إمبرتو
إيكو
|
|
قضايا
الدليل الفلسفية
|
|
ترجمة
: حسن الطالب
|
تقديم
هل يمكن تعريف الدليل وتقنينه بمعزل
عن استحضار السند الفلسفي الذي يرفد خلفيته الرمزية والتواصلية ؟ وهل تتحدد
الفاعلية الرمزية لدى الانسان بمعزل عن السلوك السيميائي في نطاق مجتمع وثقافة
معينة؟ ما العلاقة بين الدليل في صورته الذهنية المجردة وبين تحققه الفعلي بوصفه
تعبيرا كلاميا؟ من يسكن الآخر، نحن أم اللغة؟ كيف تتدخل السيرورة السيميائية من
خلال الدليل - في إنتاج المعنى والدلالات... ؟ ماهي أنماط الدلائل التي أنتجها
الإنسان على مر التاريخ والتي يمكن أن تدرج ضمن تاريخ إنتاج الرموز بدءا من
التقليد والمحاكاة وانتهاء بأرقى درجات التفكير السيميائي؟ كيف وعلى أي سند
بلورت المدارس اللغوية والفلسفية (الاسمانية-المثالية
-السكولائية-الهيرمينوتيكا) نظرية معينة للدليل؟ هل كان للتمييز بين الخطية
والصوتية أثر في توجيه محاولات تعريف الدليل وضبطه؟ أي علاقة تقوم بين الدليل
والواقع والفكر؟
تلك هي بعض الاسئلة التي يحاول
إمبرتو إيكو الإجابة عنها في هذا النص بما يكفي من الضبط المنهجي والتقصي
الموسوعي المعروف عن الرجل وعن جهوده وعطاءاته في هذا المجال مما يجعلهما في غنى
عن أي تعريف. ويشكل النص جزءا من الفصل السابع من كتابه الهام ''الدليل'' : Le signe الذي
صدر أول مرة بالإيطالية عام 1971 وترجم إلى عدة لغات. وقد ترجمنا النص عن الطبعة
الفرنسية التي صدرت عام 1988، ويغطي صفحات تمتد من 151 إلى160. وختاما نشكر
د.سعيد بنكراد الذي كانت مقترحاته في ضبط المصطلح وتحديده بمثابة تذليل لبعض
الصعوبات التي تطرحها ترجمة هذه النوعية من النصوص التي تنهل في استشهاداتها
وأمثلتها من لغات قديمة (لاتينية -رومانية وثقافات عريقة.
الترجمة
قلنا مرارا : إن الإنسان حيوان
رمزي، وهي عبارة لا تستهدف لغته فحسب، بل وثقافته كلها، إذ أن مواقعه ومؤسساته
وعلاقاته الاجتماعية ولباسه أشكال رمزية (1) يجسد فيها الإنسان تجربته لكي
يجعلها تجربة قابلة للتواصل. فالإنسانية توجد حيثما يوجد مجتمع. لكن علينا أن
نضيف : يوجد مجتمع عندما توجد تجارة في الدلائل. إذ بفضل الدلائل يستطيع الإنسان
أن ينفصل عن الادراك والتجربة الخالصتين وينعزل داخل فكره عن الزمان والمكان.
دون تجريد لا يوجد مفهوم ناهيك عن الدليل ولطالما نوقشت مسألة معرفة ما إذا كان
في ذهننا وفي (عالم علوي أو في الأشياء) شيء يمكن أن يطابق مفهوما أو فكرة فرس
(مثلا). والمؤكد، على كل حال، هو أن ثمة دليل يعادل - ما لم يحل الدليل المذكور
محل جميع الأفراس- شيئا معينا على الأقل نطلق عليه، من خلال العادة، فكرة فرس .
إن كل نقاشنا الفلسفي حول الأفكار
ينشأ عن ربطنا للدلائل بعضها ببعض. فنحن نبلورها تماما قبل أن نرسلها أصواتا أو
كلمات على كل حال. ويرى المحللون النفسيون أن الطفل الغارق في لعبته الرمزية
الأولى والتي يعمل فيها على إخفاء وإظهار شيء معين (Fort-Dat /Fort+Dat) حسب
مثال لفرويد، يشيد سلفا، لعبة بنيوية من الدلائل، قائمة على التعارض بين الحضور
والغياب.
وقد تمكن البعض من بلورة الفكرة
القائلة بأن الثقافة نشأت في فترة كان الإنسان قد أعد فيها أدوات للسيطرة على
الطبيعة. لكن صيغت كذلك فرضية تقول إن الأداة لا تظهر، بوصفها أداة، إلا عندما
تؤسس الفاعلية الرمزية (2). وقد عثر، في إفريقيا على بقايا سكان استراليا
القدماء إلى جانب عظام هيكلية لقراديح (1م)ثقبت جمجمتها وعلى مقربة منهم وجدت
أحجار. كان الأستراليون القدامى قد عملوا، على تحويل العنصرالطبيعي، ممثلا في
الحج،ر إلى أداة قابلة للاستعمال بوصفها سلاحا. أي أنهم اخترعوا الأداة. والحال
أنه لكي توجد أداة (وبالتالي ثقافة) ينبغي أن تتحقق الشروط التالية مجتمعة :
أ- كائن قوي يحدد وظيفة جديدة
للحجارة (وليس من الضروري أن تنحت هذه الحجارة تتخذ شكلا خاصا، كشكل لوزة مثلا
).
ب - يسمي الكائن المذكور الأداة
متعرفا إليها بوصفها >حجارة مخصصة لاستعمال معين< (وليس من الضروري أن تتم
هذه العملية بصوت عال أو أن تعد لاستعمال من نوع واحد).
ج- يتعرف الكائن المذكور على الأداة
بوصفها >حجارة تستجيب لوظيفة "س" ومساماة "ج" وليس
ضروريا أن يستعملها مرة أخرى، بل يكفي أن يتمكن من التعرف عليها كما أنه ليس من
الضروري أن يحددها باسم لكي يستعملها آخرون، بل يكفي أن تظهر الحجارة المستعملة
اليوم من قبل كائن ك لدى نفس الكائن في اليوم الموالي بوصفها الدليل المرئي
لوظيفته الممكنة.
وهكذا يؤسس ك1 قواعد موجهة للدلالة
على وظيفة الحجارة لـ ك 2 وبمجرد ما يتأسس شكل مرئي وبيشخصي للسلوك السيميائي
فنحن إذاك، أمام لغة ويؤكد البعض ضرورة أن تكون هذه اللغة، قبل كل شيء، تعبيرا
بالكلام وأن التعبير الكلامي هو ما يمثل شكل الفكر أضف إلى ذلك أنه يتعذر
التفكير بمعزل عن الكلام حينئذ تصبح السيميولوجيا فرعا من فروع اللسانيات (3) ما
دام أن علم لغة التعبير الكلامي يمثل الإمكانية الوحيدة لا لتفسير بنية ذهننا
فحسب، بل وبنية لا وعينا كذلك.
ومن منظور لاكان (4) توجد السلسلة
التدليلية في أصل تشكل الأنا : فاللغة سابقة علينا وهي ما يحددنا، وتميز هذه
اللغة، في الواقع، بين ذات التلفظ وذات الملفوظ، وهو فرق يفسر السيرورة التي
تنتشلنا عبرها اللغة من ''طبيعة'' مجهولة لإدخالنا إلى ''ثقافة'' نضفي من خلالها
على أنفسنا الطابع الموضوعي. إن الطفل الذي يزمع عبر استعماله اللغة، التعرف على
نفسه بوصفه ذاتا يمثل ذات التلفظ فهو يريد أن يشار إليه باعتباره "أنا
". لكن بمجرد ما أن يلج المدار اللغوي فإن /الأنا / الذي يعرب عنه يمثل،
مسبقا، ذات الملفوظ والجملة والمقطع اللساني، تلك الذات التي يعرب من خلالها،
عما يختلج في نفسه. هذا الأنا يمثل سلفا، إنتاجا ثقافيا (كان بورس يقول إنه
النمط الذي بلورته الثقافة لكل "الأنات" الممكنة) من ثم فإن ذات
التلفظ بتماهيها مع ذات الملفوظ، تكون قد أقصيت مقدما بوصفها ذاتية حيث تسجنها
اللغة داخل غيرية يتوجب عليها أن تتماهى فيها من أجل بناء نفسها دون أن تتتمكن
من التحرر منها أبدا .
لكن لنعد إلى مشكل أصول الثقافة.
ولنتصور شخصا بدائيا لا يضع مشكل ذاتيته الخاصة موضع تساؤل : فمنذ اللحظة التي
يتوجه فيها صوب العالم لكي يتبين فيه القوى السحرية التي ينبغي له السيطرة عليها
والتحكم فيها فإن ما يحتاج لاستعماله بالضبط هو : الدلائل. فبالسحر عبر المحاكاة
يقوم بتقليد حركات الحيوان أو يقوم برسم صورتها على جدران المغارة من أجل التربص
بالفريسة التي يريد اقتناصها بواسطة الدليل المزدوج للفريسة والرمح.
وبالسحر عبر الاحتكاك يستولي على
الشيء المنتمي إلى الكيان الذي يرغب في الاستحواذ عليه (قلادة العدو-جزة
الحيوان) : فمن خلال هذا الشيء يتم الانقضاض على الكيان وعلى مالكه. وفي كلتا
الحالتين تم الاشتغال على دلائل استبدالية ففي الحالة الأولى الصورة استعارية
بما هي محاكاة للشيء، وفي الحالة الثانية فإن الشيء المنتمي إلى الكائن الغائب
يمثل كناية (حيث اعتبار الجزء كلا والسبب نتيجة، والحاوي محتوى). من ثم تتم
مراقبة الأشياء عبر وساطة دلائلها أو عبر الموضوعات التي نصوغ منها دلائل تلك
الأشياء. وفي الأخير، وهو ما يشكل أساس الفلسفة] السوفسطائية الاغريقية- تكتشف
القدرة السحرية للكلام المقنع. والتي أمكن بفضلها ابتداع (الإيبودة) تلك الخدعة
اللطيفة المحكمة من أجل استمالة الاسماع والقلوب. ففي حين كان نحاة الهند
القديمة يضعون دراساتهم الهامة حول التركيب كان السوفسطائيون يكتشفون البرغماتية
وينظرون لها، كيف أنظم الدلائل على نحو أدفع فيه الآخر إلى التصرف وفق ما أريد؟
وتبدو قواعد هذا التنظيم مقننة من خلال علم يحمل اسما بلاغيا. وهكذا نشأت نظرية
في البرهنة لم تعد قائمة على مقدمات منطقية مزودة بقيم مطلقة، بل على المحتمل
إنه "القياس المضمر" ( enthymème)، ومن
الممكن، في الواقع الاستدلال حول اللامؤكد لأن عالم الدلائل هو كذلك عالم عدم
الدقة و تعدد المعنى إذ يعد القانون والتداول والبرهنة الأشكال الثلاثة للفصاحة
التي صاغها أرسطو في شكل نظرية في كتابه " ريطوريقا " وهي الأشكال
التي يستخدمها الانسان دلائل من أجل تحديد سلوك الآخرين، وبالتالي تدبير سياسة
معينة (تجاههم) فهذا هو المقصود بالضبط حينما نتناقش حول الصائب وغير الصائب،
وحول ما يمكن أن يشكل حدثا وما لا يمكنه كذلك، وأخيرا حول ماهو محمود وما هو
مذموم.
2-5- ميتافيزيقا سيميائية كلية
1-2-5- الطبيعة، لغة للالاه :
I - وماذا لو
لم يكن الكون برمته وكذا المواد التي تكونه سوى دلائل تحيل بشكل، غير دقيق، إلى
مؤولات خارجية تشكل عالم الأفكار؟ (تمثل النظرية الأفلاطونية كلها مذهبا في
الدليل ومرجعه الميتافيزيقي)، وما هي العلاقة المحبوكة بين المرجع العلوي والشيء
الذي يعيد انتاجه والمفهوم الذي يحيل إليه الشيء وبين الكلمة التي تتيح مفتاح
تلك الوساطة؟ وهل لا تتوالد الوساطة السيميائية إلى ما لانهاية السيرورة
السميائية؟ مثلما تساءل أرسطو وهو يصوغ الفرضية التفويضية للانسان الثالث؟ وماذا
لو كان العالم نتاج تصميم رباني قام بتنظيم مواد الطبيعة ليجعل منها أدوات
للتواصل مع الإنسان؟ وماذا لو لم تكن هذه المواد دلائل غير مكتملة ناقصة] ومجرد
فساد للأصل الانطولوجي للنماذج المكتملة (المستقلة عن أي تحديد مادي)، وتلك هي
فرضية الافلاطونية الجديدة التي تشكل دعامة الفلسفات الميتافيزيقية القرسطوتية؟
لنستحضر إلى الأذهان إسم (Denys LArespagiste) (2م) و(Scot Erigès) (3)
الذي اقتفى أثرهما. فبالنسبة لهما يعد الكون تجليا إلهيا، إذ يتجلى الله من خلال
الدلائل ممثلة في الأشياء ومن خلالها يشرف على خلاص الانسان وفق التصور المسيحي]
ولقد تفرعت الرمزية القروسطية برمتها عن هذه الفرضية إذ ينشد(Alain de lille) في
القرن XII قائلا :
كل كائنات هذاالكون هي كتب أو صور
تشكل بالنسبة لنا مرايا في حياتنا
ومماتنا
فيوجداننا وقدرنا
إنها علامة خاصة على وجود الخالق
ويوضح طوماس الأكويني في صياغته لقواعد تأويل الكتابة المقدسة : >إن قراءة
دلائل هذه الكتابة المقدسة] لا يجب أن تتم على أساس نمط مجازي بل هي أحادية
المعنى بشكل صارم ودقيق وعندما يقول الكتاب المقدس إن معجزة ما قد حدثت، فإن
الذي وقع، بالتمام، هو الدليل، فاللغة المجازية التي يتعين فك شفرتها والدلائل الحقيقية
التي تشكل الكتابة، بالقياس إليها، كتابة هي التي تؤسس لأحداث التاريخ المقدس،
أعني بذلك كلمات لغة كونية قام الرب بتنظيمها لكي نتمكن من قراءة واجبنا ومصيرنا
بين سطورها<.
- II بيد أنه من
أجل تأسيس ميتافيزيقا سيميائية كلية ، لا أحد، بالضرورة في حاجة ماسة إلى إله
محرك أول (4) وتكفي هيمنة لمعنى وحدة الكل والكون مدركا بوصفه جسما يدل على
نفسه، ونعثر على أقصى درجات التجسيد لسيميائية كلية في نظرية حول العلاقات
القائمة بين اللغة السينماتوغرافية وبين لغة الواقع (5)، فالفكرة الذاهبة إلى أن
لغة الفيلم هي نسخة طبق الأصل للغة الواقع تشكل التعبير الأكثر حدة لنظرية
إيقونية. بيد أن القول إن الواقع كله يعد في جوهره دلالة هو شيء مختلف كل
الاختلاف ، ففي المنظور البازوليني إن كل موضوع تجمعنا به علاقات سوف يكون، قبل
كل شيء، دليلا على ذاته وعلى هذا النحو تستبدل عبارة " الأسماء هي الأشياء"
ب عبارة " الأشياء هي الأسماء"، إذ تشكل الأشياء >كتاب العالم<
ونثر الطبيعة، و (نثر) الفعل وشعر الحياة .... فهذا السنديان الموجود أمامي ليس
هو ''مدلول'' الدليل'' المكتوب المتلفظ بل إن هذا ''السنديان'' المحسوس المعروض
على حواسي هو نفسه دليل<، فالواقع يحاور ذاته في الحدود التي يعتبر فيها
الادراك جوابا عن الدلالة، ذلك الجواب الذي يخاطب به الواقع نفسه من خلال أشكال
الذات المدركة. ومن الممكن، على نحو ما، تقريب مقترحات بازوليني الهامة من
ظاهراتية للادراك مدركة بوصفها دلالة بل ومن نظرية بورسية للموضوعات الدلائل .
لكن ولأن الموضوعات - الدلائل مصوغة بطريقة انفعالية فهي تتخذ معنى جماليا
-ميتافيزيقيا يضعها في مصاف الفلسفات الصوفية لعلم دلالة كلي.
III -لقد انصب
اهتمام الفلسفة السكولائية المتأخرة والنجاح الباهر للنزعة الإسمانية على
الكلمات بوصفها " هواء صوتيا" وأسماء. كما أن الحقب التي عرفت هيمنة
النزعة التجريبية العلمية طرحت على بساط البحث مفهوم الشيء. فبمجرد ما يتم
استبعاد مفهوم الجوهر من ذات مشتملة على محمولات ممتلة في أعراض فمع ماذا سوف
تتطابق عبارة /التفاحة حمراء/ ما دام أنه لم تعد توجد تفاحة في ذاتها ولا لون
أحمر في ذاته)، فالذي وضع هاهنا، - يقول لوك- موضع تساؤل هو الأشياء وليس
الدلائل، بل لا تعدو أن تكون الأفكار سوى دلائل مختزلة إلى كتابة تسعفنا في
إعداد وتصنيف فرضياتنا حول الأشياء المتساءل عنها ضمن خانات محددة.
لكن ثمة ظاهرتان أخريان تخترقان هذا
التيار الفكري اللساني، إذ يرى العالم السحري والأفلاطوني الجديد للنزعة الانسية
في الكون غابة من الرموز، يصبح فيها تفكيك شفرة الدلائل بمثابة السحر الجديد
والخيمياء الجديدة اللذين مورسا في كنف الإنسانية. فقد أعيد من جديد مع بيركلي
طرح مسألة الكون بوصفه نسقا من الرموز ومن الادراكات المزودة بوظيفة سيميائية
خالصة، على اعتبار أنها كلمات لغة تتيح للالاه أن يروي (يسرد) لنا حكاية العالم.
أليس في وسعنا حينئذ، إعادة قراءة
" الإرث" الرمزي الضخم للنزعة المثالية الحديثة بوصفه نظرية في
الانتاجية السيميائية الذهنية؟ فهذه الأنساق الكبرى تصف لنا كيف تُبنى الانسانية
في صورة بنية معمارية رمزية فسيحة : إذ لم يعد الإلاه هو الذي يكلم الانسان من
خلال الدلائل، بل إنه يبني ذاته داخل التاريخ باعتباره عقلا ينفت الوحي في
سينوغرافيا رمزية ثقافية كبرى وتبرهن كلمات بنديتوكروشيه بإسهاب ضمن عمله] (Poesie) على
ارتيابنا : > إن المحاولات المبذولة من أجل تفسير تفاهم البشر في نطاق اللغة
من خلال المحاكاة والتداعيات والاعراف والاستنتاجات... الخ لهي محاولات قاصرة
وعاجزة ... إن مذهب التواصل التعبيري عبر عملية إلهية تتضمن الحقيقة في ذاتها
حتى وإن اتخذ التعبير المذكور شكلا أسطوريا. فالبشر يتفاهمون لأنهم، جميعهم،
يعيشون ويتحركون كآلهة< (ص 270) .
2-2-5 . وحيث إن مسار الأمور أفضى
بنا إلى هذه النقطة فمن غير الممكن التغاضي عن هذا الالهام الفلسفي الذي يرى في
اللغة استعارة كبرى غير واعية ومترابطة أشد ما يكون الترابط إلى حد أنها تمثل
الجوهر الباطني للأشياء. وينبغي الاحتراز جيدا، إذا ما سلكنا هذا السبيل، من
أننا سوف نكون مدفوعين بالطبع، إلى تأكيد أن اللغة الاستعارية وحدها (وبالتالي
اللغة الشعرية) هي أداة معرفة أصلية وأداة تواصل حقيقي.
فمن الرومانسيين إلى هيدغر نجد،
هاهنا إذن، فصلا كاملا لعلم الجمال مؤسس على نظرية للغة ويتماهى مع الموضوع
الشعري الذي بلوره عدد من الفنانين : فقد اعلنوا وهم يدافعون عن آرائهم بوصفهم
متنبئين ومكتشفين عن استخدامهم لرموز تنبجس تلقائيا في مخيالهم كاشفة عن وحدة
شعورهم مع الأشياء. فبدءا من موضوعة الطبيعة التي أسسها بودلير، أي تلك الغابة
من الرموز( وإن كانت ههنا طبيعة معلمنة) إذ لسنا بمنأى عن الطبيعة التي أسسها
ألان دوليل)، وحتى الفكر الهيدغري، تبقى الغابة واحدة : إذ لم يعد الانسان هو
الذي يصنع اللغة للهيمنة على الأشياء بقدر ما أن الأشياء (أو الطبيعة أو الكائن)
هي التي تتجلى من خلال اللغة. فاللغة صوت الكائن، ولا تعدو أن تكون الحقيقة سوى
كشف عن الكائن عن طريق اللغة وإذا ما رجحت وجهة النظر هذه آنذاك وتحكمت فلن يكون
لسيميائية معينة أو لنظرية في الدلائل أية مكانة ولن تظل سوى ممارسة دائمة شغوفة
بمساءلة الدلائل وأعني بها الهيرمنوتيكا . ففي هذه الأخيرة لا تؤسس أبدا نظرية
في الأعراف السيميائية إذ تتلقى بتواضع وإخلاص الصوت المتكلم من مكان ما حيث لا
مجال فيه للعرف لأنه سابق على الإنسان نفسه. غير أن الهيرمنوتيكا الحديثة جدا
(مع هيدغر) تومئ إلى أن خلف كل صوت يكلمنا تكمن ثقافة سابقة في الوجود تؤسس
قوانين التأويل وتعلمنا أن ننصت إلى خزان للتقليد الثقافي بوصفه صوتا.
آثار الكتابة س
لقد أظهرت تصنيفاتنا للدلائل وجود
ألفاظ ثقافية استبدالية وتعد الكتابة من بين أكثرها إثارة للدهشة، فهي تعبر،
بطريقة فونوغرافية أم لا، عن قوانين اللغة الشفاهية على أساس قوانين مخصوصة
متميزة عن القوانين الأولى، وبعبارة أخرى إننا لا نتبين كيف أن البرنامج الشفهي
الانجليزي(har) يدل، ضمن نوع من العلاقة الجناسية، على >الأرنب< وعلى
>الشعر<. غير أن الكتابة الالفبائية توهمنا بأن الأمر يتعلق بكيانين
أحدهما يكتب(here) فيما يكتب الآخر(hare). هذا
التمييز لم يكن واضحا لدى القدماء فعلى المستوى الفلسفي وقفوا عاجزين مشدوهين
أمام سلطة الكتابة (لنعد إلى الخطاب التي يلقيه الفرعون إلى الرب توث في فيدر
لأفلاطون إذ يرى النابغة المخترع لـلخطية نفسه فيه متهما بتجميد حركة تحولية
الفكر إلى دلائل تشل من حركته إلى الأبد: وليس من قبيل الصدف إذا ما أخذت(grammatica) اسم
الحرف المكتوب (lettre écrite) والخطية(Le gramma) وهو ما
يعتبر تصنيفا للدلائل الشفاهية المؤسسة على قوانين تتحكم فقط،في الدلائل
المكتوبة التي استأسدت على مدى تاريخي اللسانيات وفلسفة الدليل. وبمعنى من
المعاني فإن مسألة أسبقية اللغة المتكلمة لم تطرح إلا مع مقدم اللسانيات
الحديثة. ولا شك أن أوضح مثال عن هذا الغموض القائم بين الخطية والصوتgramma وبين
(phone) هو ذاك الذي يقدمه (Isi- dore de Séville)
الذي حاول في القرن السابع تقديم تفسير للظاهرة اللغوية مستعينا بعلم الاشتقاق.
ولم يؤسس (Isidore) العلم المذكور على أساس وقائع تاريخية ولا على أساس آليات
صوتية بل على أساس مقارنات دلالية ملتبسة فمثال : lu cus
-الغابة- سوف يعادل (a
non lucendo) لأن الضوء
لا ينفذ إليه)، والحال أن هذا القياس الدلالي لا يقوم، في معظم الأحيان، سوى على
تشابه ألفبائي وبالتالي فإن لفظة](Cadaver) مشتقة من CA ro DAta, VE r me bus
وبهذا الشكل يتم التحقق من وحدة
دلالية حينما توجد هوية للكتابة نفسها رغم انعدام الوحدة الصوتية، وعلى هذا
النحو تنحدر لفظة (Pierre) (Lapis) من (LA
edens Pedem) لكن إذا ما
كان المقطع /ما/ يلفظ" La " في Lapis فإن
الأمر على خلاف ذلك في لفظة /Laedens / حيث ينبغي
على المركب /Lae/ أن يحظى في زمن ايزيدور اشبيلية بقيمة /Le/ .
ولقد مالت اللسانيات، مع ذلك، وهي
تميز بين الخطية (gramma) وبين الصوت(phone) إلى إغفال
كون الطريقة التي تدون بها اللغة تؤثر في الصورة التي نكونها عنها في حين أن
التدوين لا يجسد مستوى النطق . ومن الممكن اعتقاد أن تفكيرنا يتم وفق تنظيم
فضائي معين لأن تدوين الفكر يتم، بالضبط، داخل ذلك النظام الفضائي الدقيق،
وعلاوة على ذلك نبه بعضهم (ماك لوهان 1963-1964) إلى أن الحضارة الحديثة كلها
يسودها النموذج الخطي للكتابة الطباعية. ولئن كان العالم يشهد ظهور أشكال جديدة
للحسية، فإن مرد ذلك إلى أن كثيرا من الدلائل الجديدة (الالكترونية والبصرية) لم
تعد تأتينا في صورة خطية بل على صورة فضائية وكلية. وإني لأعرف أستاذا جامعيا
كان، وهو بصدد مناقشة مشكل الخطية والتتابعية الزمنية في الفكر وفي الدليل، يمثل
لتلك الدلائل بواسطة حركة يدوية من اليمين إلى اليسار.
فلكونه يهوديا كان يفكر من خلال
اللغة العبرية مدركا التتابع المجرد للأفكار في المعنى حيث يقوم برصف الدلائل
المكتوبة وقراءتها في حروف مكتوبة معينة، أما في اللغة اللاتينية والاغريقية
فتأخذ القراءة اتجاها معاكسا : أي من اليسار إلى اليمين، وفي الحال علت وجوهنا
ابتسامة من جراء هذه الملاحظة وتساءلنا عن الطريقة التي كان قارئ قديم يفكر بها
في مسألة التتابعية الزمنية والمتعود على أن يكتب بطريقة حيث تقرأ الكتابة عكسا
وطردا أي يقرأ بها سطرا من اليمين إلى اليسار والسطر الموالي من اليمين إلى
اليسار ...
إن الغراماتولوجيا، أو ما يسمي بعلم
الكتابة، يطرح السؤال اليوم حول ما إذا لم تكن الأسئلة الميتافيزيقية الهامة
التي أرهقت كاهل الانسان الغربي هي ذاتها قائمة على أساس نموذج خطي (Grammata) (6)
3-5- العلاقات بين الدليل والفكر
والواقع .
لقد ارتكز اهتمام الفكر الفلسفي
دوما على مشكلات أساسية مرتبطة بالعلاقات الموجودة بين الدلائل والواقع. وفي
وسعنا تصنيف تلك العلاقات إلى خمس أطروحات تفسح المجال لخمس فقرات من هذا الفصل
سوف يحلل كل منها، وتقابل بالاطروحة المضادة لها. وحينما يتاح ذلك فإن التعارض
سوف يزول في ضوء الفرضية البديلة التي يمكن للسيميائية اقتراحها اليوم. وإليكم
هذه الاطروحات:
أ- ثمة علاقة بين أشكال الدلائل
المعقدة (أو الملفوظة) وبين شكل الفكر وبعبارة أخرى ثمة علاقة بين النظام
المنطقي وبين النظام السيميائي.
ب - ثمة علاقة بين الدلائل البسيطة
وبين الأشياء التي تدل عليها عبر وساطة المفاهيم أو لنقل تمة علاقة سيميائية بين
الدليل وبين المفهوم الذي يعتبر بدوره دليلا على الشيء.
ج - ثمة ارتباط بين شكل الدلائل
المعقدة والملفوظة وبين شكل الوقائع التي تصفها أو لنقل تمة علاقة بين النظام
السيميائي وبين النظام الانطولوجي .
د - ثمة علاقة بين شكل الدليل
البسيط وبين شكل الموضوع الذي يحيل عليه على اعتبار أن الموضوع هو على نحو ما
علة الدليل.
هـ -ثمة علاقة وظيفية بين الدليل
وبين الموضوع الذي يحيل عليه فعليا، وبدون هذا الرابط يكون الدليل مجردا من أية
قيمة تقريرية، كما لن يتطابق مع أي إثبات ذي معنى.
وما دام أن غرضنا هنا ينحصر فقط في
الاهتمام بسيميائية الدليل دون سيميائية الخطاب فسوف نتغاضى عن مناقشة
الأطروحتين ''أ'' و ''ج'' مقتصرين على الأطروحات الأخرى ولكن، كما سنرى، من
المفيد جدا ''المرور'' عليها كلها : فكل منها يستدعي بطريقته مسألة المرجع. وسوف
يتيح لنا فحصها معرفة السبب والكيفية اللذين ينبغي من أجلهما، إبعاد مفهوم
المرجع عن أي] تحديد للدليل.
الهوامش
1م -
حيوان من فصيلة القردة كلبياتالرؤوس، مفرده قردوح
2م-
كان عضوا بمجمع علماء وقضاة أثينا ، اعتنق المسيحية علي يد سان بول وعين أسقفا
على أثينا. عُذب وقتل حوال القرن الأول (م)
3م-
فيلسوف لاهوتي ولد بإرلندا حولالي القرن التاسع ، عرفت آراؤه الفلسفية بجرأتها
وشجاعتها.
4م-
العلة الأولى أوواجب الوجوب في أدبياتالفلسفة العربية الإسلامية
1- Ernest Cassirer : Ohilosophie des formes symboliques ,
Le langage , Ed Minuit 1972
- Suzanne Langer : Feeling and formm , New york - London , 1953
2- Umberto Eco : La structure absente , Mercure de France
, 1972
3- R barthes : Eléments de Sémiologie , in Communications n 4
4- J Lacan : La chose Freudienne , in Ecrits , Paris Seuil
5- Pasolini
: Empirismo eretico , Milano, Garzanti
|
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
للتواصل معنا
kassebi.chedli@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق