د. عصام عبدالله
الفعل
التواصلي
تؤدى اللغة، وهى إحدي أهم الوسائل التي يحول بواسطتها البشر بيئتهم، إلى ظهور ما
يدعوه هابرماس بـ”المصلحة العملية”، التي تؤدى بدورها إلى ظهور العلوم التأويلية.
وينصب اهتمام المصلحة العملية على التفاعل البشري، أي على طريقة تأويل أفعالنا
تجاه بعضنا البعض، وطريقة فهمنا لبعض، والسبل التي نتفاعل بها في إطار التنظيمات
الاجتماعية، فـ “الهيرمينوطيقا”- Hermeneutics ( أو علم التأويل)، تهتم بفهم ما يقوله البشر وما يفكرون به،
وعلاقة ذلك بأفعالهم.
وتهدف إحدى أفكار هابرماس الأساسية إلى الكشف عن الوسيلة التي بموجبها تقوم البني
الاجتماعية بتشويه عملية التفاعل وإثارة الاضطراب والبلبلة، إذ أن سوء الفهم وارد
بين البشر، كما يمكن خداعهم وتضليلهم بشكل منظم.
وتفضي “المصلحة العملية” إلى نوع ثالث من المصلحة وهى مصلحة “الانعتاق والتحرر”
التي ترتبط أيضاً باللغة، وتسعي لتخليص عملية التفاعل والتواصل من العناصر التي
تشوهها. وهذا النوع الأخير من المصالح يؤدى إلى ظهور العلوم النقدية مثل علم
التحليل النفسي، وهو علم يتخذه هابرماس نموذجاً.
وتنطلق العلوم النقدية من التسليم بقدرتنا على التفكير وعلى الوعى وعياً ذاتياً
بما نعمل، ومن أننا عند اتخاذ أى قرار نقوم بوزن الأمور واتخاذ ما هو أصوب منها،
على أساس الوقائع المعروفة لدينا وانطلاقاً من إدراكنا لقواعد التواصل المقبولة
اجتماعياً.
ويقع التشويه حينما تخفي وقائع حالة معينة عن بعض المشاركين في عملية التفاعل
والتواصل أو عنهم كلهم، وعندما تحول القوانين، بطريقة أو بأخرى، بين البشر وبين
مشاركتهم بصورة كاملة في عملية اتخاذ القرار.
وغاية العلوم النقدية القائمة على مصلحة الانعتاق والتحرر هي الكشف عن التشويه
القائم في التفاعل والتواصل، وإصلاحه .
وهذه الفكرة هي أساس نظرية هابرماس النقدية ومنطلقها، وهى تتشابه إلى حد ما مع
النظرية النقدية التقليدية، إلا أن هابرماس قد توسع في كتابه نظرية الفعل
التواصلي- The Theory of Communicative
Action عام 1984، في فلسفة اللغة بهدف توسيع أساس النظرية النقدية
وتطويرها، وهو الكتاب الذي أثار جدلاً واسعاً بين هابرماس وأنصار ما بعد الحداثة،
واتهم بسببه بالشعوبية. ففى هذا الكتاب يدعو هابرماس إلى ضرورة التحرر من “فلسفة
الوعى” التي ترى العلاقة بين الفعل واللغة، كالعلاقة بين “الذات” و “الموضوع”، وهو
ما يجعلنا أسري للعقل الأداتي.
هذا من ناحية، من ناحية أخرى يرى أن الفعل التواصلي هو فعل لا أداتي، يرمي إلى
الوصول إلى الفهم والتفاهم، وأي تفاهم لا يمكن أن يفرض فرضاً من قبل أي من
المشاركين في عملية التواصل.
وعلى ذلك فإن العقل التواصلي بهذا المعنى هو فعل أساسي لا يمكن اختزاله إلى الفعل
الغائي العقلاني الذي ترتبط به “فلسفة الوعي”، ويترتب على إعطاء الفعل التواصلي
الأولوية عند هابرماس عدة أمور منها:
أولاً: إن العقلانية بهذا المعنى ليست مثالاً نقتنصه من وسط السماء، بل هو موجود
في لغتنا ذاتها وخاصيتها الأهم، وهى تلك التي يركز عليها هابرماس في حواره مع
أنصار ما بعد الحداثة، إن هذه العقلانية تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً يشمل
الجميع و لا يستبعد أحداً، وهدفه بل الهيمنة بل الوصول إلى التفاهم.
ثانياً: ثمة نظام أخلاقي ضمني يحاول هابرماس الكشف عنه، أعنى به الكلية الأخلاقية،
وهى فكرة لها وقع سيئ عند أنصار ما بعد الحداثة، إذ كيف يمكننا مجرد التفكير بنظام
أخلاقي ينطبق على جميع البشر بشتي مشاربهم وأنماط حياتهم؟
ووجهة نظر هابرماس تتمثل في أنه يمكن التوصل إلى المعايير الأخلاقية عبر نقاش حر
عقلاني، تبحث فيه نتائج كل معيار من تلك المعايير الأخلاقية انطلاقاً من خاصيته
الكلية، أي القبول والرضا العام عن طريق الإقناع العقلي لا القوة والقسر، وهو
الأمر الذي يكشف بجلاء عن انحيازه للحداثة ودفاعه عنها، إذ أن الحداثة تستدعي أن
يقوم النظام الأخلاقي على أساس عقلاني.
” إن النظرية عند هابرماس هي نتاج للفعل البشري، وتخدم غايات ذلك الفعل، وهو بشكل
أساسي أداة لتحقيق حرية أكبر للبشر، وهى تتطور بعدة مستويات متباينة. وبذا تأخذنا
بعيداً عن الأعمال المتأخرة لهوركهايمر وادورنو وأنصار ما بعد الحداثة الذين ترتبط
المعرفة عندهم بالهيمنة والاستبعاد، كما تتضمن نظرية هابرماس تطويراً لأعمال ماركس
الأولى بتحويل التركيز على العمل نحو التركيز على اللغة والتواصل.
لقد حاول هابرماس أن يستلهم تحليل ماكس فيبر - M. Weber لتطور العقلانية الهادفة وتضاؤل عقلانية القيمة في ظل التحديث،
وهو التحليل الذى ارتبط عند فلاسفة مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى ماركوز
بنظرية لوكاتش عن “التشيؤ” - Reification ورفض رأى أدورنو وهوركهايمر في التأكيد على ضرورة عقلانية القيمة
الفردية وقدرتها على مقاومة الآثار المادية لتحول العقل إلى أداة في إطار عملية
التحديث التي نشأت عن الرأسمالية الصناعية.
وفى المقابل يري هابرماس أن الصيغ الفردية لعقلانية القيمة لا حيلة لها إذا لم
ترتبط بمفهوم “الفعل التواصلي” بين الأفراد حتى يمكن مقاومة القيم التي فرضها
العقل بعد تحوله إلى مجرد أداة، وذلك بفضل مجموعة القيم الموضوعية والمتعارف
عليها، وصدق “توماس مكارثي” - Thomas Me Carthy في تقديمه لكتاب هابرماس الخطاب الفلسفي للحداثة حين قال: ” إن
مفتاح موقف هابرماس هو رفض ” نموذج الوعي” المرتبط بفلسفة الذات، مفضلاً عليه
نموذج التفاعل المستمر بين الذوات من خلال الفعل التواصل.
مقتبس من موقع دروب www.doroob.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق