منزلة الآخر في تجربة الوعي

التيجاني القماطي متفقد الفلسفة

رغم بيان عورات القول بانكفاء الذات و امتلاء الوعي و تعاليه فإنّ نقد الذات بقي نقدا منها و إليها و لم يفلح في زعزعتها و إزاحتها عن عرشها متّخذا شكل فعل سيزيفي فالنقد و إن كان للتعالي فهو ضرب من التعالي من حيث هو فعل تجاوز و مع ذلك لن نتردد في معاودة النقد انطلاقا من هذا العمل الذي يبتغي تعقب مستويات حضور الآخر و أنماط هذا الحضور في تجربة الوعي بالذات و بالعالم. فما هي بدء الآلية التي بمقتضاها ترسم الذات معرفة بذاتها و بالعالم و أي موقع يحتلّه الآخر ضمن هذه الآلية.؟سؤالان يلتقيان في تقديرنا عند سؤال كانطيّ الصياغة: ما هي شروط إمكان الوعي.؟ و الواقع أنّ الأطروحة التي نعتزم بلورتها مضادة للكانطية و تقوم على إثبات ضرورة استحضار الآخر و الإقرار بازدواجية دور ه في تجربة الوعي و هذا المقصد يستوجب تعقب استتباعات غياب الآخر و حضوره كما يقتضي توقفا يميز ضمن دلالة الآخر بين الآخر كشبيه و الآخر كمختلف أو بين ما قد نصطلح عليه بالغير autruiو الآخر le differend . و لقد آثرنا في غير وفاء للتقاليد الأكاديمية أن ننطلق من أثر أدبي أو لنقل من أثر هو أقرب للأدب منه إلى الفلسفة دونما تنكّر للفلسفة مستأنسين في ذلك و إلى حدّ ما بأعمال دولوز.و لاقتناعنا بأنّ مثل هذا الاختيار قد لا ييسّر مهام المتقبل غير العارف بمضمون الأثر المعتمد فضّلنا في بداية مداخلتنا إعطاء فكرة موجزة عن هذا الكتاب و هو للأديب الفرنسي المعاصر ميشال تورنيMICHEL TOURNIER و هو بعنوان :VENDREDI OU LES LIMBES DU PACCIFIQUE (جمعة أو حدود المحيط الهادي) متجاوزين ما قد يترتّب عن هذا التلخيص من مزالق أهمّها أن تلخيصا تحكمه استراتيجية المداخلة و مقاصدها قد يصمت عمّا يقدّر البعض ضرورة الكلام عنه أو يتكلّم عمّا يؤثر البعض الصمت عنه. و لقد أعطانا ميشال تورني مبررّا لهذا الانتقاء في خاتمة كتابه " طيران مصّاص الدماء"(LE VOL DU VAMPIRE - EDT mercvre de france 1981) اذ يقول:" أن ننشر كتابا فذلك يعني أن نقدم على تسريح مصّاص دماء لأنّ الكتاب هو بمثابة طائر جافّ منزوف متلهّف على الدفء البشري و إذا حلّق فانّه يبحث عن قارئ, كائن لحم ودم حيث بإمكانه أن يحطّ ليتغذى من حياته وأحلامه و هكذا يبلغ الكتاب منتهاه: أثر حيّ."
تنطلق أحداث هذا الكتاب من شخصية أسطورية ألهمت العديد من الأدباء هي شخصية روبنسون كروزواي و قد وجد نفسه - اثر زوبعة -ملفوظا على جزيرة مجهولة (esperanza) و في عزلة تامة. المحطّات التي تهمنا من هذه القصّة ثلاثة:
- لحظة انقطاع حبل السّرة الوهمي مع المجتمع عندما وجد البطل نفسه على الجزيرة المجهولة و أدرك فقدان الآخر.
- اللحظة الثانية رصدناها في سعي روبنسون كروزواي لأنسنة الجزيرة.
- اللحظة الثالثة و الأخيرة لقاؤه المفاجئ بشخص نكرة سمّاه جمعة VENDREDI
ما طبيعة الحضور النوعي للآخر في تجربة الوعي ضمن هذه اللحظات الثلاث لملحمة روبنسون كروزواي.؟
لقد تراوحت المقاربات الفلسفية في تناولها لإشكالية الوعي بين السولبسية ( الأنا وحدية) و الإقرار بضرورة توسّط الآخر و بداية القصّة تنخرط ضمن الاختيار الثاني فهي تترجم عن حاجة الإنسان للآخر كأساس للوجود و المعرفة و القيم وتتقاطع بذلك مع الأطروحات الاجتماعية و الأنتروبولوجية المؤكدة على أنّ الإنسان نتاج عالم الإنسان لكنّ المراحل المتقدّمة من القصّة تترجم عن تمرّد يكشف عمّا في الاجتماع من تفقير
مإذا يطرأ لو غاب الآخر.؟ لقد تجاوز السؤال مستوى الفرضية ليتحوّل إلى واقع معيش اذ بمجرّد أن خطا كرزواي الخطوات الأولى في الجزيرة أدرك حقيقة عزلته... عزلة مفروضة لم يخترها بمحض إرادته تفاجئه بصمتها صمتا مطلقا لا يخترقه ضد " إلا ما قد يسود بين الشمس و الأرض بين النور و الظلمة بين الكلّ و اللاشيء .المدرك و اللامدرك المعلوم واللامعلوم في مواجهة مطلقة يستحيل فيها ما لا يراه إلى عدم مطلق و حيث لا يوجد ( كروزواي) تسود ظلمة الهاوية و الخط المجرّد اللذان يعوّضان القاع و المشكّل... غياب الآخر هو غياب الاصطدام الذي ينبئنا بالسرعة المهولة لحركتنا." هكذا يقول م. دولوز في تقديمه لكتاب م. تورناي. تلك إذن هي الحقيقة الأولى المستخلصة من غياب الآخر. و هي تعلن و في غير تنسيب أنّ نسق حركتنا يتحدد بحركة الآخر هذا الذي يعمّر العالم بضجّة مطمئنة تحوّل كلّ تبرّم من حضور الآخر " إما أنا أو الآخر" إلى قول ينسى أو يجهل شرّا أعظم هو ذاك الذي ينشأ من لامبالاة عالم الأشياء و هي لامبالاة قال عنها م. تورناي على لسان بطله:"إن وحدتي لا تنسف قابليّة تعقّل الأشياء فقط و إنما تنسف جذريا وجودها حتّى لكأنّ الشكّ يتهدّد كلّ إحساساتي إلى درجة أنّ الأرض التي أقف عليها تضلّ في حاجة ملحّة للآخر كي لا تميد , لآخر يقف عليها." ص 46-47.
و لئن بدا التشكيك في الوجود الموضوعي للأشياء و العالم من قبيل المبالغة الأدبية بحيث لا يقنعنا بحاجة وعينا لحضور الآخر فانّ نمط وعينا بطبيعة الأشياء قد يحسّسنا أكثر لطبيعة هذا الحضور و حدود هذا الدّور.
إنّ من لم يختبر العزلة المطلقة و الدائمة قد لا يدرك حقيقة الدور الذي يضطلع به الآخر في تجربة الوعي. وروبنسون كروزواي عاش اللحظتين... و دون الخوض في مسألة ما إذا كان سعيد الحظّ بذلك أم لا , نقول أنّه قد خبر الاجتماع إلى حدّ الضجر و خبر العزلة إلى حدّ مناجاة الضجر في قوله:" كم كنت أستخفّ ببرهان الإجماع عن وجود الله... و اليوم أدرك أن لا بديل عن حجّة الإجماع سواء تعلّق الأمر بوجود الأشياء أو بوجود الأفكار و الصور و الأحلام." إذ كيف يستقيم وجود الأفكار و غياب الآخر يهدّد بانقراض وظيفة النطق بدء بالمجازي منه. إنّ غياب الآخر يمثّل في حدّ ذاته شرّا مضاعفا يهدّد وعي الذات بذاتها و بالعالم: شرّ الدغمائيّة و شرّ الارتياب ففي غياب الآخر يتطابق الوعي مع موضوعه ولم يعد ثمة مجال للخطأ أو ينفصل عنه كليا و لم يعد ثمة مجال للحقيقة , فالمحكمة التي ستعيّن الحقيقة و الخطأ انتفت و هكذا نرى أن الآخر هو الذي يعيّن نسبة الوصل أو الفصل بين الوعي و موضوعه اذ من أدرانا أن العالم الموضوع يستمرّ على نحو مغاير¸من أدرانا أن للموضوع إمكانات حضور­.؟ في هذا السياق يذهب بول ريكور في كتابه " أنا كالآخر"(SOI - même COMME UN AUTRE . EDT POINT 96) إلى القول :" إن الغيرية (alterite) لا تنضاف من الخارج إلى الهذية (ipseite) للحيلولة دون انحرافها نحو الأنانة (solipsisme) و إنما تنتمي لمضمون المعنى و التركيبة الأنطولوجية للهذيّة." . ص367
على هذا الأساس أدرك روبنسون كروزواي أنّ الآخر لا يستمرّ في عالم الموضوعات استمرار متميّزا بحكم طبيعته كانسان مقارنة مع الأشياء فقط و إنما كذلك و على وجه الضرورة باعتباره بنية تتميّز عن سائر البنيات من حيث هي شرط إمكان كلّ بنية , فهي التي تؤمّن تشكّل المقولات وانطباقها, لذلك يقول دولوز في كتابه( منطق المعنى ص 358): " إن ما يجعل الإدراك ممكنا ليس الأنا و انّما الآخر من حيث هو بنية." لمثل هذه الاعتبارات تتعطل عملية الإدراك كلّما غاب الآخر.
إننا في هذا المستوى من الأطروحة غير بعيدين عن الهيغلية اذ ترى بأن الأنا لا يرغب في شيء ما لم يكن مرئيّا مفكّرا فيه أو ممتلكا من قبل الآخر أو حتى من قبل آخر ممكن أو متخيّل ذلك أنّ الآخر حسب هذا الاعتبار هو من يوجّه رغبتي نحو موضوعها لأنّه هو من يعيّن هذا الموضوع كموضوع رغبة ممكنة.
لقد انتهى الأمر بروبنسون كروزواي في ظل غياب الآخر إلى مضاجعة أرض الجزيرة و إحدى شجراتها و أدرك ساعتها أن العزلة ليست فقط ارتيابا أو جنونا و إنما هي كذلك و بنفس القدر نوع من الانحراف و الشّذوذ. لذلك كانت أول مهمّة طرحها البطل على نفسه هي الإفلات من خطر السقوط بخلاص العودة. و " الهروب" هو الاسم الذي أعطاه لمركب ضخم صنعه من أشجار الجزيرة تحت وقع رغبة في الالتحاق بالآخر رغبة أنسته غياب الآخر فعجز عن دفع المركب نحو البحر فحتى الهروب إلى الآخر يستوجب حضور آخر. هكذا أدرك روبنسون محطة اليأس و العجز عن اللحاق بالآخر. لذلك لم يجد من حلّ غير استحضار صورة الآخر من خلال محاولة تشكيل الجزيرة النكرة طبقا لما ترسّب في ذاكرته عن الآخر...فطفق من عجزه المنتج يفلح الأرض و يزرع و يؤهّل حيوانات الجزيرة و هو ما جعله ينتبه إلى دور الآخر في مجال القيم إذ يقول :" أدرك اليوم جنون و شراسة الذين انتهكوا قداسة المال , هذه المؤسسة الإلهية التي ما إن مسّها جحر روحنته و أعطته بعدا عقليا مكمّما و كونياّ." هكذا تفطّن البطل لا إلى قيمة المال وسلطته فحسب و انما إلى أهميّة المنفعة و إلى إمكانية إدراك العصر الذهبيّ لو كان الأمر بيد أشخاص نفعيّين " فاللانفعيّون هم الذين يصنعون التاريخ و لذلك تأتي النار على كلّ شيء و تراق الدماء."
نختتم هذا المستوى الأوّل من المقاربة بمجاز لميشال تورناي بيّن من خلاله أن الأنا لاشيء في غياب الآخر إذ يقول:" إن غياب الآخر يعدّ لحظة تقهقر و انحطاط ذلك أنّ الوحيد أشبه ما يكون بالجريح الذي تسنده الجماعة الثائرة فتحفظ استقامته كلّما كان تحت ضغط المجموعة لكنّه يسقط أرضا حال انفكاكها عنه."
و لكن لم استهجان السقوط و تمجيد الاستقامة وتقريظها؟ ألا يكون السقوط مناسبة لتأمّل الأرض أو مناسبة لرؤية الأشياء على نحو مغاير؟ أي على نحو ما تكون الفوضى مقدمة لنظام جديد؟ لم لا يكون السقوط فرصة الإمكان والاستثناء على حدّ تعبير كيركجارد أو أكسيجين الإمكان على حدّ تعبير وليام جيمس القائل:" شيء من الإمكان وإلا اختنقت." أليس في السقوط ضرب من الشذوذ الاجتماعي الذي ارتأى فيه ك. يسبرس فرصة للابتكار اذ يقول في كتابه عظمة الفلسفة :" إن اللاانتماء الاجتماعي قد يسبّب عذابا أليما . و لكنّ الألم إن لم يأت على الجسد يمنح الإنسان المنفيّ حظوظا خارقة : "تجربة الحدود"التي تظلّ خفيّة عمّن هو بمنأى عن هذا الألم, يمنحه الوعي الأوسع بالواقع الراهن بجملته يمنحه إدراك الإنسان كانسان عار... بعد إماطة اللثام عن أنواع الكذب الشائعة و ضروب مواضعات المصالح الاجتماعية التي تعتبر مقدّسة لا تمسّ... و تلك هي تجارب و إمكانات معروفة تقوم في مكان لم يعد مكانا."(عظمة الفلسفة . ترجمة عادل العوا سلسلة زدني علما 1988 ص171-172).
إن غياب الآخر يهدّد بانقراض الكلمة كما بينّا ذلك سابقا و لكنّه يحرّر كذلك من استراتيجيات التسمية و لقد أعطى غياب الآخر لروبنسون فرصة إعادة النظر في نظام استعمال الألفاظ و دلالتها من ذلك معنى العمق فالوعي الذي انتظم وفق حضور الآخر يتحدّث عن فكر عميق و حبّ عميق و جميعها ألفاظ تمجّد العمق مقابل السطح و تريد أن يكون معنى السطحي لا الفضاءات الشاسعة و إنما قلّة العمق في حين أنّ العمق لا يعني قلّة السطحيّة و إنما عظمة العمق و لكنّ الوعي الذي بدأ يتحرّر من حضور الآخر أو استحضاره كرقيب أو محدّد يدرك أن إحساسا كإحساس الحبّ يقاس إن كان لا بدّ أن يقاس بشساعة فضائه( الآخر) أكثر من درجة عمقه ( حبّ الأنا).
على هذا النحو لم يعد الآخر مصدر إثراء و شرط إمكان الوعي و إنما مصدر تفقير و سببا في زيف الوعي. فغياب الآخر و ذوبان بنيته لا يؤدّيان فقط إلى زعزعة نظام العالم و إنما يفتحان كذلك سبيلا للخلاص. كيف نفسر هذا الانقلاب في موقف روبنسون كرزواي من الآخر و الحال أنّنا بينّا في مستوى الطور الأوّل من القصّة و المقاربة أنّ الأشياء لا توجد إلا بالإمكانيات التي بها يعمـّر الآخر العالم
لتمثّل دواعي هذا الانقلاب لا بدّ أن نميّز بين الآخر الإمكان و الآخر النموذج وأغلب الظن أن روبنسون بصدد التمرّد على الآخر النموذج وريث ديكارت و العقلانية العلمية. لقد بات من الضروري أن ندرك الفرق بين الشيء كما يتبدّى في حضرة الآخر و نظيره الذي يتقحّم العالم في غيابه فالآخر النموذج وريث ديكارت و بنتهام و لوبلاي كما يقول عنه تورناي على لسان روبنسون :" يسجن العناصر في حدود الأجسام في حدود الأرض لأنّ الأرض ليست سوى الجسم الكبير الذي يشدّ إليه العناصر." و يحوّل الأجسام إلى مواضيع و بضائع.",
لقد بينّا إلى حدّ هذا الطور من المقاربة ازدواجية حضور الآخر في تجربة الوعي بالذات و بالعالم, ازدواجية يمكن التعبير عنها في ثنائيّة الإثراء و التفقير و انتهيا إلى تمرّد على الآخر ينبىء بمراجعة دلالة هذا المفهوم لهذا السبب علينا أن نبدأ في التمييز بين الآخر المماثل و الآخر المختلف أو ما أسميناه في بداية المداخلة بالغير و الآخر. و لكن لنتبيّن قبل هذا استتباعات ازدواجية حضور الغير في تجربة الوعي على بعض النظريّات الفلسفية , لنحاول الإجابة عن سؤال تلحّ نرجسية الفيلسوف بطرحه على الأديب. هل أن الصورة التي عكستها قصّة " جمعة أو حدود المحيط الهادي" عن دور الآخر في تجربة الوعي بالذات و بالعالم حدس فنّان أو ترجمة لمواقف فلسفية؟
و نستهلّ مباشرة هذا السؤال بملاحظة في غاية الأهمية و إن كانت ذات طابع شكلي , فكتاب ميشال تورناي الذي نحن بصدد قراءته تضمن مواضع حوار مباشرة مع الفلاسفة متميّزة في التقديم المادي للكتاب عن أحداث القصّة اذ وردت في شكل مذكّرات يدوّنها البطل فما سنقوله عن انعكاسات تجربة روبنسون على بعض النظريّات الفلسفية ليس مجرد استنتاج أو تأويل شخصيين و إنما تعبير صريح عن وعي الكاتب بتجربة بطله و انعكاساتها الفلسفية و نحن لا نحرص على تثبيت هذا البعد الشكلي إلا بغرض لفت الانتباه إلى جنس من الكتابة الأدبية لم يترك للقارئ مهمّة التأويل و الاستنتاج إذ اضطلع بهما صاحب الأثر بنفسه و بذلك تأكّدت الحاجة لتحديد موقع الكاتب بين الأديب الفيلسوف و الفيلسوف الأديب و هو تحديد يترصده مزلق الحكم على النوايا حتى وان كانت ثمّة تقنيات تنير السبيل لتحديد شكل الانتماء. على أيّة حال دولوز يعتقد أنّ كتاب ميشال تورني ليس أطروحة و لا قصّة تحليل باطني... هي تعلن مغامرات... و بإمكان الفلسفة أن تستقبل ما تعرضه القصّة بكلّ قوّة وحيويّة. ( منطق المعنى ص 354)
لنتجاوز هذه الملاحظة الشكلية و لنبحث في تبعات تقلّبات وعي روبنسون بذاته و بالعالم على الفلسفة. نظريات الإدراك التقليدية تصنف في خانة الأحادية بشكليها الحسي المادي و التصوّري المثالي و في خانة الاثنينية و في الخانتين نسجل حضور أسماء من نوع ديكارت و كانط و هيغل وهوسرل و غيرهم...
م تورناي يعتقد أنّ خطأ نظريّات المعرفة يكمن في افتراض تزامن الذات و الموضوع في حين أنّ الواحد لا يتكوّن إلا بتلاشي الآخر "فأنفي كما يقول هو الذي يبقى بعد أن تتأكد عدم واقعية الروائح" و يستنتج تورناي من تجربة روبنسون تجريد الأنا من نرجسيته بحكم الموقع الذي يحتلّه الآخر في تجربة الوعي.( ص84) فالآخر كما يقول دولوز "هو الذي سيؤمّن التمييز بين الوعي و موضوعه تمييزا زمنيا"( منطق المعنى ص 361 تمييزا يتشكّل فيه الموضوع قبل أية إرادة معرفيّة من قبل الذات و قبل أي قصدية وعي ان لم نقل أنه يبني قصدية الوعي أو تتشكّل فيه الذات متبطّنة للآخر كبنية قبل انبثاق أيّ موضوع . فالنظريات الفلسفية التي تعتقد في تزامن الذات و الموضوع تعبّر عن اثنينيّة مغلوطة وهو ما بيّنه دولوز في قراءته لكتاب تورناي . إننا نخطأ تحديد عناصر الثنائية كلما دأبنا على إقامتها بين مادة حقل الإدراك و تأليفات ذهنية للأنا" إن الثنائية في موضع آخر تماما : هي بين تأثيرات بنية الآخر في حقل الإدراك و تأثيرات غيابه." أي ما يكون عليه الإدراك بدونه. لم يدرك الآخر في أغلب النظريات التقليديبة للإدراك إلا باعتباره موضوعا أو باعتباره ذاتا أخرى للحقل والحال أنّه بنية تحدّد مجمل الحقل و نمط اشتغال هذا الكل. على هذا الأساس عندما يعرّف تورناي الآخر كتعبير عن عالم ممكن نكون قد جعلنا منه على العكس المبدأ القبليّ لكلّ تنظيم لحقل الإدراك طبقا للمقولات.( منطق المعنى 358-359) . من هذا المنطلق واحدية ديكارت خلف و اثنينيّة كانط إن سلّمنا باثنينيّته منقوصة فثمّة مقولة أساسية غفلت عنها المقولات الكانطية رغم أنّها شرط انطباقها و هي مقولة الآخر
إن عيب هذه النظريات يكمن في التراوح اللامتناهي بين قطب يختزل الآخر إلى منزلة الموضوع و قطب يرفعه إلى منزلة الذات و ساتر نفسه في مؤلّفه الوجود و العدم كما يقول دولوز "يكتفي بتنزيل هذا التراوح في الآخر في حدّ ذاته ببيان أن الآخر يستحيل إلى موضوع كلّما كنت ذاتا و لا يستحيل إلى ذات إلا إذا غدوت أنا موضوعا " ( الاختلاف و المعاودة ص 334.difference et repetition edt puf 93) على هذا النحو بنية الآخر والآخر كبنية بقيا مجهولين انّ هذه البنية كما يقول دولوز "ليست شخصا و لا تشير لأحد إنها فقط أنا بالنسبة للآخر و الآخر بالنسبة للأنا " و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نشخّص (personifier) الآخر كبنية ما دام الآخر يحضر كتعبير عن عالم ممكن كتعبيرعن الفرادة أو التفردية والفرادة تتميّز عن الأنا والذّات من حيث هي اللامحدّد , ما يطفو و ينساب و يتواصل وعلى هذا الأساس لا يكفي أن نضاعف الذات أو نقلّص من الأنا أي أن نستبدل المواقع بين الذات و الموضوع لنكتشف المنزلة الحقيقية للتفردية ( ج د :الاختلاف و المعاودة ص 334 ) الطرح الفينومينولوجي تجاوز استبدال المواقع و أقرّ بأنّ الآخر ليس محكوما عليه بأن يبقى غريبا بل بإمكانه أن يصبح صنوا لي أي قادر مثلي على أن يقول: أنا و كأنّ الشبه المؤسس على الوصل بين اللحم و اللحم يأتي ليقلّص مسافة ليملأ فراغا و لكنه في نفس الوقت يقضي على الخارجانية الجذرية و يؤكّد أن تصوّر شيء ما يعني إلحاقه بالذات و دمجه فيها و القضاء على غيريّته (ALTERITE)
في الوقت الذي فقد فيه روبنسون كلّ أمل في مغادرة الجزيرة و تأكدت له حقيقة عزلته التامة يظهر إنسان في الجزيرة في ظروف غريبة قدّرنا عدم الحاجة للوقوف عندها و بظهوره ستشهد حياة روبنسون و وعيه بذاته و بالعالم تحوّلا جذريّا والحقيقة أنّ هذا التحوّل قد تحسّسه روبنسون في ذاته من قبل تحوّل تشكّل شيئا فشيئا تحت تأثير العزلة و غياب الآخر في مرحلة أولى ثمّ بداية فقدان هذا الحضور من ذاكرة فلّت و انسابت منها بنية الآخر المتبطّن" لقد غابت المنارات عن حقلي...و الآن انتهى كلّ شيء لقد لفتني الظلمات( ص 47 ). و من علامة هذا التحوّل بداية تمجيد العزلة التي قال عنها:" إنها خمر معتقة و قويّة غير محتملة للأطفال لكنها مصدر نشوة و حبور للرجل الذي يعرف كيف يتحكّم في نبضات قلبه." هي الخمر التي أشعرت روبنسون بتحوّله إلى أذن كبيرة إلى جسد راداري و من المفارقات أن هذه الأذن الكبيرة حضرت لتمكّن روبنسون من الانتشاء بالصمت " أشعر بهمس حنفيّة الحياة... حياة أبت الانزلاق في ما أعدّه المجتمع مسبقا و طفقت تفيض من كلّ صوب و تنساب كنجم يبحث عن سبيل." " أشعر أنني مسرح لتحوّل جذري يستبدل أنقاض الوحدة بحلول طريفة... ثمة في داخلي كون في حالة تشكّل غير أنّ كونا من هذا القبيل يسمّى عماء(ص 98). في بداية العزلة شعر أنّه لن يتحرّر من الزمن الثقافي الزمن الذي شكّلته بعد بنية الآخر دون السقوط في الانحراف و العفن (ص79) لكنه الآن أدرك أنّ حضور الآخر و إن كان أساسيّا إلا أنه ليس ممّا يستعاض عنه بل و أدرك أنّ هذه الحركة التنازلية ليست سقطة و إنما رفعة لذلك أصبح يسعى لفقدان إنسانيته " لن أرتدّ لعشق بشري"( ص 24)فغياب الآخر أوحى لروبنسون أنّن الآخر عائق ضدّ الإمكان كما أدرك أن الآخر انحراف و اضطراب للعالم .فبغيابه لم تعد الأشياء تلحق ببعضها البعض فلا تدرك إلا باعتبارها أسبابا لتنتصب الآن ومجدّدا مستقلّة في حالة لالنعاض كما يقول. لكنّ هذه الانسانية التي بدأ يتمرّد عليها حضرته في لقائه الأول مع هذا الإنسان الغريب و حجّتنا في ذلك الأحاسيس التي انتابته و ردود فعله فأوّل مهمة طرحها على نفسه هو أن يسمي هذا الكائن الغريب ولا يخفى على أحد أنّ التسمية من رواسب بنية الآخر و لقد شكّلت هذه المهمّة معضلة حقيقية بالنسبة إلى روبنسون فليس ثمة لغة للتواصل و أيّ اسم سيعطيه لهذا الكائن الزنجي الذي لا ينتظر منه الكثير من العقل و لعلّه في أقصى الحالات قادر على الإحساس. انه كائن في مرتبة النفس الحاسة و ليس النفس العاقلة فلا يصدق عليه اسم إنسان و لكنّه ليس شيئا كي يعطيه اسم نبات أو حيوان. روبنسون انتهى إلى اختيار اسم " جمعة" لسبب بسيط ألا وهو اقتران يوم الالتقاء به مع يوم الجمعة في الروزنامة الشخصية لروبنسون . بداية علاقة روبنسون بجمعة لا تخلو من توتّر فكلّ ما كان يقدر جمعة على فعله هو انتهاك نظام الجزيرة الذي تشكّل طبقا لنموذج الآخر الذاكرة. فجمعة لا يقبل واقعة تأهيل الحيوانات في الزريبة و هو لا يتصوّر عملية قتل للحيوان إلا بعد عمليّة مطاردة تترك له كلّ الحظوظ و مثل هذه الرومنطيقية تحمل في ذاتها خطورة على نظام الجزيرة.
لكن تطوّر الأحداث في القصّة ستكشف شخصية أخرى لجمعة, شخصية ستضطلع بمهمّة استكمال التحوّلات الطارئة على روبنسون و تكسبها معنى و هدف كما يقول جيل دولوز فالعالم لا يضطرب لغياب الآخر وإنما ينفتح للتعدّد للإمكان فالعالم الآخر هو الذي يطمسه حضور الآخر الغير, هذا هو الاكتشاف الذي بدأ يهتدي إليه روبنسون : جمعة لا يسلك كآخر مستعاد .انه آخر الآخر أي الآخر المختلف كإمكان حقيقي في شخص جمعة و لا يخفى ما في ذلك من تمجيد للبربرية أو التوحّش. إن هذا الآخر المختلف لا يكتفي فقط باستحضار المهمش من المواضيع من حقل إدراكي انه إمكان رؤية الأشياء على نحو مغاير بأتم معنى الكلمة.
ينتهي روبنسون إلى الاعتراف بأنّه أخطأ في نظرته لجمعة و الحقيقة أنّ خطأه ترتّب عن نظرته للآخر المختلف برواسب بنية الآخر الغير لذلك لم يتردّد روبنسون في مناداة جمعة الذي كان يتوسط مرتبتي الشيء و الإنسان : يا أخي الصغير.
لنتوقف قليلا عند ملامح آخر الآخر أي جمعة. الأفعال الصادرة عنه لا تعكس عزما حرّا و متبصّرا فجمعة كان بمثابة طبيعة تنساب منها الأفعال و تحتلّ من الطبيعة الموقع الذي يحتلّه المولود من الأم . إنها أفعال التولّد التلقائي و حريّة جمعة لم تكن سلبا لنظام الجزيرة و إنما وحدة خفيّة كامنة في سلوكاته فجمعة لا يعمل بأتمّ معنى الكلمة و هو جاهل لمعاني الماضي والمستقبل تستغرقه اللحظة الراهنة . لقد أغرت هذه الملامح روبنسون فولّى وجهه صوب الشمس قائلا:" أيتها الشمس اجعليني شبيها بجمعة, هبني وجه جمعة الضاحك المنشرح هذا الوجه الذي يبدو كما لو كان قدّ من أجل الضحك... هذه العين التي تضيئها على الدوام سخرية و استخفاف بغرابة كلّ ما يحدث... هبني هذا الرأس المترنّح فوق الكتفين لينقذني من تشنّج الغباوة و الخبث."(ص 175) و يضيف قائلا في استعراضه لاستتباعات حضور آخر الآخر:" أشدّ الأشياء تغيّرا في حياتي هي سرعة انسياب الزمن و اتجاهه... أيامي انتصبت مؤكدة باعتزاز قيمتها الذاتية وجنسيتي اللاإنسانية لا تتلو رعشتها فتورا وإنما طاقة حيوية تهبنا قوة كافية ليوم و ليلة في انتظار شمس الغد لأنّني عاشق الشمس-الإله و بمثل ما عاد زارادشت بحكمة روح صقلتها شمس الصحراء يتطهّر روبنسون من إنسانية الآخر بعشق شمس أوحت بها بنية آخر الآخر.
إلى هذا الحد اكتملت ملحمة روبنسون في علاقته بالآخر , ملحمة أدرك فيها ازدواجية حضور الآخر و غيابه كما أدرك فيها أنّ الآخر ليس آخر ما لم يكن آخر الآخر أدرك فيها الفرق بين المعاودة و الاختلاف أو أن المعاودة المنشدوة هي تلك التي يعود فيها المختلف في اختلافه .و لكن أليست العلاقة بين الأنا و الآخر و على أيّ نحو تمثلناه علاقة تقاطبية بالضرورة و بمثل ما كان جمعة آخر الآخر بالنسبة لأنا روبنسون كان روبنسون آخر الآخر بالنسبة لأنا جمعة . فبماذا نفسّر انتصار هذا القطب على ذاك خاصة إذا استحضرنا ما قاله ابن خلدون عن الغلبة و التشبه بالآخر.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم