أهم معاني النمذجة


                                                          أهم معاني النمذجة

  تعريف النمذجة
إن النموذج –Le Model- هو التمثل الذهني لشيء ما و لكيفية اشتغاله، و عندما نضع شيء ما في نموذج نستطيع أن نقلد اصطناعيا –Simuler- تصرف هذا الشيء و بالتالي الاستعداد لردوده. و هذا يعني أن النمذجة ليست إلا الفكر المنظم لتحقيق غاية عملية، ذلك أن النموذج هو نظرية موجهة نحو الفعل الذي نريد تحقيقه. و من هذا المنطلق يمكننا القول أن كل إنسان "ينمذج" في حياته اليومية و في كل لحظة، فهو يجمع كل الكائنات التي تحيط به بصورة ذهنية، سواء تعلق الأمر بأشياء مادية أو بأشخاص أو حتى بمؤسسات، و هذه الصورة الذهنية تمكنه من تركيب و تقليد سلوك موضوعه اصطناعيا لتقييم نتائج قراراته و يختار ضمن القرارات الممكنة أفضلها، و إذا بدا له النموذج غير مناسب يغيره بآخر. و هكذا فإن سيرورة قرار التبضع أو سيرورة تقبل إعلام إشهاري هي مثلا سيرورات قابلة لأن تنمذج. يتعلق الأمر إذن بمحاولة حصر النسق المركب المدروس لاستباق ردود أفعاله بطريقة صورية و دون عودة إلى التجربة إلا في المستوى الافتراضي –Virtuel-. و بالتالي يتعلق الأمر بوصف نسق واقي بطريقة صورية أي بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معالجته بالحاسوب. فالنمذجة هي إذن، مبدأ أو تقنية تمكن الباحث من بناء نموذج لظاهرة أو لسلوك عبر إحصاء المتغيرات أو العوامل المفسرة لكل واحدة من هذه المتغيرات، فهي تمشي علمي يمكن من فهم الأنساق المركبة و المعقدة عبر خلق نموذج يكون بنية صورية تعيد إنتاج الواقع افتراضيا.

البعد التركيبي:
       يصاغ كلّ نموذج حسب فاليزار في لغة صورية إلى حدّ ما. وتتكوّن كلّ لغة صورية من مجموعة عناصر أوّلية أو رموز ومن مجموعة قواعد منظّمة لهذه الرموز في علاقات قابلة لتأويل دلالي. وبشكل أدقّ يتحدّد النسق الصوري بما هو لغة صورية تقوم على مجموعة أكسيومات (مصادرات) ومجموعة قواعد استنباطية هي ما به تتحدّد المبرهنات. ويكون النسق الصوري إمّا أكسيوميا أو شبه أكسيومي، ذلك أنّ النسق الأكسيومي هو النسق الصوري الذي تكون كلّ أوّلياته ومصادراته وقواعده بيّنة الوضوح، مثال ذلك الميكانيكا الكوانطية. تبعا لذلك ترتبط مستويات صورنة النموذج بنوعية اللّغة المستعملة التي إمّا أن تكون أدبية أو رمزية أو رياضية منطقية. وبحسب اللّغة المعتمدة يكون النموذج رمزيا، كيفيا، معياريا، أو رقميا كمّيا. كما يتكوّن البعد التركيبي للنموذج من ثوابت (constants) ومتغيّرات (variables )  وثابتات (paramétres ) وعلاقات (relations ) [علاقة حدّ أو علاقة إحصائية أو علاقة سببية أو علاقة اشتراط أو علاقة تبعية...]. وعلى مستوى خاصياته التركيبية، يقتضي النموذج أن يكون متماسكا (أن لا يتضمّن مبرهنات متناقضة)، تامّا (أن لا يتضمّن قضايا لا تقبل البرهنة أو الدحض)، مستقلاّ (أن لا يتضمّن مصادرات تحتاج أن نستنبطها من مصادرات أخرى)، قطعيا (أن يتضمّن تمشّيا برهانيا يسمح بالحكم على قضيّة ما بالصواب أو الخطأ)، مشبعا (أن لا يحتاج إلى استخدام أكسيومات إضافية من خارج النسق). ويقوم النموذج في بعده التركيبي على مبدإ الثبات داخل تغيّر الإحداثيات والوحدات.
البعد الدلالي
       يتحدّد البعد الدلالي للنموذج، أوّلا في علاقة بالنسق الذي يمثّله وفق علاقة تفاعلية تأخذ بعين الاعتبار المسافة التي تصل بينهما بهدف جعل النموذج أكثر فأكثر ملائمة.
 ثانيا في علاقة بمجال صلاحيته التي تتحدّد في علاقة بالملاحظ الذي يقرّ بصلاحية النموذج وفي علاقة بفئة الأنساق التي يكون صالحا في إطارها وفي علاقة بمجال صلاحيته زمانيا ومكانيا.
ثالثا في علاقته بالواقع، "فكلّ نموذج في بعض وجوهه، يمكن أن يعدّ وسيطا بين حقل نظري يمثّل تأويلا له وحقل تجريبي يمثّل تأليفا له". وتتحدّد طبيعة النموذج بحسب نوعية العلاقة التي له بالمرجع الذي يحيل عليه والذي يعبّر عن بنيته وكيفية اشتغاله، فيكون النموذج تبعا لذلك إمّا شاملا أو جزئيا أو مغلقا أو مفتوحا.
 وأخيرا في علاقة بخاصياته الدلالية التي يضبطها فاليزار في الصلاحية النظرية والصلاحية التجريبية والثراء والقابلية للدحض والمرونة والبساطة.

البعد التداولي
يمكن تبيّن هذا البعد على المستويات التالية:
أوّلا من جهة أهداف النموذج بما هو تمثيل لكيفية اشتغال نسق ما بغرض معرفته والتحكّم فيه.
 ثانيا من جهة العلاقة بين منتجي النماذج ومستعمليها والفاعلين في النسق على اعتبار أنّ المعرفة التي تقود النموذج هي معرفة موجّهة نحو الفعل و"أنّ الحقيقة ذاتها لا تعدو أن تكون سوى الفعل عينه".
 ثالثا من جهة تأثير النموذج في الفرد أو المجموعة على مستوى التمثّلات و التصوّرات والأفعال وتأثيره في الواقع وما يمكن أن يحتمله النموذج ذاته من تعديلات وفق ما تسمح به القيم الاجتماعية والوسائل التقنية المتاحة.
 رابعا من جهة معاييره التداولية، حيث يشترط في النموذج أن يكون ذي أداء ثابت وايجابي، بسيطا، مرنا، وقابلا للتوظيف.
مثال من علم الاقتصاد
البعد التركيبي
دراسة العلاقة بين الاستهلاك C والدخل R
تصاغ العلاقة على النحو التالي:  C=aR+b حيث تكون a مُعامل (Coefficient) ايجابي وأصغر من واحد وحيث تكون b ثابتة (Constante)
وفق هذه الصيغة الدخل R هو الذي يحدّد الاستهلاك C، أمكن تبعا لذلك التساؤل ما الذي يحدّد الدخل؟ (مثال الأجر...)
إذا كان النموذج لا يقدّم إجابة عن هذا السؤال فذلك لاعتبار الأجر أو الوظيفة... متغيّرات خارجية أو عوامل مشوّشة
البعد الدلالي:
وهو يتحدّد تبعا لما إذا كنّا نعني بالدخل Rوبالاستهلاك C دخل الفرد أم دخل المجموعة.
إذا تعلّق الأمر بدخل الفرد نكون إزاء نموذج ميكرواقتصادي وإذا تعلّق الأمر بدخل المجموعة نكون إزاء نموذج ماكرواقتصادي.
البعد التداولي
يتحدّد ذلك في ضوء كيفية استعمالنا للنموذج بما هو نموذج وصفي أو معياري.
                                                                        الأكسيومية
هي ضرب من العرض للعلوم الصحيحة فالمنهج الاكسيومي مبني على قضايا افتراضية يسلم بها تسليما دون برهان   و هذه القضايا تسمى الأوليات و هي قضايا مصاغة بدقة و تؤدي الى استدلالات صارمة لذلك فان الاكسيومية تبدأ بجرد كامل الأوليات أي لكل القضايا التي نسلم بها دون برهان مثلما فعل "بيانو" في نظرية الأعداد الطبيعية.
و الاكسيومية بما هي ضرب مثالي للتأليف هي تصور إغريقي، حيث أن كتاب "العناصر" لإقليدس يقدم محاولة جريئة في هذا المجال. لكن تنفيذه ضل يعاني من نقائص، ذلك انه منذ الاستدلال الأول في كتاب العناصر عندما رسم إقليدس دائرتين لهما نفس الشعاع [أب] و مركز أ و ب , تحدث عن نقاط اشتراك بينهما .
و هو ما يعني أن إقليدس استند إلى التجربة الحسية عبر الرسوم ليستنتج نقاط الالتقاء بين للدائرتين، في حين أن الأوليات التي عرضها لا تمكننا من استنتاج هذا التلاقي بين الدائرتين. و مع ذلك فإن إقليدس، عندما صاغ الأولية التي مازالت تعرف باسمه إلى حد اليوم, أولية المتوازنان : من نقطة خارج المستقيم لا يمر إلا مستقيم واحد موازي لهذا المستقيم، تبنى موقفا أكسيوميا بما انه لم يشر إلى التجربة الحسية. و عمل إقليدس أثر كثيرا في من لحقه من الرياضيين فأرخميدس حاول أن يقدم قوانين توازي الرافعات في شكل أكسيومي. و رغم هذه المحاولات انتظرنا القرن 19حتى نؤسس هندسات لاإقليدية لتبين لنا خاصية التجريد و الاعتباط في بعض الأحيان للأكسيومية، كما تبين لنا نسبية مفهوم الحقيقة الرياضية، و تبين أن هناك رابط هام بين الأكسمة و الصورية و هذا الرابط يوضح لنا طبيعة الرياضيات، هذه العلوم التي تدير ظهرها لما هو خبري و تبني أنساقا متكاملة من المفاهيم و العلاقات مما، جعل "باشلار" يعتبر ان القطيعة الابستيمولوجية بين التجربة المحضة و الاكسمة تمر عبر لعبة صورية. إن اهمية المنهج الاكسيومي تتمثل في كونه يمكننا من إطار ملائم للمعالجة الرياضية للعديد من الحالات، فعندما صاغ "الكسندر كولموقوروف" مبادئ حساب الاحتمال صياغة صورية سنة 1933 فإنه مكن حساب الاحتمال من التخلص من المفاهيم الغامضة و الذاتية كالمصادفة والحظ. ويجب أن نلاحظ أن مجالات تطبيق المنهج الأكسيومي لا تقتصر فقط على الرياضيات المحضة ذلك أن أكسمة نظرية فيزيائية تتم في مرحلتين ففي مرحلة أولى تتم صياغة نظرية رياضية حول رموز مجردة وفي مرحلة ثانية يتم صياغة أوليات التطابق التي تدقق مثلا كيف أن بعض الظواهر الضوئية يمكن أن ترمز بأشعة، مستقيمات موجهة. وما أن نضع نظرية فيزيائية في معادلة رياضية، بفضل أوليات التطابق فإن دراستها تكون عبر الاستدلال المحض دون العودة إلى التجربة، و دور التجربة يتمثل في الحكم إذا ما كان اختيار أوليات التطابق ملائما أو غير ملائما للظاهرة المدور.
القانون العلمي
إن القانون العلمي هو صياغة لعلاقة كونية وضرورية بين الظواهر، وإذا كان الضروري هو ما لا يمكن أن يكون، فإن العلاقة في القانون تكون ضرورية لأنه كلما تحققت شروط ظهور الظاهرة فإن الظاهرة لا يمكن أن لا تظهر. وهذا يعني أن القانون لا يسمح فقط بالتنبؤ ولكن أيضا يسمح بالتحكم في الظاهرة المدروسة عبر التحكم في شروط حصولها. ويجب أن نلاحظ أن القانون يسمح بانتهاج منهج فرضي ـ استنتاجي إذ أنه إذا تحققت شروط معينة تحصل ظاهرة معينة، فمثلا إذا افترضنا أن الضوء ذا طبيعة تموجية فإنه يمكننا أن نحصل على تشابك تموجين من تردد واحد، أي يمكننا تحقيق التقاء مصدرين ضوئيين متجانسين.
       غير أن القانون في العلم يطرح مشكلا يتعلق بطبيعة القانون، فهل أنه تفسير للظواهر أم أنه تعبيرا عنها؟ فعندما نقرّ بأنه تفسير نمنحه واقعية وهو ما يتضمن نظاما ضروريا في الطبيعة، أما إذا اعتبرناه تعبيرا عن الظواهر، فإننا نختزل القانون في مجرّد صياغة صورية تظهر في التجربة دون أن نمنحه واقعية بحيث لا يعبر عندها القانون عن نظام الأشياء كما هو في الواقع. وهكذا فإننا ننتهي إما إلى موقف عقلاني يستقر في مطلق الوجود وإما إلى موقف خبري يستقرّ في نسبي الوضعية، وفي الحالة الأولى، يكون القانون واقعا ديناميكيا، يجيب على اللماذا؟، وفي الحالة الثانية يتحدّد القانون باعتباره ما يعبر عن علاقات بين الظواهر التي تكون الواحدة منها بالنسبة للأخرى دالة fonction، ويكتفي القانون عندها بالإجابة على الكيف؟
       إن القانون  بما هو تفسير للظواهر يرتبط أساسا بالفيزياء الكلاسيكية أين تدرسُ الظواهر المادية التي تقارب كظواهر معزولة في نسق مغلق، والعلاقات بين مثل هذه الظواهر يمكن تجربتها بواسطة قوانين حتمية بسيطة. إلاّ أن نظرية الكونطا ـthéorie quantique ـ أقحمت في مستوى الجسيمات العنصرية للذرة مفهوما جديدا يرتبط بالقانون هو القانون الإحصائي loi statistique  ، فطبيعة المادة جعلت العلماء ينتجون قوانين تعبر في القانون عن معدلات لا عن الأشياء، وتمكن من استخلاص وجود انتظام عام، فوضع الكهرب، مثلا، يوصف في جهة كسحاب احتمالية un nuage de probabilité ، دون أن نتمكن من الحصول على معطيات أكثر دقة، والمادة لم تعد تدرك كشيء، ولكن كدالة تموجية fonction d’onde.
       ويجب أن نلاحظ أن ما قدمته الفيزياء الكونطية رغم كونه يحد من مدى معرفتنا لطبيعة القانون، فإنه لا ينتقص شيئا من أهمية فكرة القانون في حدّ ذاتها، التي تبقى أساسية في النشاط المعرفي العلمي. ولكن لا يجب أن ننسى أن الرياضيات هي لغة، وماكس بلانك Max Planck  يذهب حتى إلى القول: "ليس بديهيا أن يكون العالم خاضعا للقوانين الفيزيائية" بل ليس بديهيا أن تتواصل سلطة القانون في الوقت الحاضر على العالم في المستقبل، فالعلم يقر بالقانون باعتباره منطلق أولى وبطريقة سابقة على كلّ تمشي حتى يتمكن من الفعل في العالم، ونحن لا نعلم إذا ما كانت الطبيعة خاضعة فعلا لهذه القوانين، فنحن نضع مبدأ السببية وفكرة القانون الفيزيائي والحتمية كمقولات قبلية ونسائل الطبيعة بالتجريب ثم نضع نتائج التجريب في صياغات عامة، ولكن هذه العمومية لا تزعم الكونية، ذلك أن القانون العلمي ليس قانونا ميتافيزيقيا، فهو ليس إلا تقريبا نسبيا لمفهوم القانون الطبيعي الذي نفترضه فلسفيا من جهة فلسفة الطبيعة التي تفترض حتمية مطلقة.
الصورنة
تتحدّد الصورنة Formalisation في المعنى الحديث باعتبارها تقديم النظريات العلمية في سياق نسق صوري Un Système formel. يمكّن من تخصيص التعابير اللغوية وقواعد البرهان المقبولة دون غموض. ولكن يجب أن لا نختزل الأهمية العلمية للصورنة في التعبير Formulation، أو في الصياغة. ذلك أن صورنة النظريات الرياضية الأساسية كان مدفوعا في الأصل بمشاكل أسس الرياضيات، وأدّى في القرن العشرين إلى تطوير مستقل لمنطق رياضي ينتج إشكالياته الخاصة ومفاهيمه الخاصة. ثم إن صورنة الرياضيات منذ ظهورها ارتبطت بتطور الأكسيومية وبدراسة أنواع البنى المجرّدة الحاضرة في مختلف ميادين الرياضيات والتي تفسّر وحدتها.
       ويجب أن نلاحظ أن تطوّر الجبر المجرّد يتقاطع مع تطور الأكسيومية الناتج أساسا عن التفكير في الهندسة الاسقاطية la géométrie projective  والهندسات اللاإقليدية Les géometries non Euclidiennes. وكلّ ما تقتضيه الصورية Formalisme في الميادين الرياضية هو عدم التناقض المنطقي بين العلاقات التي تحدّده أي عدم التناقض بين الأوليات و النتائج، ومع ذلك فإن المعنى الحدسي لهذه  العلاقات ليس معطى، بل إن نسق العلاقات الصورية الذي يصاغ رمزيا هو ذاته المعنى، وهو ما أقرّه David Hilbert  منذ القرن 19 عندما بيّن أنّ معنى القضايا الهندسية لا يرتبط بالتمثلات الحدسية للمكان، ولكن يرتبط فقط بتجانس نسق الأوليات الأولي. وهنا نتبيّن أن الرمزية ليست فقط وسيلة تعبير مناسبة أو اتفاق ـ Convention ـ  ولكن تنحى إلى أن تصبح موضوع الفكر ذاته. ذلك أن وجهة النظر الصورية تقتضي ممارسة الرمزية، بما هي لغة بناء مناسبة للحد الصوري Définition formelle، و بما هي قابلة لأن يتمّ تداولها لا كوسيلة للتعبير تحيل إلى معنى، ولكن كموضوع جديد، بحيث تكون الرموز المجرّدة موضوعا للصورية بما هي المنزع الذي ينحو إلى التعبير بطريقة مجرّدة عن التماسك الداخلي للبنية العامة للقضايا، بحيث لا يبقى عند صياغتنا لها "سوى عبارات ليس لها أيّ معنى تجريبي" على حدّ تعبير  R.Blanché.
        إن تاريخ الصورنة يبرز بجلاء تحقق فكرة المعرفة الصورية بواسطة الرياضيات، وإذا كانت الرياضيات تتحدّد تاريخيا باعتبــارها معرفة صورية فإنه يمكننا أن نتساءل  عن مشكل الاكتمـــال   ـ  La complétude ـ  باعتباره أساسا خاصية رياضية مميزة للمعرفة، وهذا المشكل يجب طرحه بالنسبة إلى الفيزياء أين تتحدّد الرياضيات كلغة مطبقة لبناء نماذج الواقع المادي. ومن هذا المنطلق تطرح الصورنة على الابستيمولوجيا مشكل علاقتها بالعلوم التجريبية، خاصّة وأنّ كلّ كتابات “Gaston Bachlard”  مخصصة لتحليل التركيب الجدلي للعلاقات التجريبية بالصورنة الرياضية في العلم المعاصر، وتسعى إلى البرهنة على الدور المؤسس والمولد للمعارف الجديدة للصورنة.
النظرية العلمية
إنّ كلمة نظرية لها معاني متعددة في مختلف ميادين المعرفة بالتناسب مع المنهجيات وسياقات المناقشة، ففي الاستعمال الشائع كثيرا ما نستخدم كلمة نظرية لتعنى الرأي أو التأمل أو حتى المضاربة، وفي هذا الاستعمال لا تستند النظرية إلى الحقائق بالضرورة، وبعبارة أخرى فإن المطلوب ليس أن تكون النظرية منسجمة مع الوصف الحقيقي للواقع.
       أمّا في العلم فإن النظرية هي تفسير رياضي أو منطقي، أو هي نموذج لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر الطبيعية، قادرة على التوقع بالأحداث المستقبلية وبملاحظات من نفس هذا النوع، وقابلة للتثبت إذ يجري اختبارها من خلال التجربة أو على الأقل يمكن دحضها عبر الملاحظات التجريبية. وينتج عن هذا التحديد أن النظرية العلمية والواقع ليسا متعارضين بالضرورة. فعلى سبيل المثال سقوط التفاحة هو واقع ونظرية نيوتن في الجاذبية تفسر سقوط التفاحة. وهكذا فإن النظرية في العلم تشير إلى الفهم المفسّر لعدة أحداث طبيعية والفهم المدعوم بحقائق تجريبية تم جمعها عبر الزمن، كما تمكن النظرية العلماء من القيام بتوقعات تتعلق بظواهر لم يتم ملاحظتها بعد، كذلك الشأن مثلا في اكتشاف وجود بعض الكواكب في المجموعة الشمسية حسابيا قبل مشاهدتها عيانيا بالمقراب (الجهاز الراصد) telescope .
        ويجب أن نلاحظ أن ما يميز النظرية العلمية ليس التفكير السببي، ولكن الكيفية التي تؤول وفقها السببية. ففي علوم الطبيعة، لا نقبل أي سبب وخاصة لا نقبل الأسباب التي لا يمكن التثبت  منها. ذلك أن العلم يعطى للسبب معنى عقلاني، بما أنه يتناول السببية داخل تمثل حتمي، لا تمثل انتروبومورفي مثلما هو الشأن عندما نقول مثلا أن الفيضانات هي سبب تحطم السد، فنحن في هذه الحالة وكأننا نبحث عن نية مبيتة في الطبيعة حتى نجرمها. بل أن السببية التي تفترضها النظرية العلمية هي تصور قبلي ينتجه الفكر حتى يتمكن من تفسير ظاهرة ما، لذلك تأخذ السببية في النظرية العلمية صبغة أكثر تعقيدا مما نتصور، لأن السببية ليست إلا ضربا من التفكير الذي يمكن العلماء من تناول الأنساق المغلقة التي يعيدون إنتاجها في المخبر. أما في الطبيعة فليس هناك نسق مغلق مشابه لما ينتجه العلماء في المخابر، فكلّ شيء يفعل في كلّ شيء، وبالتالي توجد أسباب متقاطعة في كلّ حدث طبيعي ولا سبب واحد. لذلك تفكر النظرية العلمية في نسق سببي بحيث تعتبر كلّ ظاهرة كبنية في تفاعل مع بنى أخرى وهكذا لا وجود لسببية خطية في النظرية العلمية اليوم، وهو ما ساهم في ظهور النمذجة كممارسة علمية تسعى إلى تناول الظواهر كبنى وأنساق لا متناهية التركيب.
       لكن يجب أن نميز بين النظرية والنموذج، ذلك أن ما هو مركزي في طبيعة النموذج بدأ بأعم النماذج وصولا إلى أقلها عمومية، هو استخدامه كتمثيل لوصف جوانب معينة من ظاهرة ما أو لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر. فعلى سبيل المثال إن النموذج المصغر للمنزل أو النموذج المصغر للمجموعة الشمسية ليس المنزل الفعلي أو المجموعة الشمسية الفعلية. والفارق بين النظرية والنموذج هو كون النظرية تفسيرية وكذلك وصفية في حين أن النموذج وصفي فقط رغم كونه يمكن من التنبؤ ولكن في أضيق معنى له.
          وهكذا فإن النظرية العلمية لا تحتوي على عناصر غير قابلة للتغيير بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معاينتها في كلّ الاختصاصات العلمية. وما تشترك فيه النظريات العلمية هو مجهود أمثلة الواقع Idéalisation du réel، أمثلة  تتحقق في صورنة رياضية. أما باقي المفاهيم الأساسية التي يستخدمها العلم، فهي ذاتها في تحول مستمر ولا تمثل دغمائيات يمكن حصرها نهائيا، ذلك أن النظرية العلمية تتحدّد قيمتها بخصوبتها التفسيرية لا بالفكرة المقعدة التي تحدد كيف يجب أن تكون النظرية. فالنظرية العلمية تقبل حدودها الخاصة بقابليتها للدحض، بالحوار الدائم الذي يقيمه العقل مع الطبيعة دون أن تقع  في الابتذال وتنسى الصرامة المطلوبة التي تؤسس قيمة المقاربة العلمية للمعرفة. خاصة وأن تعقد الواقع لا يخشى استعمال المفارقات، والمعرفة تشتغل بضرب من التفكير غير المحافظ، هو ضرب التفكير الذي يفسر تطور العلم واكتساحه كل المجالات.

                                                                          الأستاذ: الشاذلي الكسابي

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم