية الحقيقية وسيكون مآلها السقوط.
هكذا إن أكبر
خطر على الديمقراطية اليوم يكمن في صعود أناسا لا ديمقراطيين إلى السلطة. وهذا ما
سمّاه سيوران cioran في كتابه "التاريخ
والطوبي بـ "المفارقة المأساوية للحرية". وهكذا، فقد تسمح انتخابات
قانونية بغزو السلطة من قبل جماعات التي لا تؤمن بالديمقراطية نتيجة تعصّبها
الايديولوجي.
إذا العلاج الوحيد هو أن تعمل الأحزاب السياسية التي تكوّن
ائتلاف "الترويكا" ببرامج وطنية فيها الولاء أولا وأخيرا للوطن والمواطن
دون الالتفات لأيّة اعتبارات أخرى تشوّه صورة الديمقراطية الحقيقية تكون في محصلتها الحرية والعدالة والكرامة
للجميع، وأن تحترم وجهة نظر الأقلية في رسم سياسة البلاد الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية والثقافية.
الشاذلي الكسّابي
القيروان في: جويلية 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق