الأنظمة الرمزية: وسائط للتواصل أم مصادر للانعزال؟
                                                        محاضرة من إنجاز الأستاذ: الشّاذلي الكسّابي
مقدمة:
لا نكاد نلتقي بمسألة في الفلسفة، إلا ولها صلة بالإنسان إلى درجة أمكننا أن نسلّم فيها مع كانط بأن الفلسفة قد تحوّلت إلى أنتروبولوجيا، أي إلى دراسة تسعى قدر الإمكان إلى تمثل كلّ ما يتعلق بهذا الكائن.
ولعلّ مسألة التواصل هي من بين أهم المسائل التي ارتبطت وما زالت مرتبطة بالإنسان، لذلك فإننا     لا نخون روح النّصوص الفلسفية بالإشارة إلى الطابع الإشكالي الذي ميّز دلالة الإنسان وما أنتجه من أنظمة رمزيّة عبّرت عن أشكال حضوره في العالم، كما ساهمت في تحديد علاقته مع ذاته ومع الآخر. فسؤال     ما الإنسان لا ينفصل عن سؤال الغيريّة ، فهو سؤال يضعنا إزاء مشكلة الإنساني بين الوحدة والكثرة ويدعونا إلى التفكير في التنوع والاختلاف الذي يخترق معيش الإنسان وما يصدر عنه بما فيه من صدام وعنف وما قد يتضمّنه من اعتراف أو احترام يؤكّد حاجة الإنسان إلى الآخر.
وفي هذا الإطار سنهتمّ بمسألة الوسائط التي صاغها الإنسان لحظة حضوره في العالم ولقائه بذاته وبالآخر وسنتوقف عند ثلاثة وسائط هي اللغة والمقدس والصورة.
لكن ما أهمية النّظر في علاقة الإنسان بهذه الأنظمة الرمزية؟
إن التساؤل عن علاقة الإنسان بالأنظمة الرمزية له أكثر من مبرّر ولكن التبرير الأهمّ هو أن الأنظمة الرمزية من المسائل الملتصقة بالإنسان والموغلة في القدم، فهي أقدم من أيّة ذاكرة بدء بالأسطورة ووصولا إلى الصورة. إلى جانب أنّ هذه المسألة تقوم على مفارقة: إذا اعتبرنا الإنسان كائنا رامزا، بم نفسّر تعدّد الأنظمة الرمزية؟ وكيف يتحقّق التواصل عبر هذه الأنظمة ؟ وهل تؤمّنه على أحسن وجه؟ أليس لهذه الأنظمة مخاطر تهدّد التواصل في حدّ ذاته وتهدّد ماهو إنساني في الإنسان؟ ألم تتحوّل اليوم أنظمة التواصل إلى أسباب عزلة الإنسان وانعدام التواصل؟
I- في دلالة الرّمز وتعدد أنظمته:
 - الرّمز هو تمثيل حسّي لمعنى ذهني باعتماد علاقة مماثلة أو إيحاء بينهما يمكّن الفكر من تأويل الشكل الحسّي وفهمه من أجل تمثّل للمعنى.
- كلمة  symboleمتأتية من الإغريقية sun- bolein وتتضمّن معنى الربط والجمع بين أمرين: هي علامة تعارف تتكوّن من نصفين عندما نجمعهما يكوّنان كلمة السّر(معجم لالند). تشير الكلمة في التقليد الإغريقي إلى شيء مثل الآنية أو الميدالية يُقسم إلى نصفين، بين شخصين، ضيف ومضيف أو دائن ومدين، وبجمع النصفين يكتمل الشكل ليدلّ كل منهما على هويته ويثبت طبيعة صلته بالآخر فهو تذكار ضيافة وتعارف واعتراف بالجميل وتوثيق صلة. فالرمز في الأصل يحيل إلى التوجه إلى الآخر والتواصل بين الإنسان والإنسان ويوحّد بينهما. إذن للرمز وظيفة أساسية هي التواصل، فما دلالة التواصل؟
      إن ما يميّز الإنسان عن الحيوان حسب "كاسيرار"،  قدرته على الترميز، أي أن يتواصل بواسطة هذا الجهاز الرمزي الذي ينتج دلالات يتشكل بواسطتها معنى العالم، فالإنسان يتميّز عن بقية الكائنات لأنه كائن بيوثقافي. فالتواصل عبر وساطة الرمز إذن لا يكون إلاّ إنسانيا. فحين نتحدث عن إنسانية التواصل يكون من الضروري أن نفهم أوّلا دلالة "التّواصل" ودلالة "الإنسانية.
إنّ التواصل في معناه المتداول: هو الاتصال المتبادل، سواء أكان تبادلا للتجارب والآراء بما يعنيه ذلك من تواصل حواري، أو تواصل تسويقي بما يمثله من دعاية تجارية وإشهارية                  أو تواصل يرتبط بشبكة وسائل الإعلام والاتصالات المختلفة. غير أن ما نعنيه بالأساس بالتواصل في هذا المجال هو التكافؤ بين مختلف الأطراف، ليحمل بذلك معنى التحاور بما يقتضيه من مجادلة الرأي بالرأي من أجل الإثراء والتنويع. وفي هذا السياق يعرّف شارل كولي التواصل: على أنه الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطوّر. إنه يتضمن كل رموز الذهن مع وسائل تبليغها وتعزيزها في الزمان. فالتواصل من خلال هـذا التعريف هو جوهر العلاقات الإنسانية ومحقق تطورها. وغير بعيد عن هذه المعاني للتواصل نجد موقف رومان جاكبسون: يستند التواصل إلى ستة عناصر أساسية وهي: المُرسِل والمُرسَل إليه والرسالة والقناة والمرجع واللغة. وللتوضيح أكثر نقول: يرسل المُرسِل رسالة إلى المُرسَل إليه حيث تتضمّن هذه الرسالة موضوعا أو مرجعا معيّنا، وتكتب هذه الرسالة بلغة يفهمها كلّ من المرسل والمتلقي. فهذا القصد التواصلي حاضر في الأنساق اللغوية وغير اللغوية. ولعلّ هذا ما أشارت إليه جوليا كريستيفا في كتابها "اللغة ذلك المجهول" أنه يمكن التمييز بين: التواصل اللفظي يتمّ بواسطة اللغة المكتوبة والمنطوقة، والتواصل بواسطة الإيماءات الجسدية، والتواصل البصري عبر الصّورة. هذا يعني أن هناك ميزتان للتواصل في تقدير جوليا كريستيفا هما التواصل اللساني والتواصل الغير لساني.
II - التواصل اللساني وحدوده:
      يمكن أن ننظر إلى مفهوم اللسان من زاويتين: إمّا من جهة الاستعمال الفردي ووقتها نكون إزاء الكلام، وإمّا من جهة كونه نظام من العلامات والرموز" كما ورد في المعجم التقني و الفلسفي لـ:    "لا لاند" وهو تقريبا نفس التعريف الذي يقدّمه "ديسوسير" إذ يعتبر كغيره من الألسنيين أن اللغة مؤسسة اجتماعية واصطلاحية لها وظيفة تواصلية. إن الهدف الأساسي الذي كان يطمح إليه الإنسان وهو يتهيأ إلى الخروج من عالم الحيوان المثقل بالإشارات والأصوات المبهمة، هو وضع أسّس تواصل يعبّر به عن قدرته الإبداعية فتشكلت الأصوات وتمّ بناء العلامات وفق صيغ اعتباطية اقترنت أساسا بالاتفاق الذي يفسّر اختلاف الألسن رغم كونها تعمل بنفس الآلية المتمثلة في التمفصل المزدوج بما يحمله من قدرة على التحليل والتفكيك والتركيب والربط وهو أمر يجعل اللغة الإنسانية نسق مكوّن من عدد صغير من الأصوات، لكن هذه الأصوات إذا ما رُكّبت وحلّلت نحصل على عدد لا متناهي من العلامات. والعلامات بدورها خاضعة لمجرى الخطاب وتحوّلاته على حدّ تعبير "مارتينيه". فاللغة هي شرط إمكان أنسنة الإنسان وفي غيابها يصير الإنسان وحشا خلوًا من المعنى وفق عبارة "روزنتال".
 فاللغة بما هي شكل تعبيريّ إلى جوار الأشكال التعبيرية الأخرى تكشف عن وجودنا للآخرين بلغة "سارتر"، وهو ما يبرز وحدة الإنسان واللغة، ألم يصرخ سقراط حين أزعجه صمت الآخر:  " تكلم حتى أعرف من أنت"
هذا ما كان ينتظره الإنسان من اللغة كنظام رمزي صاغه متطلعا لعالم مفعم بالغايات، لكن السؤال المعضلة يتعلق بما أسماه "نيتشة" بالمآل، أي بما انتهت إليه اللغة لحظة تنكرها لغاياتها، يقول "نيتشة": «الإنسان صانع اللغة ولكنه أوّل ضحاياها». فإذا ما كانت اللغة لحظة تجلي المكبوت والمهمّش واللامعقول كما تمثلها  "فوكو"، وإذا ما كانت اللغة لا تقول ما تقول حين تقول، فإننا مع "برغسون" نكتشف حدودها     و قصورها، إذ كثيرا ما تقف الألفاظ حجابا بين الإنسان و ذاته و بين الإنسان والعالم. فهي بمثابة الملصقات التي تحجب الحقيقة، حقيقة الأشياء في ذاتها، إنها القطيعة والعزلة، وهذه القطيعة تبدو في الواقع قطيعة مزدوجة فهي قطيعة بين الأنا وعالمه الداخلي وبين الأنا والآخر والعالم.
 ويمكن بلورة هاتين القطيعتين من خلال أطروحتيْ كل من " هنري برغسون" و"غاستون برجيه". فالأوّل: يبيّن لنا أن عالم الذات هو ديمومة متجددة، فهي ليست حالات نفسية متعاقبة ومتكررة بل هي عالم الكيف غير المتجانس والمتنوع دائما، لذلك تصبح مقولة الزمن لاغية لأنّ الزمن يقتضي فهم الأشياء وربما ذلك ما يفسّر تعريف "برغسون" للّغة بما هي اختزالية "تشتيتية" يتم بناؤها على نحو تعاقبي، لذلك فهي تشوّه سيلان المشاعر والانفعالات وتفسد تجددها الدائم. فاللفظ لا يُبقي من الشعور إلا خصائصه العامة، إذ يفرغه من بعده الشخصي فتحجب عن الذات حقيقة مشاعرها وتخدعها.
 إنّ "الألفاظ التي بها نتواصل تذوّب الأنا في قوالب النّحن فيغيب الأنا الشخصي في ثنايا الغير، يقول "برغسون" في كتابه "محاولة حول معطيات الوعي المباشر": «ها نحن أمام ظلِّ لأنفسنا إذ نتوهم أننا حلّلنا شعورنا ولكنّنا استبدلناه في الواقع بحالات جامدة يمكن ترجمتها إلى كلمات». أمّا "غاستون برجيه" فإنه يؤكد أن ما تحياه الذات من انفعالات ومشاعر وحالات مختلفة هو من تفرّد بحيث لا يمكن فتحه للآخرين إلاّ على وجه الإيماء والإشارة، فالإنسان مكره على أن يحيا في عزلة لا سبيل لاختراقها عبر تشريك الآخر فيها.
إذن اللغة وظيفيّا تهدف إلى التواصل وكشف حجب الذوات والعالم، لكن التواصل يهدف دوما إلى نقلِ ما لا يمكن نقله، إذا التجربة الذاتية لا يمكن أن يدركها الآخر في فرادتها، فحالات مثل الألم أو اللذة لايمكن للآخر أن يستشعرها في أدق تفاصيلها. وتتجلى هذه القطيعة بوضوح في موت من نحبّ، فإنّ الحزن يظل تجربتي ويبقى الموت بالنسبة لي تجربة مجهولة فنحن نموت كما نولد بمفردنا. وكما استنتج "نيتشة" من خلال منهجه الفيلولوجي أن أوهاما عديدة قد سيطرت على الإنسان وينتهي إلى كون اللغة أداة خداع ووسيلة للمراوغة نتيجة كونها تعتمد أقنعة الاستعارات ورياء الكنيات، يقول:« كلّ لفظ هو حكم مسبق وفي ذلك يكمن خطر اللغة على الفكر». أمّا المعنى الآخر المخفي في اللغة فهو ما أكده "رولان بارت" بقوله: «إن اللغة، ما إن يُنطق بها، حتّى وإن ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها» مما يعني أن اللغة لاتحقق التواصل إلاّ على جهة التسلط والزيف والمغالطة. بهذا المعنى يحقّ لنا القول بأنّ اللغة أخطر ماامتلكه الإنسان:«فهي تفتح أمامنا أبواب فهم العالم وتغلقها دوننا» على حدّ تعبير "ميرلوبنتي".
ألا يشرّع لنا عجز اللغة هذا على التواصل، المراهنة على المقدّس لتحقيق هذا المطلب؟
III - المقدّس والتواصل: 
 يقود البحث عن أقدم المحاولات الإنسانية لتفسير الوجود في العالم وإرساء تواصل بين الناس داخل الجماعات وخارجها إلى المقدس لكونه قد مثل الصفة المشتركة للأساطير والأديان وأشكال السلطة والقيم وقناة التواصل الأساسية بين الأفراد والشعوب، حيث كانت العقائد تتشكل من عقائد أخرى ويتوسع انتشارها. ولكن زاوية النظر هذه لا تستوفي كل الصورة، ذلك أن المقدس كان على مرّ العصور الشعار الذي يبرر الاضطهاد والحرب والإبادة والكراهية. فباسم الحقيقة المطلقة التي يمنحها المقدس تم تبرير أشكال العنف ضد كل من يختلف معها باعتباره كافرا بها. إن هذه المفارقة لا يمكنها إلا أن تثير شكوكا في شأن منزلة المقدس كوسيط لتحقيق التواصل بين الناس تشييدا لوحدة إنسانية مشتركة ميزتها الكونية مبررة بذلك استشكاله:
- ما دلالة المقدس في السجل الديني؟ هل يبدو عقيدة يفرضها المجتمع على الأفراد بسلطاته الجبارة؟ أم هو حاجة وجودية لا غنى عنها يقتضيها العقل البشري نفسه؟
- إذا كان المقدس يقترن بالاعتقاد في قيمة مطلقة ألا يعني ذلك أن كل دين بحسب جوهره يقوم على منطق الحقيقة الواحدة ورفض الاعتراف بجدارة كل من يختلف معها بالانتساب إلى الحقيقة فيبرّر التعصب وما ينتجه من عنف وبالتالي يصبح مصدر انسداد التواصل؟
لعلّ عالم الاجتماع الفرنسي "إميل دوركايم"‏‏ هو أوّل من تناول مفهوم‏ المقدس،‏ إلا أنه قد تناوله في إطار مفهوم آخر هو مفهوم‏" التابو"،‏ وهذا اللفظ بولوني الأصل ومعناه‏" المقدّس‏" من جهة و‏"الممنوع والخطر‏"‏ من جهة أخرى‏. إذا كان التابو هو أمر مطلق ولكن بالسلب لأنه يمنع الإنسان من فعل ما يريد، فإن المقدس هو أمر مطلق ولكن بالإيجاب لأنه يحثّ من يلتزم به إلى تأدية فعل ما حتى ولو كان ضد القانون الدنيوي‏.‏ ومن هنا تنشأ إشكالية المقدّس‏,‏ أي دخول المقدّس في مجال التناقض من حيث أن الإنسان في حالة المقدس يكون محكوما به،‏ ولكنه في حالة الدنيوي يكون حاكما له‏،‏ ومن هنا يعتبر"دوركايم‏": أن المعتقدات الدينية تتّسم كلها‏،‏ سواء البسيطة منها أو المعقّدة‏،‏ بخاصيّة مشتركة،‏ إذ هي تفترض تصنيفا لكل الأشياء‏-‏ الواقعية والمثالية‏-‏ إلى مجموعتين متعارضتين يشار إليهما بلفظين متمايزين وهما‏:‏ المقدّس والدنيوي‏.‏ وقسّم العالم إلى هذين المجالين‏:‏ أحدهما مقدس والآخر دنيوي‏،‏ تلك هي السّمة المميزة للفكر الديني أيّا كان‏.‏ 
إذن المقدّس هو هذا الوسيط الرمزي وهو هذا العالم المتعالي في مقابل الدنيوي ويتجلى في مستويات عدّة كالمكان المقدس في مقابل المكان الدنيوي، والزمان المقدس في مقابل الزمان الدنيوي، فالمقدس هو مبدأ للعالم وتفسّر الأشياء على أساسه.
ماهي قيمة المقدس؟ وكيف يؤمّن وظيفة التواصل؟
      لقد كشف "ج.ق.قرانجي" عن حاجة الإنسان للمقدس الديني، فقد ساد الاعتقاد أن الإنسان المعاصر قد حقق المزيد من التقدم العلمي والتقني ولم يعد في حاجة إلى الفكرة الإلهية (الموقف الوضعي). لكن "غرانجي" بيّن أن الإنسان المعاصر ما يزال في حاجة ماسة للمقدس، وفي هذا السياق يقول "فولتير":«لو لم يكن الإله موجودا لوجب اختراعه». هذا يعني أن للمقدس قيمة في حياة الإنسان، فمن المقدس ينشد الإنسان قيمة روحية متعالية، إنها قيمة عليا للعقل، مثال: إن تضحية سيدنا إبراهيم بابنه تعكس فكرة التضحية من أجل قيمة متعالية. إلى جانب القيمة التاريخية للمقدس، أكد"غرانجي" أن للمقدس قيمة عقلية وذلك على خلاف الاعتقاد السائد الذي يعتبر أن المقدس يخلو من التفكير العقلي، فإن المجتمعات المعاصرة لم تتخلص بعد من حضور المقدس فهو يلعب على مرّ العصور دور الوساطة من خلال اكتشافه لأشكال أخرى من المقدس: مقدس اجتماعي(المراهنة على الرفاهة والتقدم كقيمة عليا)، وكذلك مقدس سياسي (النضال من أجل مبادئ عليا)، المقدس العرقي (النضال من أجل عرق معين).
إذا كان للمقدّس قيمة تاريخيّة وعقليّة –كما رأينا هنا- فهو يكتسي أيضا قيمة اجتماعية مثلما يؤكّد على ذلك "دوركايم"، حيث يعتبر أنّ المقدس الديني هو الضّامن «للتماسك الاجتماعي» ومن ثمّة فهو يعمّق التواصل بين الإنسان والإنسان. فالاحتفالات الدينية تعمق من شعور الفرد بالانتماء إلى مجتمعه لأنها تغذي مثال التماسك الاجتماعي في كل أبعاده الروحية والوجدانية. من هذا المنطلق اعتبر "دوركايم" أن الاحتفالات الدينية لا تختلف عن الاحتفالات القومية والوطنية، فهذه الاحتفالات بدورها تقوّي الشعور بالتماسك الاجتماعي. إذن الإنسان في حاجة إلى الاعتقاد الديني لأنه كائن روحي وبذلك فإن المقدس يحقق التواصل فهو يشبه اللغة. فإن كانت اللغة أداة تواصل لفظيّ فإن المقدس أداة تواصل عبر العبادة.
إن ما سبق، اتجه إلى تعريف دلالة المقدّس في تكوين الإيمان الديني، غير أن المطروح ليس النظر إلى تلك الدلالة في حدّ ذاتها بل في علاقتها بالتواصل الاجتماعي والكوني، فهل بإمكان الإيمان بالمقدس الذي يفترض الإمساك بالحقيقة المطلقة والواحدة أن يكون وسيط تواصل بين الناس تأسيسا لتلاقح بين الأديان المختلفة يدعم الوحدة الإنسانية، أم أنه بذلك لا يمكنه أن يقود إلاّ إلى تعصّب يعوق التواصل ويكرّس صراع الأديان ويشتت تلك الوحدة الإنسانية؟
إن ما لا يمكن إنكاره أن المقدس الديني قد مثل عبر التاريخ المبرر الرئيسي لأشكال عديدة من العنف مثل الإبادة الجماعية والاضطهاد والتمييز وانتهاك الحقوق على أساس طائفي بحيث يعبّر بذلك عن تعصب ديني. لقد بيّن "فولتير" خطر التعصب الديني إذ كشف عن المفارقة التي تسكن التعصب الديني المتمثلة في تبرير العنف باسم مبادئ تدعو إلى المحبة والعدل: فالتعصب هو حالة الفكر الذي اعتنق حقيقة ما يعتبرها مطلقة وواحدة، فلا تتسامح مع رفضها أو الاختلاف في فهمها باسم حقيقة مغايرة أو تأويل مختلف لها. وبناء على ذلك يقيّم الاختلاف على أنه ضلال وكفر لا مجال للاعتراف أو مجابهته بالحوار ووسائل الإقناع بالعنف كالإكراه والاضطهاد والمقاطعة وحتى القتل والإبادة. وهذا ما جعل" ألان" يعرفه بكونه «حبّا مفزعا للحقيقة». الكلّ يشن الحرب ضد الكلّ ويسميها حربا مقدسة إلى درجة أنه من المؤسف أن تتردد على مسامعنا اليوم عبارات تحمل تناقضا مثل عبارة "الحقد المقدس"، فهل يعقل أن يكون الحقد مقدّسا؟؟
لقد أصاب ابن خلدون بقوله: «إن أشدّ الحروب ضراوة تلك التي قامت على العقيدة»، فالمقدس في عصرنا أصبح قدرة تأثيرية على جميع الناس. إن المقدس الذي يدفع بالحرب هو نفسه الذي يضمّد ويلاتها. إننا أمام زمن التباس المقدس بما يوشك أن يفقده قداسته، إذ لم نعد نميّز بين عمليات إرهابية وعمليات خيرية. إن أسوء ما وصلت إليه الإنسانية هو التشكيك في مقدساتها. لعلّ هذا ما تجلّى بوضوح في المقاربة الماركسية للمقدس الديني: تطرق "ماركس" في كتابه "نقد الحق السياسي الهيقلي" بالنقد لمسألة المقدس الديني حيث أكد على مخاطر التوظيف الإيديولوجي للدّين عندما تستغله الطبقة المهيمنة اقتصاديا وسياسيا من أجل السيطرة وتبرير الاضطهاد الطبقي، أو عندما تتحالف السلطة السياسية مع رجال الدين. فعندما تشتدّ مأساة الطبقة الكادحة تجد عزائها في الدين لأنه يحمل لهم الجنّة الموعودة الحقيقية وليست الشهوات المادية، فهو يُبعدهم عن عالمهم المادي الحقيقي المتميّز بالمأساة لذلك قال ماركس«الدّين أفيون الشعوب».
إذن تحول المقدس إلى سلطة على الإنسان، ولعلّ هذا ما يبرّر مطالبة بعض الفلسفات المعاصرة الغربية بموت الإله لأنه علامة على شقاء الإنسان وبؤسه، لقد طالب "نيتشة" بالتخلّص من المقدس الديني عندما قال: «مات الإله ولكن ستكون هناك ربما طيلة آلاف السنين مغارات يُعرض فيها ظله وتلك هي طبيعة الناس، أما نحن فيجب علينا أن نهزم ظله».
هكذا يمكن القول أنه إذا كان للغة سحرها فإن لها سلطانها، وإذا كان للمقدس إغرائه فإنّ له استعباده. إننا لم نعد ندري ما إذا كنا نستعمل المقدّس أم يستعملنا؟ نستعمل اللغة أم تستعملنا؟ حينها ألا يمكن أن تسعفنا رمزية الصّورة؟
IV- الصورة والتواصل:
« ليست الفرجة مجموعة من الصور بل هي علاقة اجتماعية بين أشخاص تتوسطها الصورة». هكذا تكلّم "غاي دي بور" في كتابه "مجتمع الفرجة". لا نعني بالصورة مجرّد الشكل المحسوس الموجود في العالم الطبيعي ولا اللوحة المرسومة أو التمثال المنحوت. فالسينما والمسرح قد حلاّ محلّ النحت والرسم ولا نعني بها كذلك الصورة الفوتوغرافية التي يلتقطها المصوّر في فيلم ويكبّرها أو يصغرها على ورقة يقع الاحتفاظ بها كوثيقة يقع اعتمادها في التاريخ للعائلة. فالكاميرا والتلفزة قد حلتا محلّ آلة التصوير الضوئي والراديو كصورة صوتية بل نعني بها الصورة المرئية المبثوثة عن طريق التلفزة والحاسوب والمرسلة عن طريق الفضائيات والتي تلتقط الواقعة في ماديتها وترسلها إلينا من جميع زواياها والتي وقع اعتمادها اليوم كواسطة أساسية للاتصال بين الإنسان ونفسه والعالم والآخر، وكنظام رمزي وشاشة بلاغية تنقل كل ما يحدث ويدور في الكون من أحداث، وتحرك العقول وتحفّـز الهمم وتقوي لديهم درجة الفضول. إن الصورة توفر للإنسان فرصة التفرج على المشهد والتحديق في المنظر. والفرجة تسعى بالأساس إلى إظهار الواقع عن طريق العين بعد أن تعذر إدراكه بواسطة وسائط أخرى.
إن أصالة الصورة تكمن في إدماج وربط وضمّ أحداث هائلة لكونها تقرّب المسافات وتمكّن الناس من ربح الوقت والجهد كما تتجلّى أيضا قدرتها على الإيصال والإعلام والإخبار والإفهام وبالتالي إزالة الغموض والالتباس وسوء التفاهم الناشئ بين الذوات والمجتمعات والثقافات، لا تضاهيها في ذلك أية واسطة أخرى حتى وإن كانت اللغة أو الفن أو المقدّس. لقد تحولت الصورة في العصر ما بعد الصناعي إلى مجمع كل الوسائط والآليات التي تستعمل في العملية التواصلية لأن قدرتها على التأثير هو أكثر من الخطاب، وتفوق قدرتها قدرة الكتاب والمقابلة المباشرة والتحري التجريبي عن قرب. كلّ الصحف والمجلاّت تحتوي مجموعة من الصور من أجل أن تباع وتصل إلى الناس وتلجأ إلى التعبير عن بعض الأفكار باستعمال الصور الكاريكاتورية بعد أن ملّ القارئ النصوص المكتوبة التي ترهق العيون وتتعب العقول وتتطلب التركيز وقوة البصيرة ودقة الفهم، بينما الصور تتطلب من المشاهدين تمرير النظر بسرعة حتى تنغرس في الخيال والذاكرة وتمرّ إلى اللاوعي وتتجوّل في السراديب السرية للذات سواء محدثة رهبة أو نشوة.
ولكن أليس للصورة اليوم من مخاطر؟
«إن وسائل الاتصال تحقق التماثل بين الناس بعزلهم عن بعضهم البعض» "هركهايمر وآدرنو". إن الصورة نفسها لا تخلو من التوظيف الإيديولوجي والاقتصادي. وإن الواحد منا ليجد نفسه محاطا من كل الجوانب بالصورة ملصقة على الجدران وعلى وسائل النقل العامة والخاصة، بل الأفظع من ذلك على ألبستنا، إلى درجة أمكن القول معها بأننا أصبحنا مجرد لوحات إشهاريّة سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية. إننا لا نستعمل الصورة ونوّظفها بقدر ما تستعملنا، وهي ليست شيئا ينضاف إلى محيطنا، بل هي المتملكة له، وهذا ما يجد تأييده في قول ديبراي: «فبما أن الصورة أول ساكن للمكان، فإنها ليست ضيفا علينا وإنما هي صاحبة المحل».
 تزداد خطورة الصورة عندما تصبح موضع تقاسم بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية. إذا كانت الإيديولوجيا تجبرنا على أن ننظر إلى العالم فقط من خلال منطلقاتها وأفكارها وأحكامها، فإن النزوع الاقتصادي يبدو أشد خطورة لأنه لا يسمح بالتفكير بل يكرّس عقلية الاستهلاك، وهو لا يقدّم العالم إلا في شكل فرجة ومتعة وتسلية. إن المتعة الظرفية والآنية تُغني الإنسان عن التفكير وعن البحث في حقيقته وحقيقة واقعه، لأنها تقدم لنا مشهدا واحدا من الواقع، إذن الفرجة الظرفية تحجب عنّا النظرة العقلية والمتماسكة للعالم، إن "أصل الفرجة هو خسارة لوحدة العالم" على حدّ عبارة "غاي ديبور". "أمام منضدة المشاهدة نصمت" ونمتنع عن الحوار بيننا، لنصوّب أنظارنا تجاه صورة تقدّم لنا المعنى "دفعة" دون مناقشته.
يبدو أن قدر الإنسان هو أن يبدع دائما مظاهر استعباده، فقد اعتقدنا أن اللغة إبداعا، ولكن اتضح لنا أنها مجالا للإرغام سواء في بنيتها أو في توظيفاتها. كما اعتقدنا أيضا أن الصورة قد يسّرت لنا الفهم وجنّبتنا عناء التفكير المطوّل الذي تقتضيه اللغة. كما أن اعتقادنا في قيمة المقدس قد انهار أمام تحوّله إلى آلية تحريض على العنف والعنف المضاد. وكأن الإنسانية تبدع في اتجاه يوازيه عكسيا تراجع كل تواصل إنساني، إلى درجة أننا نكاد نسلّم بالموقف الطبيعي الرافض للحضارة ذات الطابع التدميري وذلك بالرجوع من جديد إلى الحالة الطبيعية [روسو]. «على أنه لا علاج  يقي الإنسان هذا الانقلاب في النظام الطبيعي» كما ذهب إلى ذلك كاسيرار، أي أنه لا سبيل إلى أن نحيا خارج الأنظمة الرمزية. فهل يعني ذلك أن أزمة التواصل قدر إنساني؟ أم بمستطاع الإنسان اليوم التحرّر من هذه الأزمة؟
V- شروط التواصل:
إنّ التحرر من أزمة التواصل رهين الشروط التالية:
1- شرط التكافؤ: أن يكون الأفراد متساوون ضمن التواصل وضمن الأنظمة الرمزية ولا يحق لأي كان أن يمارس وصايته على البشر بذريعة التفوق أو التحضر، ذلك أن الأصل والأساس الذي تبنى عليه العلاقات بين البشر هو التكافؤ لقول هابرماس: "أسمّي تواصلية، التفاعلات التي يكون فيها المشاركون متفقين مؤتلفين على تنسيق مخططات عملهم".
ثقافيا : التسليم بالتساوي في القدرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية دون اعتبار الثقافة حكرا على أمّة دون أخرى ودون مفاضلة.
لغويا: أن يساهم التواصل في إثراء اللغات الخاصة وتمكينها من الاستفادة من الدراسات الألسنية، بدل طغيان لغات تسمّي نفسها عالمية وحيّة في مقابل لغات ميّتة بقصد ممارسة الهيمنة الثقافية. غير أنه من الضروري أن نحذّر في هذا المجال من تدخّل النوايا السيئة حين تسعى إلى إحياء لغات عرقيّة يكون المقصد منها إضعاف اللغة الأم وإضعاف الحضارة القائمة عليها.
دينيّا: تكريس حوار الديانات بدل صراعها.
فرجويا: أن تكون المؤسسات الإعلامية متاحة بالتساوي وأن تكون مصدرا لحوار حقيقي بدل الحوارات المزعومة والمصطنعة التي خلقت فضائيات غرضها الأساسي التعتيم عن فضائيات أخرى قد تكون مساهمة في تطوير الثقافات الإنسانية. وكمثال على ذلك نذكر سعي الدول العظمى إلى إرساء فضائيات بمختلف اللغات الغاية منها إضعاف الحضارات من داخلها. إنّ مقصدنا بالأساس هو أن نجعل الصورة إنسانية.  
1- شرط الكونية: إن ما أنتجته الإنسانية من أنظمة رمزية هو في حقيقته مكسب للإنسانية جمعاء، لذلك لا ينبغي أن تكون منفعته فئوية أو طبقية أو قطرية بل يجب أن تكون إنسانية وكليّة.
- لغويا: يكون مقصد نشر اللغة توسيع الثقافات وتنويعها بدل طمس خصوصيات الشعوب وتطويعها للخضوع.
- دينيّا: إذا كانت الديانات التوحيدية تلتقي في القول بوحدة الإله وتلتقي في العمل على فعل الخير ونشر قيم المحبة والتضامن... فمعنى ذلك أنه يوجد في الديانات ما يمكن أن يكون دافعا لتوحيد غاياتها الكونية. إنه لا بديل عن ثقافة المواجهة والاصطدام إلاّ بثقافة الالتقاء والتقاطع في الأهداف الإنسانية. وعوض إثارة مسائل تثير النزاع والاقتتال فإنه يكون من الأجدر إثارة مسائل الالتقاء ضمن ما هو كوني وإنساني.
- فرجويا: لقد تحرّرت الإنسانية بواسطة اللغة سياسيا ومكّنت الكتابة من التوعية وفضح آليات السلطة. والوظيفة نفسها تؤدّيها ثقافة الصورة، لذلك فإنّ ما نشترطه بالأساس هو أن تكون الصورة إنسانية في توظيفاتها وفي مقاصدها بدل أن تكون تجاريّة. وعوض أن تفرض الرأي الواحد والذوق الواحد، فإنه من الضروري أن تكون حافزا على تحرير الفكر وتحرير الذوق. إن الإنساني لا يمكن أن يتحقق بمخادعة الشعوب واستثارة غرائزها، بل إنّ الحرية الحقيقية والتواصل الحقيقي يتحققان أساسا عندما يكون الإنسان هو المقصد والقيمة. إذا شرط الحرية لا يكون باستغفال المتلقي، بل باحترامه وتمكينه من أن يكون صاحب موقف حقيقي، بدل تدجينه وتدجين أرائه ومواقفه وذوقه، لأن الحرية هي في آخر المطاف قيمة كل القيم.
الخاتمة:
 إذا كان التواصل ضرورة إنسانية فإن هذه العملية لا يجب أن تكون تلقائية، ما دام الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تفرّد بالرمز، بل يجب أن يكون التواصل منتظما. غير أن الانتظام وحده لا يضمن شرط إنسانية التواصل وإنسانية الأنظمة الرمزية. لذلك تفترض العملية التواصلية شروطا إيتيقية كي يكون التواصل نفسه إنسانيا، وكي يكون ما ينتجه الإنسان تأكيدا لتحضّره، حتى يظلّ التواصل "نداء الوجود"، إنه نداء الوحدة والكثرة، فالوحدة تكمن في أنّ الأنظمة الرمزية مطلبها التواصل، أما الكثرة فهي في تنوع الوسائط الرمزية التواصلية. ذلك هو الإنسان كائن المفارقات مطلبه المعنى وهاجسه الدلالة ورهانه التواصل ما دام التواصل نداء الوجود.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم