مفهوم الأنا والآخر …
محمد عابد الجابري
انتشر في
الخطاب العربي خلال العقود الأخيرة استعمال مفاهيم كثيرة لم تكن متداولة من
قبل. وكما يحدث عادة عندما ينتشر مفهوم من المفاهيم لأول مرة ليعبر عن وضعية
اجتماعية أو سياسية أو فكرية فإن الناس يتعاملون معه بكثير من التساهل، خصوصا إذا
كان مترجما من ثقافة أجنبية ولا "أصل" له في ثقافتهم. لذلك يحسن القيام
من حين لآخر بالتذكير بالمضمون الحقيقي لتلك المفاهيم في الخطاب الثقافي/الفلسفي
الذي فيه نشأت وإليه تنتمي. خصوصا ونحن ما زلنا نفتقد في العالم العربي أكاديمية
عربية واحدة تضبط الأمور في هذا المجال.
لنبدأ
بمفهوم "الأنا والآخر" الذي ينتمي أصلا إلى الفكر الأوربي ولنتساءل : ما هو المعنى الذي يعطيه هذا الفكر لهذا المفهوم؟
ودون
الرجوع إلى الفكر اليوناني الذي انبنت رؤيته للعالم على ثنائية الإنسان والطبيعة،
باعتبار أن الإنسان مركز الكون، ومقياس الأشياء، وأن حقيقته أنه عقل أو
"صورة" في مقابل الطبيعة أو "المادة"، ودون الرجوع كذلك إلى
الفكر المسيحي وثنائية الأب والابن، واللاهوت والناسوت الخ… قد يكفي هنا التذكير
بأن الفلسفة الأوربية الحديثة هي أساسا فلسفة "الأنا"
("الذات") : الإنسان ذات في مقابل العالم الذي هو موضوع لها. والفكرة
المؤسسة لفلسفة "الذات" هذه هي كوجيتو ديكارت: لقد شك هذا
الفيلسوف الفرنسي في كل شيء و"مسح الطاولة" حسب تعبيره (طاولة فكره)،
مسحا ولم يبق لديه أي شيء آخر غير كونه يفكر: ومن هنا قولته الشهيرة: "أنا
أفكر إذن أنا موجود". وهذا يقتضي أن وجود "الأنا" سابق ومستقل
عن وجود العالم وعن أي وجود آخر. ومن هنا كان كل وجود غير وجود
"الأنا" هو "آخر" بالنسبة لها، وبالتالي فعلاقة
التغاير هي علاقة بين الأنا والآخر ابتداء: سواء كان هذا الآخر هو الأشياء المادية
المحسوسة التي يتوقف وجودها على يقينه بوجودها، أو كان الشيطان الذي افترض أنه قد
يكون هو الذي ضلله فصار يشك في كل شيء، أو كان هو الله الذي اطمأن هذا
الفيلسوف إليه أخيرا باعتبار أنه لا يمكن أن يضلله -لكون فكرة الله في ذهنه
تشير إلى كائن منزه من الخداع والتضليل- ومن ثم جعله ضامنا ليقينه ذاك الخ.
وبعبارة عامة إن الشبكة التي يرى "العقل الأوربي" العالم من خلالها
وبواسطتها شبكة تهيمن فيها علاقة أساسية هي علاقة "الأنا"
و"الآخر"، لا علاقة "آخر" "بآخر".
***
سيطول
بنا الحديث ويتشعب لو أننا أخذنا نتتبع فكرة "الآخر" في الفكر الأوربي.
ذلك لأن هذا الفكر يتمحور كله حول هذه الفكرة، من ديكارت إلى هيجل وماركس إلى
سارتر إلى الذين جاءوا من بعده. لنقتصر إذن على إشارات مقتضبة، من هنا وهناك،
الهدف منها ليس استقصاء الموضوع بل مجرد إثارة الانتباه.
نقرأ في
قواميس الفكر الأوربي ومصطلحاته الفلسفية ما يلي: "الآخر: أحد المفاهيم
الأساسية للفكر (=كان يجب إضافة: الأوربي) وبالتالي يستحيل تعريفه، ويقال في مقابل
الذات Le même" " أو "الأنا".
أما هذه الأخيرة (الذات) فلا معنى لها سوى أنها المقابل، لـ"الآخر"
Autre تقابُلَ تعارض وتضاد، أو
أنها المطابق لنفسه المعبر عنه بـ identité وهو ما نترجمه اليوم بلفظ "الهوية" أو
"العينية"، أي كون الشيء هو هو: عين نفسه. وإذن فالغيرية في الفكر
الأوربي مقولة أساسية مثلها مثل مقولة الهوية. ومما له دلالة في هذا الصدد أن
كلمة altérité أي الغيرية ذات علاقة
اشتقاقية بـالفعل altérer والاسم altération وتعنيان تغير الشيء وتحوله إلى الأسوأ (تعكر، استحالة، فساد)، كما
ترتبط بالاشتقاق بكلمة alternance التي تفيد التعاقب
والتداول. ومعنى ذلك أن مفهوم "الغيرية" altérité في الفكر
الأوربي ينطوي على السلب والنفي. بعبارة أخرى: يمكن القول إن ما يؤسس مفهوم
الغيرية في الفكر الأوربي ليس مطلق الاختلاف، كما هو الحال في الفكر العربي، بل
الغيرية في الفكر الأوربي مقولة تؤسسها فكرة "السلب" أو النفي. La négation، فـ
"الأنا" لا يفهم إلا بوصفه سلبا، أو نفيا، لـ "الآخر".
وغني عن
البيان القول إن لفظ "الأنا" في العربية المعاصرة إنما هو ترجمة لأداء
معنىLe même بالفرنسية وego بالإنجليزية والألمانية.
وكلمة ego لاتينية
تدل على ما تدل عليه كلمة "ذات" في اللغة العربية حينما يقصد بها الشخص
المتكلم. ومن هذه الكلمة اشتقت مصطلحات أخرى مثل égocentrisme وهو ما نترجمه اليوم بـ "التمركز حول الذات". ومنها
أيضاégoïsme بمعنى "الأنانية" في الاستعمال اللغوي
العام، أما في الاصطلاح الفلسفي فالكلمة تدل على المذهب الفلسفي الذي يعتبر وجود
الكائنات الأخرى، غير "الأنا"، وجودا وهميا، أو موضوع شك على الأقل. ومن
هنا المذاهب الفلسفية المثالية idéalismes التي لا تعترف بأي وجود آخر غير تمثلات الأنا : فالعالم هو ما
أتمثله وأتصوره وليس هناك وجود آخر.
يقول
الفيلسوف اللاهوتي العالم الفرنسي، بليز باسكال : "للأنا خاصيتان، فمن جهة هو
في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق
للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم؛ ذلك لأن كل "أنا" هو عدو، ويريد أن
يكون المسيطر على الكل".
من هنا
يتضح أن مفهوم "الأنا" مبني على السيطرة، سيطرة
الذات على ما تتخذه موضوعا لها، سواء كان هذا الموضوع أشياء الطبيعة أو
أناسا آخرين. وفي هذا المعنى كتب ماكس هوركهيمر يقول: "من الصعب جدا أن يحدد
المرء بدقة ما أرادت اللغات الأوربية في وقت من الأوقات أن تقوله وتعنيه من خلال
لفظ ego (الأنا)، إن هذا
اللفظ يسبح في تداعيات غامضة قاحلة. فمن حيث أنه مبدأ "الأنا" (الـ ego ) الذي يحاول جاهدا
كسب المعركة ضد الطبيعة على العموم وضد الآخرين من الناس على الخصوص، كما ضد
الدوافع السلوكية التي تحركه، يبدو مرتبطا بوظائف السيطرة والحكم والتنظيم" ،
ويضيف قائلا : "ولم يتحرر مفهوم الأنا في أي وقت من حمولاته وشوائبه الأصلية
الراجعة إلى نظام السيطرة الاجتماعية".
من خلال
هذا التصور لـ "الأنا" كمبدأ للسيطرة يتحدد موقع "الآخر"
ودلالته ووظيفته في الفكر الأوربي، أي بوصفه موضوعا للسيطرة أو عدوا، أو بوصفه
قنطرة تتعرف الذات من خلاله على نفسها. يقول سارتر: "أنا في حاجة إلى توسط
الآخر لأكون ما أنا عليه".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق