الفـن والحقيقة
محمد طواع
» La vérité, éclaircie et réserve de l’étant, surgit alors comme poème. Laissant advenir la vérité de l’étant comme tel, tout art est essentiellement poème   «. Heidegger

هذه العلاقة التي للإنسان بحقيقة الوجود وبصداها، هو ما يجعل الإنسان يقيم في حقيقته كقصيدة، كما تجعله يحقق إنسانيته ليقيم بشكل أصيل بجوار الأشياء. من أجل هذه العلاقة احتمى هيدغر بما ذهب إليه هلدرلين في الشذرة الشهيرة" إنما يحيى الإنسان على هذه الأرض شعريا" وبهذه التجربة الشعرية في الحياة يصبح الإنسان، مفكرا كان أو فنانا، راعيا للحقيقة في دلالتها الشعرية وحاميا لها.
قد يبدو أن الأمر يتعلق في هذه الدراسة بحقيقة العمل الفني. غير أنه سيتعلق بمسألة اعتبرت من قبيل الأمور العويصة. إنها مسألة ماهية الحقيقة، الماهية التي تؤسس إنسانية وشيئية الأشياء والحرية، وتحدد الكيفية التي ينتمي بها الإنسان لعصر من عصور الوجود. ومن ثم فإن كل ما يتأسس كواقع للبشر ما هو إلا استجابة لنداء هذه الحقيقة.
لقد ساد الاعتقاد، بحكم الدرس الفلسفي والإيبستيمولوجي، في أن التساؤل حول الحقيقة يهتم بهذه الأخيرة إما باعتبارها حقيقة المعرفة والبحث العلمي أو حقيقة التجربتين الاختبارية والعلمية أو الحقيقة الدينية. هذا الاعتقاد لم يحصل له أن تساءل عن هذا الذي يميز "الحقيقة" باعتباره ماهية لها. وهذا ما جعل طرق مسألة الحقيقة لا يخرج عن المجال الذي كان يعتبرها حكرا عليه، أي مجال التفكير القائم على مقولة الثيوريا أو النظر؛ التفكير الذي يعتبر العبارة المنطوقة بوصفها حكما هي الموقع الأساس للبت في مسألة الحقيقة. ومن تم يسند هذا التفكير هذه المسألة لاعتباطية الإنسانية ويقيمها على فاعلية ذاتيته. لذلك تم فهمها كشيء مضاد للخطأ والكذب والخداع والوهم أو للنفاق والباطل. ومجموع أنماط اللاحقيقة هذه تعزى في النهاية إلى الإنسان نفسه، وإلى الخلل الذي قد تتعطل بموجبه تقنية المنظورية وقواعدها المنطقية التي تقوم عليها القوة العاقلة. هذه التقنية، وهذه القواعد، هما عينهما تقنية المنطق والنظر وقواعدهما. هذا ما جعل الفلسفة تهتم منذ نشأتها بالقبلي كقاعدة للتعالي ولكل انفتاح على الموجود.
على أساس هذا الاعتقاد لم يعد الواقع واقعا فعلا، ولا الحقيقي حقيقة إلا بالكيفية التي يتراءى بها على مستوى الإدراك أو التمثل والموضعة. ومن تم، فالحقيقة، كل الحقيقة، هي ما تم إدراكه وتمثله أو موضعته ليس إلا؛ بمعنى ما تم حده وحصره والإمساك به مدركا. وعلى أساس هذا الاعتقاد تحددت كذلك ممارسة الإنسان وقراراته من حيث علاقته بالموجود.
هذا الاعتقاد الذي تم تأسيسه مع الفلسفة منذ نشأتها، هو ما جعل طرق مسألة الحقيقة لا يخرج عن الأساس الميتافيزيقي للتفكير القائم على الثيوريا. بمعنى أنها لا تطرق إلا بلغة المنطق وفي علاقة بفعل التمثل، ومن تم فهي لا تخرج عن عالم الحيوان العاقل أو الإنسان العارف وقوته الإدراكية. هذا ما جعلنا نعتقد في أن الإنسان موجود في ذاته ولذاته، ولم يفكر فيه باعتبار سلوكه وقراراته في علاقة بالوجود وماهيته، سلوك وقرارات وحرية لا تنفك عن هذه العلاقة التي تتميز بالغرابة، إنها العلاقة بماهية الحقيقة ذاتها. لكن قد يسائلني صاحبي، كيف يمكن حد شيء يتميز بالغرابة والغموض أو يعتبر من قبيل العويص الذي يتمنع عن كل محاولة للحصر؟
فأقول، يتعين مجاوزة التفكير الذي يختزل ماهية الإنسان، ومعها مفهوم الحقيقة، بردهما إلى القوة العاقلة. ذلك أن الإنسان موجود مثل باقي الموجودات، لكن لا ينبثق ويتجلى كموجود إلا في إطار ما ينفتح عالما، أو شروطا محددة لإمكانات ما يتحقق بشكل تاريخي كقرارات وممارسات. ومن بين ممارسات البشر هذه، تلك التي يتحقق معها عالم المنفتح اللامحدود، الذي يخترق كل شيء، نذكر الفن. وبما أن المنفتح يمتنع عن كل تحديد، فهو ما يترك الموجود ينبثق ويتجلى حضورا، من دون أن ينكشف –هو- كلية. من هنا فترك الموجود يكون، بمعنى ينبثق ويظهر، هو في الآن نفسه اختفاء أو احتجاب. والحقيقة بوصفها لا تحجبا سماها الإغريق بلفظ الأليثيا الذي يعين ما يعينه لفظ الفيزيس. هذه الحقيقة كانكشاف، هي ما يترك الموجود ينكشف بمعنى يتجلى ويظهر فيما تظل هي متحجبة. وكون ماهية الحقيقة هي بين بين، بين ترك الانكشاف يتحقق ظهورا وانبثاقا للموجود، وبين الاختفاء، فهي السر عينه الذي يميز الوجود.
وعليه، فماهية الحقيقة بوصفها لا تحجبا أي اليثيا، لا يمكن الاقتراب منها إلا بإخراج أمر البت في الحقيقة من الموقع التي اعتبر موقعها بامتياز، أي العقل وأساسه المنطقي وتقنيات الحد والحصر والتعريف وبناء المفهوم. غير أن الخروج سيكون إلى أين؟ هل إلى هاوية؟ خاصة وأن الميتافيزيقا تعلمنا بأن أخلاق العقل ورصانته هي الطريق السالك لكل حق، أما خارجه فهو الهاوية عينها.
نقول مع هايدغر إن من بين ما يمكن أن يقربنا من ماهية الحقيقة بوصفها انكشافا نأخذ تجربة العمل الفني. ذلك أن هذه التجربة من شأنها أن تقربنا من الموقع الذي تتحقق معه الحقيقة كلا – تحجب، إذ بتحققها عملا وممارسة في غاية الشعرية، يتحقق التكشف والظهور، مع تمنع بقية عن التكشف الكلي، بمعنى أن في فعل الانكشاف يظل دوما، هنالك ما يحتفظ به بشكل غامض، وهو المسمى أرضا.
ألا تلاحظ معي أنه لما نكون أمام عمل فني معين، ينفتح عالم أمامنا، يكون قابلا لتأويلات لا نهائية، عالم يفرضه على منظاريتنا هذا العمل الفني بشكل لا يأتي كاملا؟ لذلك لا يسمح ما يظهر عالما بالتأويل القطعي أو النهائي؛ إذ أن هناك دوما، ما يحتفظ به متواريا وهاربا عن مقولات وهاجس التحكم، حيث طلب الحد والحصر والفهم. هذا المتواري أو الهارب هو الأرض التي تمكن العالم من أن يأتي صوبنا مع العمل الفني. غير أن الأرض تختفي وتتوارى في حضور العالم إبداعا. ومن تم فهذا التآني الذي يتحقق في ظل الصراع بين الانكشاف والاختفاء، هو الذي يميز ماهية الحقيقة، وهو ما يجعل الإنسان يتيه في إمبراطورية التاريخ مهددا بالسقوط في ضلال مبين. من هنا يتعين، ومن أجل مجاوزة الميتافيزيقا، التساؤل عن الحقيقة كاختفاء وتيه وليس كمجرد تطابق المعرفة لموضوعها أو تطابقها مع شرائط المنطق وموجهاته أو محدداته المنهجية.
علاقة الإنسان بهذه الأرض، هي نفسها علاقة العين بالضوء. لكن ليس بالمعنى التي تريده الأفلاطونية: يصعب على العين أن تحدق إلى ما يمكنها من الرؤية، وإلى ما يمكن الأشياء وألوانها من أن تكون مرئية. نعم، رؤية الأشياء وألوانها ممكنة، غير أن رؤية الضوء في ذاته خالصا، غير ممكنة. من هنا فالضوء لا يتعالق مع العين إلا من خلال ما تمت إنارته، أما النور في حد ذاته يصعب علينا المسك به أو حصره أو الاقتراب منه في ذاته. ولكي تتأكد بنفسك أدعوك إلى أن تحدق إلى الشمس باعتبارها مصدر النور والدفئ أو مصدر الطاقة الضوئية، وقل لي هل ستتمكن حتى من فتح عينك وماذا سترى إن لم تكن الظلمة؟
ماهية حقيقة الوجود قريبة من هذه الصورة التي حاولت أن أنحتها لك بالحديث عن الشمس والنور والرؤية. حقيقة الوجود إذا، شبيهة بهذا النور الذي تصعب رؤيته في ذاته. إنها لا تسمح بالاقتراب منها إلا في محايثتها للموجود. إذ هي تضيئ الموجود، والوجود يلقي بنا، بهذه الإنارة، في المنفتح. غير أن ينبوع الضوء يظل متواريا مثل علاقة الماء بمنبعه. نحن نأخذ الماء من الحنفية لكن النبع الذي يأتي منه الماء وينحدر عنه يظل مجهولا بالنسبة لنا. غير أن جهلنا بالنبع والمنحدر لا يعود إلى قصور في طريقة البحث عنه، بقدر ما يعود إلى شدة قربه منا بحكم تواجدنا في إطار مأواه. من هنا فغرابته هي عينها غرابة الواضح ولغزه.
على أساس هذه المماثلة والصورة التي تتولد لنا بإدراكها، ينبغي أن نفهم لغز الحقيقة وغرابتها والتباسها من حيث هي حقيقة الوجود أو الكون. اللغز والغرابة يكمنان في كون كنهها لا يأتي صوبنا بشكل مباشر بقدر ما يأتي محايثا للموجود. أما الموجود الذي يأتي معه صدى هذه الحقيقة ويعتبر مأوى له، هو اللغة. من هنا اعتبار اللغة مقطن حقيقة الوجود. لذلك، فكل محاولة للمسك بناصية هذا الصدى وحصره كما ينص درس المنطق، يبوء بالفشل، لتظل هنالك إمكانية للاقتراب منه فقط. أما إمكانية الاقتراب من الحقيقة بهذا المعنى هو العمل الفني إذ معه تتحقق الحقيقة كقصيدة. كيف ذلك؟
أولا، ليعذرني صاحبي عن متاعب المتاه الذي دخلنا إليه، وعن كوني لا أتوفر على جواب في متناول اليد لأرفع به ما التبس وما استشكل دفعة واحدة. لكن لنفتح في البدء مسلكا للتفكير بالسؤال التالي: ما هي شروط إمكان العمل الفني؟
سيفضي بنا هذا السؤال، وإذا ما تابعنا السير في كامل التقوى، في النهاية، إلى ما يمكن أن يقربنا من الحقيقة كانكشاف. والحقيقة بهذا المعنى هي حقيقة الوجود. أما لفظ الانكشاف فيسمى كيفية من كيفيات كلام الوجود وحضور حقيقته. والوجود مع التجربة الميتافيزيقية قد اقترن بلفظ الأوسيا أو الأيديا أو الموضعة. غير أنه مع هيدجر سيتكلم الوجود لغة أخرى، لغة مغايرة، إنها لغة الفيزيس أو الأليثيا كتفتح تلقائي أو كفنن وتفنن.
والجدير بالملاحظة هو أنني أفتح الطريق بهذا السؤال على الرغم من أنني لست فنانا، بمعنى لست نحاتا أو رساما أو شاعرا..الخ، ومع ذلك أسمح لنفسي بمحاورة الفن وبالتفكير فيه. لكن قد يعترض صاحبي ويقول، إنه من اللياقة، والعصر عصر اختصاص، أن يتحدث كل من قطاع اختصاصه ومجال اهتماماته. الشعر للشاعر والرسم للرسام والموسيقى للموسيقي وهكذا. ويكون ذلك بدعوى أن الفنون قطاعات متجاورة، تنتمي في مجملها إلى "المشهد الثقافي"، وأن لكل قطاع فرسانه.
غير أنه يمكن أن نسائل صاحب الاعتراض ونقول: أليس اختزال ماهية الفن إلى مجرد مسألة ثقافية، هو حط من قيمته وتدجين له داخل فهم ينهض على نزعة أنتربولوجية، يغدو بموجبها مفهوم الثقافة يحوي باقي هذا الذي نسميه قطاعات ثقافية؟ ثم إن ما يعني تساؤلي عن الفن هو بالأساس تفكير في الحقيقة كانبثاق شعري. وكلمة شعر هنا بالمعنى القوي للكلمة. وإنه للاقتراب من ماهية الفن الأصلية، ماهيته الشعرية التي هي عينها ماهية الحقيقة، يتعين أن نعمل على تحرير الفن من عبودية الثقافة، ومن المنظور الذي يدجنه بجعله ينتمي إلى فضاء ينبغي تقطيعه تقطيعا خرائطيا إلى قطاعات، لكل واحد شروط إنتاجه. لذلك، ولأجل الغرض ذاته، ينبغي اعتبار الفن من زاوية مضادة لهذا الفهم؛ ويكون ذلك التفكير في سؤال الفن بوصفه قضية أساسية، قضية أنطولوجية تهم الإقامة والسكن وعمارة الأرض التي عليها نقطن، وإليها سيكون متوانا الأخير. لنفكر في الفن بوصفه قضية تهم الإنسان وما يكونه السكن في هذا العصر الذي فيه استحال النهار سديما، ولم يعد أمر الموجود يبت فيه باسم المقدس. وبالجملة نقول، لنفكر في الفن باعتباره كيفية لتكشف الحقيقة التي تترك الموجود يوجد.
غير أنه في البداية، وتمهيدا لتملك سؤالنا السابق، لا بد من تقديم. ومدار هذا التقديم هو السؤال التالي: ما الجدوى من الفن في عصر طغيان التفكير التقنو-علمي؟ وبعد ذلك نعود إلى سؤال شروط إمكان العمل الفني في صياغة مغايرة تفيد المنحدر والينبوع، أو ما منحدر الفن وينبوعه؟
أما بالنسبة لسؤال التقديم، فيمكن إبراز مطلوبه من خلال تأمل مجموعة من الأسئلة الجزئية. لذلك فأن السؤال عن جدوى الفن يفيد ما حاجتنا إليه في عصر طغت فيه المعرفة الإجرائية-التقنية كالمعلوماتية وتقنيات التواصل والتدبير؟ عصر أصبح يطلب التكوين في مجال التجارة العالمية وأدوات تقييم الكفاءات باعتبارها موارد بشرية. أو قل إنه عصر لغة الحساب الرياضي. عصر أصبحت فيه قيمة القيم هي الأشياء النافعة بشكل سريع وآني. حتى أشياء الفن، وبحكم جبروت هذا العصر التقني، أصبح يتعامل معها كبضاعة تقوم بسعر في المزاد العلني.
سؤال ما الجدوى من الفن، يعني إذن، ما هو الوضع الاعتباري للفنان في عصر أضحت فيه الإقامة والعمارة مهددتين في بعدهما الروحي؟
إذا ما فكرنا في الفن ونحن نستحضر قوة العصر الذي يحكمنا اليوم بوصفه عصر التقنية، كل شيء فيه، البشر وما ينتج، البشر وعواطفه، تمت عولمته، سنتساءل ما الجدوى من الحصول على دبلوم من مدرسة تسمى مدرسة الفنون الجميلة، والعصر يطلب دبلومات في المحاسبة والتجارة والتواصل وكل ما هو تقني؟ هذه الأسئلة لا تنهض لا على نزعة تشاؤمية أو تفاؤلية، بقدر ما هي أسئلة تدعو إلى التأمل. لكنه تأمل يحرض على أن نكون ضد العصر أو الراهن، ونتساءل هل يمكن أن نعيش حياتنا، أو أن نعمر الأرض ونقيم عليها بالاعتماد على الرياضيات والفيزياء والمعلوميات فقط؟ جوانب كثيرة من حياة الإنسان لا يمكن أن يتم البت فيها أو تدبيرها بشكل حسابي –رياضي- إحصائي. مثلا، هل السكن والإقامة والسكينة يمكن أن نؤسسها بهذا الشكل؟ هل الحب أو العشق يمكن أن يتكلما لغة الإحصاء والحساب كما تتكلم لغة منع الحمل؟ هل الشوق والانجذاب إلى ما هو جميل وشعري ممكن بلغة التفكير التقني؟ وبالجملة نقول: هل الإقامة في المدينة ممكنة بدون فن؟
تأملوا معي العمارات الجديدة، العمارات المعاصرة وخاصة الزجاجية منها، كيف تبدو لكم؟ إنه ليصاب الإنسان بالحيرة، هل هي مكاتب إدارية أم أنها عمارات للسكن؟ ولكن كيف يستقيم السكن في عمارة من تصميم تقني، روعيت فيه مطالب الهندسة المدينة والحساب فقط. نعم، هذه الشروط ضرورية لأية منشأة، ولكن متى تكون منشأة ما بيتا للسكن وللإقامة بالفعل؟ بدون شك إنه إذا لم يتم استدعاء الفنان ليضع بصماته على العمارة، سوف لا تنهض أمامنا سوى كمنشأة قابلة لأن توظف لأشياء كثيرة إلا للسكن بالمعنى الأصيل للكلمة. إذ السكن يحقق السكينة والدفئ والصفاء.
إذا ما تأملنا مغزى هذه الأسئلة ودلالتها الأنطولوجية، سنخلص إلى الفكرة التي تفيد أن الفنان محكوم عليه أن يكون ضد العصر والراهن. ولكن ما معنى أن تكون ضد العصر؟ معناه أن تكون ضد أساسه الميتافيزيقي الذي انتهى بنا إلى عصر تقني. ومن موقعك كفنان، أن تكون ضد العصر يعني أن تفكر في الفن من حيث منحدره أو ينبوعه الأصيل. ويبدأ طريق التفكير من أجل ذلك بالعمل على تحرير الفن من فلسفة الفن أو علم الجمال، وخاصة ذلك الذي استمد ماهيته واسمه من داخل تجربة الميتافيزيقا؛ وبالخصوص الميتافيزيقا التي تأسست على أرض الديكارتية وما فتئت تتكلم لغة الأفلاطونية. تحرير الفن من عبودية هذه الميتافيزيقا، لأنه عند لحظة نهايتها تم تدشين عصر التقنية، العصر الذي لا قيمة فيه للشيء إلا باعتباره مادة أولية قابلة للتفتيش والتحويل والتشكيل، أو في مدى استعماله أو استهلاكه. أو بعبارة أخرى يتعين تحرير الفن من التفكير التمثلي.
لكن هل "أشياء" الفن هي من أجل الاستعمال أو الاستهلاك؟ وإلى أي حد تقيم بهذين المعيارين؟ لنفكر إذن في إشكالية الشيئية من خارج التصور الميتافيزيقي للشيء أو من خارج التفكير التمثلي عموما. بل أكثر من ذلك، إلى أي حد أن ما يؤسس العمل الفني هو ذاتية الفنان؟ وهو سؤال يقف ضد ميتافيزيقا الذاتية.
مجاوزة هذه الميتافيزيقا ضرورية، إذا ما أردنا أن نقترب من ماهية الفن وماهية الشيء، خاصة وأنها تفسر منحدر الفن وأصله برده إلى الذات "كأنا" واعية بقدراتها وبكفاياتها وملكاتها السيكولوجية واللغوية. وهو ما يعني أنها تعتبر هذه الأمور هي مرجع تجربة الفن. هذه الفلسفة-الميتافيزيقا، اختزلت الفن، فضلا عن ذلك، إلى مجرد مبحث من مباحثها، مبحث خصته باسم "علم الجمال"، فتم تدجينه ليسمى أيضا استتيقا. وهو التدجين عينه الذي لحق الشعر لما تم تحديد فضائه بمفهوم القصيدة.
وللتمثيل على هذه الفلسفة أذكر كانط وهيغل: هذا الفيلسوفان كتبا كثيرا وبشكل متميز عن فلسفة الفن أو عن علم الجمال، لكن من المنظور الذي يقارن بين الإنسان والحيوان والطبيعة، أي من منظور أنثروبولوجي-فلسفي. ويعتقد هذان الفيلسوفان، في أن منحدر الفن هي قدرات الإنسان العقلية والحسية أو الروحية عموما. والدليل على ذلك، في نظرهما، هو أن الحيوان ليست له تلك القدرات، ومن تم، فمسألة الفن غير مطروحة بالنسبة إليه. أما الطبيعة فكلها مناظر جميلة، ومع ذلك فهي ليست فنا، على اعتبار أن الفن عمل إنساني بامتياز. وعليه، لا الطبيعة ولا الحيوان مبدعان، لأنهما يفتقران إلى تلك الاستعدادات التي تمكن من الاختراع وتحويل الطبيعة بشكل واع كما هو موجود لدى الإنسان. خلاصة القول مع هذين الفيلسوفين، منحدر الفن هو الذات وقدراتها العاقلة الواعية.
يقودنا هذا التأويل إلى القول، إن مغزى السؤال: ما معنى أن تكون فنانا في هذا العصر بوصفه عصر التقنية؟ هو إذن أن تقف ضد الراهن والعصر، وذلك بمجاوزة الأساس الميتافيزيقي لعلم الجمال، وبالتفكير في موقع آخر غير الذات وقدراتها أو ما راكمته من تقنيات وخبرات في مجال الإبداع، بوصفه منحدرا للفن. أو نقول: إن الأمر يتطلب أن نفكر في الفن ومنحدره من خارج افتراضات فلسفة الجمال. من هنا ننتقل إلى سؤالنا الأساس لنتساءل: إذا لم يكن منحدر الفن وأصله هو ذات الفنان وخبراته والتقنيات التي اكتسبها في المدرسة باعتبارها سببا كافيا، فما هي شروط إمكان الفن؟ أو ما هو ينبوع العمل الفني؟
للاقتراب من سؤالنا هذا ينبغي أن نعتبر الفن، ليس إبداعا لإرادة الفنان، بقدر ما هو أكثر من ذلك، كيفية من كيفيات انكشاف الحقيقة. وقد قلنا فيما قبل، ما من حقيقة سوى حقيقة الوجود. كيف ذلك؟
لنقف أولا على لفظ الفن، كيف نقترب مما يسميه أو يعينه هذا اللفظ؟ ولنتساءل بعد ذلك عن المنحدر والأصل، ومن تم نتحدث عن العمل الفني باعتباره انكشافا للحقيقة.
إذا عدنا إلى اللغة العربية، وبالضبط إلى لسان العرب، سنجد كلمة فن مأخوذة من الفنن. و"الفنن واحد الفنون" بمعنى ماهيتها الفنية. ومنه، الرجل يفنن ويتفنن معناه يشتق في فن بعد فن، بمعنى يختلق العجيب والغريب أي يأتي بالعجائب. والغرائب والعجائب تعني أن الرجل يبدع ومنها البدعة أي تأتي معه أشياء غير مألوفة. نشتق من ذلك أن الفنان يتفتق على يده ما هو عجيب وغريب أو يتحقق معه الفنن. لكن ما الفنن؟
لقد أشرنا إلى أن الفنن هو ماهية باقي الفنون، لأنه واحدها كما ورد في لسان العرب. لذلك فالفنن يشبه ما نسميه ونعينه لما نتكلم عن تفتق الغصن برعما وما تشعب عنه بشكل تلقائي. من هنا كان اسم البراعم. وفعل الفنن الذي يبدو على البراعم، وعلى ما يلاحظ على الطبيعة هو شبيه بما سماه الإغريق بلفظ الفزيس، وهو اسم لفعل التفتق والانكشاف والتفتح التلقائي مثل ما نلاحظه في تفتق الورد وتفتحه أو فنن الغصن. لذلك نستخلص أن كلمة فن تنهل من الطبيعة والنبات والأرض. وبما أنها تحيل على ما يوحد بين الفنون، فإن كلمة الفن تعني أيضا الخلق أو الإبداع. لكن لنأخذ الكلمتين الأخيرتين في معناهما القوي، لنبعدهما عن الدلالة الرومانسية وعن كل تأويل يغرقهما في ميتافيزيقا الذاتية.
نعرف أن لفظ الفن، مع فلسفة الفن، هو اسم لجملة القواعد التي يحصل بتطبيقها تحقيق غاية. وبهذا المعنى فالفن تقنية غايتها تحقيق الجمال أو إنتاجه. هذا ما يجعل من الفن صنعة أو صناعة. وبهذا نلاحظ أن لفظ الفن يحيل على فعلي الصنع والإنتاج. ونشتق من ذلك أن الفن صنعة وتقنية عملية غايتها ترك الجميل يتفتق وينبجس أو ينكشف في شكل عمل فني. والتفتق والانبجاس هو الفنن. وعلى هذا الأساس اشتق اسم المدرسة التي تكتسب فيها هذه الصناعة باعتبارها مدرسة لصنف من الفنون، الفنون الجميلة. لكن لماذا لم نكتف بتسميتها "مدرسة الفنون" من دون أن نشير إلى أنها مدرسة للفنون الجميلة؟ هذا اللفظ الفاصل، ما دلالته؟
يعني ذلك أن هناك أنواعا كثيرة من الفنون ومن بينها الجميلة. كما أنه يعني أيضا أن الفن بالمعنى الضيق للكلمة ليس وحده بالفن، بل الفنون كثيرة، منها الفن السابع. لذلك صنف القدماء النحو والبلاغة والشعر والهندسة والموسيقى ضمن الفنون.
غير أن مدرسة الفنون الجميلة لا يتعلم فيها مجموع هذه الفنون بقدر ما يتعلم فيها بعض منها، أي تلك التي تصنف بوصفها جميلة. لذلك نتساءل: بماذا تتميز جملة الفنون الجميلة؟ وما الذي يجعل من الأشياء التي تنتجها أشياء جميلة؟ من أين تستمد جماليتها؟ أو نقول: مجموع الأعمال التي تشهد على عمل الفنان، ما منحدرها؟
بالنسبة لفلسفة الجمال، مصدر الفن هو الفنان ذاته. والذات هنا إحالة على العقل والنفس عموما والصنعة المكتسبة… وبهذا تحسب فلسفة الجمال أن أصل الفن هو الحس والذوق الفنيان. نعم من الضروري تهذيب الحس والذوق الجماليين وتربيتهما لدى طالب الفن، لكن هل هذه التربية التقنية شرط كاف؟ هذا حتى وإنأضفنا اكتساب المهارة ومعرفة تاريخ الفن ومختلف مدارسه، هل هذه التربية والتكوين كافيان لينحت الفنان اسمه كفنان بالفعل؟ نعم، لا أحد يناقش في ضرورة هذا الجانب بالنسبة لحياة طالب الفن، لكن هل هو شرط كاف ليصبح طالب الفن فنانا؟
مجموع هذه الأسئلة يحتويه سؤال جامع واحد، يتعلق بشروط إمكان تفتق الحقيقة مع العمل الفني، وهو السؤال الذي فتحنا به طريق التأمل هذه منذ البداية.
أما لكي نقترب أكثر من مغزى مطلوب هذا السؤال يتعين أن نعود إلى كلمة فن كما أشرنا إليها على مستوى لغتها، ذلك لأن اللغة لا زالت تحفظ ماهية الفن الأصلية قبل أن يتم تدجينها عندما تأسس الفن علما.
لقد أشرنا قبل قليل إلى أن كلمة فن مأخوذة من لفظ الفنن. والفنن هو اسم لما نشاهده على الغصن وهو يتفتق أو على الورد وهو يتفتح. والتفتق أو الانفتاح انكشاف. الفن شبيه إذن بما نشاهده على الطبيعة وعلى الأرض كفعل تلقائي للتفتق بل إنه يستمد دلالته الأصلية من هناك. وبهذا يغدو الفنان كالطبيعة، يتفنن بمعنى يترك الغرابة وما هو عجيب ينكشف ويتشكل عملا فنيا. الفن بهذا المعنى هو عينه الحقيقة كانكشاف وتفتق. وهو ما احتفظت به اللغة معتبرة إياه "واحد الفنون". ومنحدر هذا "الواحد" ليس هو الذات.
نبني على ذلك، أن المنحدر والأصل حقيقة ملتبسة، لها من القدرة ما يمكنها من اختراق الفنان وإصابته من أجل أن يرتعش جسده ويصاب بالاندهاش، ليتفتق العمل الفني ويتشكل بفضل هذه القوة الخلاقة، الفنان نفسه يجهل أصلها أو منحدرها. من هنا تكون علاقة الفنان بالفنن علاقة لغز تستعصي عن التفسير وتتمنع عن التعريف القطعي. وهذا هو سر تيه الفنان وضلاله وإحساسه بتداخل ملتبس بين الضرورة والحرية.
الفنان كالطبيعة، إنهما يفننان، لكن يصعب عليه تفسير سر القوة الخلاقة التي تخترقه وتفجره لكي تتفتق على يديه ومن خلالها ارتعاشة جسده. سر علاقة الفنان بالفن إذن هي التي جعلتنا نطرح السؤال، ما منحدر الفن؟ هل الشيطان؟ هل هو مكر حالة نفسية ملتبسة؟ هل هو القلق؟ هل هو المرح؟ فما سر الإبداع إذن؟ وبالجملة، كيف يتعين أن نفهم لغز الإبداعية والفنية؟
اللغة تشير إلى أن انحدار لفظ الفن من الفنن، بمعنى من التفتق الذي هو خاصية الأرض والطبيعة والحقيقة. هذا مع أخذ لفظ الطبيعة هنا في معناه الأصلي الذي يرتبط باسم الفيزيس. ذلك أن كلمة الفيزيس في اللغة الإغريقية تعني التفتح والتفنن والتشكل الشبيه بتفتح الورد، مع الاحتفاظ بفائض من قوة التفتح المستمرة. من هنا فخاصيات الفيزيس التي هي التفتح والتفنن والتشكل، هي ذاتها خاصية الفن، كما هي عينها خاصية الحقيقة. إذ هناك تكشف وانحجاب في الآن نفسه. وعليه، فماهية الفنان هي امتداد لماهية الفيزيس وانغراس في تربتها التي تقوم على تآني الكشف والتجلي والانحجاب. ومن تم فماهية الفن هي عينها ماهية الحقيقة.
هذا ما يقودنا إلى القول بأن هذه القدرة التلقائية الدائمة التفتح، من دون أن تأتي كلية، هذه القوة الخلاقة الغائرة في عمق تاريخ الشعوب، هي ما يدعو الفنان وينذره لكي يسيخ السمع. الاستماع إلى ما تقوم عليه من لغز، والانتباه إليها بوصفها منحدر العمل الفني وأصله. إنها قوة كامنة في الوجود أي في كوننا، إنها قوة كاشفة.
غير أن الوجود أو الكون ليس "شيئا" متعاليا بقدر ما إن حقيقته محايثة للموجود. خاصية هذه القوة الكاشفة هي التي جعلت الإغريق يقربونها من خلال اسم الفيزيس أو الإليثيا. وما يقربه لنا هذان الإسمان من خاصية، هي عينها خاصية الفن كذلك. غير أن ما تكشفه هذه القوة الخلاقة لا يمكن أن يتحقق، إلا في علاقة بالإنسان، واقعا أو عملا فنيا، إما قصيدة أو منحوتة أو لوحة أو رواية أو إيقاعا أو رقصا أو معمارا… صدى قوة الخلق اللامرئية هو الذي يعمل على جذب الإنسان لكي يعاني نداءها ويكابد ذلك. يومئ لنا هذا الصدى من خلال عدة علامات دالة ترتمي في أحضان الذاكرة العميقة للتاريخ بوصفه مصيرا. لكن التاريخ هنا ليس بالمعنى الذي يتحدث عنه عالم التاريخ.
نستخلص مما تقدم أن مصدر العمل الفني منهل لا مرئي، على الرغم من أنه قوة كاشفة. وحقيقة هذا المنهل هي حقيقة الوجود ذاتها، الحقيقة المحايثة للموجود الذي يمثل محيطنا المرئي وأشياءه. وشيئية هذه العلامات الملغزة قد تكون صوتية كما يتجلى ذلك في الغناء والموسيقى أو حركية كما يتجسد في الرقص أو في المنقولات الفنية كالتحف الأثرية، التي منها لفظ الأثر أو يجسدها المعمار وهندسته. كل هذا العالم السيميائي يدل ويحكي الحكاية التي تؤثر على الذاكرة والجسد ورؤيتهما كما تمكنهما من الحياة. ومن تم فهو لغة تتكلم حكاية عمق الزمن والتاريخ وتترك صداه يأتي صوبنا. هذه اللغة هي مثوى ما يبقى ويعشق الخلود. هذه اللغة هي ما يتعين على الفنان أن ينصت إلى ندائها ويعتبرها المنهل أو الموقع الذي عنه يستلهم قدرته على الفنن والتفنن. ومن هنا لا ينبغي أن نختزل منحدر العمل الفني برده إلى سيكولوجية الفنان أو ما يعتبر تجربة له وسيرة أو طفولة ومشاكلها. كما لا يتعين رده إلى حقيقة متعالية أو شروط الإنتاج الاقتصادي. الفن تاريخ بالقوة. والتاريخ هنا ليس بالمعنى الذي نفهمه لما نتحدث عن الأحداث والوقائع، أو عن تاريخ الأفكار والمذاهب. التاريخ هنا مصير أنطولوجي جارف. محكوم بجدلية التحجب واللاتحجب، الجدلية التي تميز حقيقة الوجود ذاتها. فمن لغة هذه الذاكرة الغائرة في أعماق التاريخ إذن يمتح الإنسان فننه. ومن تم يؤسس الفن التاريخ مواقع. ولكي نقترب من لغة هذه الذاكرة وهذا التاريخ الذي ينهل منه الفن، نسوق بعض الأمثلة لنتأملها.
كيف يمكن أن نفسر، أو أن نفهم عودة بعض الفنانين عندنا إلى بعض "الأشياء" أو الرموز والعلاقات، أو اجتذابهم لبعض الأمكنة، كالعودة إلى الخط العربي أو إلى ما يسمى الأسطورة، أو إلى العمارة "التقليدية" والوشم، أو الاشتغال على الرمل والحلي ورموز عديدة لا تحصى كثرة؟
كيف يتعين أن نفهم هذه العودة والاجتذاب إن لم تكن عودة من أجل الوطن بوصفه مسقط الرأس، وهي العودة التي تسمى، تجاوزا، عودة تأصيل الذات.
قد يسافر المرء إلى مناطق معينة قصد إغناء مخيلته وبصره، وقد يصور ما شاهده وأثار انتباهه في لحظة ما من تجواله وترحاله. أو قد يقتني بعض الأشياء الطبيعية كبعض الأحجار التي اقتلعت من باطن الأرض أو أخذت من قمة الجبل أو بعض الأشياء المصنوعة ليحملها معه إلى بيته أو إلى محترفه، لكي يتأملها وكأنها كائنات تضمر حكمة وتخفيها بشكل مرموز وملغز. لكن وعلى الرغم من ذلك يحس الإنسان بانجذاب صوبها وانشداد إليها، فتبدو العلاقة بينه وهذه الأشياء جد ملغزة، يعتني بها ويحس أن بينه وبينها علاقة ألفة؛ علاقة حميمية تدفعه إلى احتضانها وصونها والمحافظة عليها ورعايتها.
من هنا نتساءل، ما السر في انجذاب الإنسان صوب هذه الأشياء واستجابته لندائها ولفتنته بها؟ هل لا يمكن للحياة أن تستقيم دونما حاجة لهذه الأشياء؟
نعم لهذه الأشياء دلالة ما، كما أنها تعلن عن لغزها أو عن سر معين ما فتئ يتوارى في الوقت الذي ينادي من يحسن الإنصات إلى ندائه. ما نسميه دلالة ما أو سرا ما أو حكمة ما، قد أثارت انتباه المرء، وفتنته وجعلته يتعالق معها؛ هو ما يسمح لنا بالقول بأن هناك صدى لا مرئيا يتفجر ليأتي نحونا ويتدفق من خلال هذه الأشياء. وهذا يعني أن هذه الأشياء تستجمع قوة أساسية بها يأتي الوجود صوبنا وينكشف. صدى هذه القوة ينحدر عن حقيقة خالدة محايثة لهذه الأشياء التي تحيل على السماء والأرض، وعلى المقدس وبصمات الفنانين. هذه الحقيقة تمتنع عن الدراسة الموضوعية، حقيقة تريد أن تتكلم أو أن تعلن عن نفسها. لكن بشكل شعري ينهض على نوع من الإنصات. هذه الحقيقة، بما أنها كنز خالد يتعذر بلوغها وذلك لأنها تأتي من دون أن تأتي كلية. كل ما هنالك هو الصدى الآتي عن منهل منفلت بين الأبعاد الأربعة، السماء والأرض، الفانون والمقدس؛ الأبعاد التي يأتي من خلالها ومعها اللامرئي محايثا للمرئي التي يسميه لفظ الشيء ويستجمعه. غير أن هذا المجيء يأتي متنكرا ليخترق الجسد ويصيبه.
من أجل صدى هذا النداء إذن، يكون على الفنان أن ينصت إلى هذا الذي يأتيه صوتا خفيتا من ثنايا الأشياء التي تثيره وتشده لينحني لها. وفي الإنصات والانحناء يحصل الاختراق الذي يمكن اللامرئي من التكشف والتشكل أعمالا فنية. وبهذا فالإنصات إلى نداء هذه الأشياء، هو نوع من فك المرموز لتركه يترجم إلى فن وإبداع، وعرضه على الناس لكي يصلهم، هو أيضا، صدى هذه الحقيقة المتدفقة عن منهل أو ينبوع موغل في الذاكرة أو التاريخ، ذلك أن هذا المنهل يتخذ هذه الأشياء لغة تتراءى كإمبراطورية سيميائية (وشم، نقوش، أساطير، ألوان، أحجار، تراب، أمثال، نجوم، ماء، خطوط، منشآت، رقصة) هذه الأشياء تدل وتعني وتجذب الإنسان إليها إلى درجة أننا نؤثث بها محيطنا أو بيوتنا، ومنها ما نحمله على جلدة أجسادنا كالوشم والحلي والألوان أو نحكيه أو نقوله، من دون أن نعرف مؤلفها. إنها أشياء تمنح لحياتنا وفضائنا معنى ودفئا وقيمة. أشياء لها ذاكرة وتاريخ. أشياء تدل بشكل ميثولوجي وتؤثر على وجداننا. لكن لا نعرف سرها ولغز قوتها في جعلنا ننجذب إليها ونفتتن بجماليتها. سر هذه الأشياء هو ذاته سر الأرض والسماء، وسر ما هو ساحر وأسطوري.
وكونها تعني وتدل وتجذب فهذه الأشياء لغة. غير أنها لا تعين مرجعا أو تحيل إليه، بقدر ما هي تومئ وتشير إلى المنحدر التاريخي العميق الذي تقرر معه مصير الأرض التي تعتبر مسقط الرأس أو الوطن، وتقرر معه انتماءنا التاريخي. أو أقل أنه ما به نحن تاريخيين. هذه اللغة نجدها موجودة لدى جميع الشعوب، إذ لكل شعب أثره ووشمه يشهد من خلاله على انتمائه إلى الوجود في كليته. ومن تم فهذه اللغة هي ما يوحد بين الفنانين باعتبارها التربة التي تنعشهم وتمنحهم معنى لوجودهم التاريخي. ونحن نعرف أن الكائن الوحيد الذي يعيش موته ويكابد الفناء هو الإنسان. وقد أدرك الإنسان حقيقته هذه، منذ أن اكتشف ماهيته في اللغة والحوار. منذئذ أخذ الوجود يتحقق في الزمان بشكل تاريخي5. ويومئذ أدرك الإنسان أنه باللغة يتحقق الكلام والتسمية والرؤية. لذلك فعلى الرغم من وجود "اللسان" أو "العين" لدى الحيوان فهو لا يتكلم، ولا تحصل عنده الرؤية الصائبة، بمعنى أنه لا ينظر، ومن تم ليس له عالم. الأفعى لسانها مشقوق إلى لسانين غير أنها لا تتكلم. بل حتى أذن الحيوان غير سامعة. يبقى الإنسان وحده المتكلم والسامع بامتياز6. وعليه، فمن لا يستمع بمعنى لا ينصت، لا لسان له. ومن تم فهو لا يتكلم. غير أن الإنصات لا يتحقق إلا مع الموت الرمزي، وإلا كان الكلام كالصهيل.
هكذا نلاحظ أن هناك نوعا من التضحية إذن "بالأنا" المتكلم، وهذه التضحية هي تجربة الامحاء. لذلك نقول مع هيدغر أن المتكلم بامتياز هو الكائن الفاني7. ذلك أن الإنسان وحده الذي يعي أنه موجود من أجل الموت بجميع المعاني، وإلا كيف نفسر خشوعه للمقدس وللإله إن لم يكن نوعا من الامحاء وإيداع النفس. من هنا لا يتحقق الكلام إلا بالإنصات إلى لغة هذه التربة المعطاء أو المنهل والمنحدر، أين ينغرس جذر الفن والإبداعية.
ها نحن نتحدث، إلى حدود الآن بتأويل أنطولوجي يمنح السلطة، كل السلطة للغة ولكلامها باعتبارها مقطنا لانوجاد الإنسان وتحقق ماهيته الشعرية؛ ليغدو الإنسان بموجب ذلك، المناسبة التي يتحقق معها كلام اللغة، وحكاياتها التي هي حكاية الوجود وأسطورته. هذه اللغة هي التربة البكر منبع كل متخيل وكل فن شعري8. نعم سيكولوجية الفنان وطفولته والتقنية التي اكستبها، مستويات ضرورية، غير أنها ليست بالشرط الكافي.
هذه اللغة إذن هي المنحدر ومصدر الفن في بعده الشعري الأصيل، أو قل هي لغة أصيلة لشعب تاريخي. وكل عودة إليها ليست من أجل تكرارها بقدر ما هي من أجل جعل عالمها يأتي صوبنا ليحكي حكاية الوجود، الحكاية التي هي في العمق حكاية الإنسان وميثولوجيته وهو يعيش تاريخه. ونبني على ذلك أنه بالفن وأعماله يتم تشييد عالم أو يتم انكشافه في ضوء الوجود، فيحصل التعالق بين تلك التربة والعالم9. وفي ظل هذا التعالق المتنافر بين التربة والعالم كما هو منبثق عملا فنيا تنكشف الحقيقة بشكل شعري.
ومن أجل هذا يتعين مقاومة المقاربة التقنية "للشيء"، تلك التي تنهض على نزعة تفتيشية-حسابية، وتنظر إلى الأشياء بوصفها مجرد "مادة أولية" قابلة للتشكل الفني. وهي المقاربة عينها التي تحكم التعامل التقني الفج مع العمارة والسكن. فجاءت العمارة التقنية خرساء، مسطحة لا جمالية فيها. وهو ما يسمح بالقول، إن كل ما هو خال من الجمالية هو منشأة أو بناء وقد تم توظيفه للإقامة بحكم أزمة السكن. كثيرة هي البيوت باردة وكأنها لا تقيم لا على الأرض ولا في علاقة بالسماء. والناس يشتكون من البناء الجديد، وتشكيهم عبارة عن طلب أصيل بالحق في التشميس والتهوية المؤمنتين للصحة والسكن ودفئه.
هذا ما يجعل البناء الحديث يتيم إذ لا يذكر بما هو شعري أصيل، ومن تم فهو لا يبعث على السكينة. لذلك تكون محاولة رسم معالم العمارة التاريخية بمثابة تعبير عن الشوق الذي لدينا إلى عالمها الشعري الأصيل. وإلا ما دلالة الانشغال بإعادة ترميم ما انهدم، أو ما هو في الطريق إلى ذلك؟ ما الجدوى من هذا المجهود الذي يعيد للفضاء بهاءه إن لم يكن هو هذا الشوق في أعمق بيانه.
هذا التأويل هو ما جعلنا ننقاد إلى القول فيما تقدم إن منحدر الفن، ليس هو ذاتية الفنان أو سيكولوجيته بقدر ما هو الإنصات للغة العالم الذي يظل متواريا ينادينا بالإماءة من خلال الأثر الذي ينكشف في العلامات التي أشرنا إلى بعضها باعتبارها ذاكرة مقدسة، ذاكرة فياضة، ليس للعقل قوة على مجاراتها –ونحن نعرف أن للعقل لغة خاصة- وذلك لأن النبع وفيضه لا يمكن حصره. وحكاية هذه الذاكرة إذن، هو ما ينبغي العودة إليه من أجل استجماع رموزه، مثلما يقطف الورد، من أجل الإنصات إلى قولها، ومن أجل جعل الحكاية تترجم إلى عمل فني. هذا مع العلم أن لحكاية تلك الإمبراطورية السيميائية قولها التاريخي، نحن نجهل دقائق بداياته ومنبعه. ولهذا فما سيبدعه الإنسان كعمل فني سيتحول بدوره إلى علامة شاهدة، ليس على الاسم الذي وقعها، ولكن على انتماء شعب إلى التاريخ. هذا ما يجعل العمل الفني شبيها بالمعالم على الطريق التي كان يضعها هرمس بالنسبة للتائهين، إذ في مروره ورحلته يترك الأثر. لذلك نقول مع ميشال هار، إن الفن لا يأتي إلى التاريخ الواقعي في عصر من العصور إلى بعد أن منحه التاريخ الأصيل ميلاده10.
لنمثل لذلك بالحديث عن الجرة التي هي عمل خزفي. هذا الكائن –الجرة قد يصنعها الخزفي- الحرفي من أجل الاستعمال، ومن تم فلهذا الشيء قيمة استعمالية بالدرجة الأولى. غير أن الشيء نفسه له نفس التسمية وقد اخترعته يد الفنان. فما الفرق والحالة هاته بين الجرة والجرة؟ إذ الجرة كاسم ينطبق على ما صنعه الحرفي وعلى ما اخترعه الفنان، لكن ما الفرق بين بصمات الحرفي وارتعاشة أنامل الفنان؟
نعم هناك مهارة وصنعة لدى الحرفي، وهناك مهارة وصنعة فيما أنتجه الفنان. نعم كلاهما اشتغل على نفس المادة غير أن السؤال هو بصدد مصدر التشكل الذي أصبح باديا على الجرة في الحالتين معا. قد نلاحظ دقة القياسات، قياس السعة والفراغ هو نفسه، لكن نحن أمام حرفي وفنان، فأين يكمن الفرق؟ لكل واحد منهما نظرته للشيئية.
بالنسبة للحرفي إن ما يحدد قيمة الشيء هو المنفعة والوظيفة والاستعمال. أما الفنان فيكون هاجسه هو ترك حقيقة "المادة" تتشكل وتنكشف، وكأنه بفعل التشكيل يمكن ما هو متواري ينبجس ويتفنن. هذه المادة هي الأرض التي يكون عليها العمل الفني ويبقى محايثا لعالمها. من هنا نقول، إن العمل الفني يؤسس للأرض وللعالم ولما يبقى11. لكن الأرض هنا بأي معنى؟
الأرض التي نتحدث عنها ليست هي تلك التي تتراءى للدارس العالم بلغة الحساب والقياس. ذلك أن اللغة الرقمية، لغة الحد والحصر، أو أقل لغة العقل، لا يعنيها سوى شأن ثقل هذه الأرض وتكميم وزنها، وتفتيش مكوناتها وخصائصها. عيب هذه اللغة يكمن في كونها تضعنا أمام كم رقمي حسابي تنسحب معه ماهية الأرض. أو نقول أن الأرض التي تتحقق ماهيتها مع انتصاب العمل الفني وتحققه، ليست تلك التي تتحقق مع لغة التحليل والقياس والتجزيئ والتي لا تضعنا سوى أمام أرقام ليس إلا12.
الأرض وأنشودتها يتنكران لكل محاولة دراسية تريد إظهار الحقيقة بلغة التحليل والقياس، باعتبارها موضوعا يتعين موضعته. وعليه فماهية الأرض تظهر كالضياء المتفتح، ولا يمكنها أن تظهر كذلك إلا إذا ما احتفظت بماهيتها الفياضة، التي يتعين أن تحفظ وتصان ضد كل محاولة تستهدفها كميائية التحليل التي لا تستقيم إلا على التفتيت.
نلاحظ أن البناء والنحات كلاهما يشتغل على الحجر والصخر، لكن لكل واحد منهما كيفيته الخاصة في ذلك، ولكل واحد منهما حساسيته الفريدة في التعامل مع أشيائه. والشاعر يشتغل في علاقة ما باللغة، وكذلك الشأن بالنسبة لجميع الناس، إذ هم يتكلمون، مثلهم في ذلك مثل الصحافيين والكتاب؛ كل يعيش تجربة متميزة مع اللغة. غير أن مع تجربة الشاعر وحدها تحافظ الكلمة على كلامها، بمعنى أنها تأتي كلاما وليس أداة للتعبير فقط13.
وهكذا، هناك فرق إذن بين تكشف "المادة" مع العمل الفني، وتكشفها مع باقي الأعمال الإنتاجية التي تقوم على المادة نفسها. العمل الفني وحده، يعمل على جعل الأرض تنكشف بوصفها دفقا ينتصب حقيقة فيما هي تنتصب عملا فنيا وتتحقق. وعليه، ففيما هي تنكشف في انتصاب العمل الفني ومعه، تتوارى الأرض لكي لا تأتي سوى كالضياء. من هنا فماهية الأرض بهذا المعنى هي عينها ماهية الحقيقة.
على أساس هذا التأويل يتعين أن نفهم السؤال: مع من سنقترب من ماهية الجرة في عمقها الأصيل؟
إن مصدر أصالة الجرة وشعريتها لا يمكنان في الإبعاد التقنية للصنعة والمهارة. نعم هذه الأبعاد ضرورية من المنظور الذي يرى الجرة بوصفها قيمة للاستعمال. غير أن ما يجعل من الجرة شيئا في أصالته، يكمن في العالم الذي يأتي صوبنا، أي فيما تمكنه من أن يترجم وينقال ويوجد. وبهذا فالترجمة ليست حكرا على اللغة اللسانية، الترجمة نوع من النظم، لكن ما العالم الذي ستتم ترجمته؟
عالم الجرة هو الشرب والعطش وعلاقتهما بمأساة الإنسان: لا يهم إن احتوت الجرة ماءا أو نبيذا. المهم أن تمة مسألة الشرب. لكن على ماذا يحيل الشرب؟ إنه يحيل على حقيقة الارتواء وإشباع العطش. وسر الجرة يكمن في تلك الحقيقة التي ما فتئت تنادي الإنسان إلى الشرب. سر هذه الحقيقة هي ذلك العالم الذي يسمح للفنان، ولنا جميعا، أن نسمي هذا الشيء جرة وليس شيئا آخر. بل إن هذه الحقيقة هي ذلك العالم الذي يمكن الفنان من تسمية أشيائه. هذه الحقيقة وهذا العالم، هما ما تختزله وتلخصه كل الكتابات التي عرفت حول الجرة من أشعار وأساطير وحكايات منذ القدم. وهذا العالم الذي يمثل حقيقة الحياة العميقة وعالمها، إنها حقيقة ما قيل عالما حول الارتواء والشرب، وأصبح يشكل ذاكرة شعب أو تراثا أو أرضا تستحيل استقامة الإقامة بدونه.
الماء داخل الجرة يغني لنا ينابيعه التي انحدر إلينا منها. ومن منا يعرف منبع تفتق الماء الذي يشربه يوميا؟ الأواني التي تمكننا من الشرب هي التي تحكي الحكاية. الأودية والجداول التي سلكها الماء، بعد عرس السماء والأرض، من يعرفها؟ الجرة والكؤوس تحكي العرس لحظة سقوط المطر. وكم هي الحكايات حول الماء والشرب والارتواء؟ لكل شعب حكاياته، حكايات الأولين حول الماء، حكاية الأساطير والأديان. وجعلنا من الماء كل شيء حي. الجرة وحضورها بيننا تذكار وذكرى تحكي عن الماء البكر، الماء البدئي الأول. والارتواء والشرب هما من أجل الحياة. لذلك كان "ماء الحياة". هذا هو العالم الذي تحكيه لنا أشياء الفن، بمعنى تتولى ترجمته. هذا في حين أن أشياء الصنعة تحكي حكاية التجارة والسوق والاستعمال ليس إلا.
مع كأس الشاي هناك الشرب، نعم، لكن هناك أشياء أخرى: هناك الحكايات التي ما فتئت تقال حول الشاي وطقوسه بشكل أسطوري، حقوله وتربته، طقسه الذي يوافقه، زراعته وما لذلك من انفتاح على شروق الشمس وغروبها، فضلا عن تقاليد تهييئه. هذا الحكي في مجموعه هو بعض من صوت الشعب يتذكر به انتماءه إلى الموجود. هذا هو العالم التي يجد الفنان نفسه متأهبا ومدعوا من أجل جعله يأتي إلينا أي من أجل تركه ينكشف حقيقة. لنأخذ مثالا آخر من أجل الاقتراب من مطلوب السؤال الذي يتعلق بمنحدر الفن: قد يجد الإنسان نفسه منجذبا ومشدودا إلى هندسة جدارات بعض البنايات في أحد شوارع المدينة، أو إلى بعض المآثر التاريخية. ونطرح السؤال: ما هذا الذي تنادينا إليه هذه الموجودات من خلال جذبنا إليها وإثارة انتباهنا إليها؟ إنها تنادينا من أجل الانتباه والإنصات بعد الترحال. لكن هل نعلن عن انتباهنا برؤيتنا إلى إتقان الصنعة الهندسية المعمارية، أو لدقة المقادير الهندسية واتساقها أم لماذا؟ خاصة أن هذه الأشياء الآن يتيمة، لا نعرف ناظمها بشكل شخصي. وهو ما يجعلها تصنف ضمن التراث العالمي، بمعنى أنها ملكا لكل الذين سيتعاقبون على هذه الأرض وستظل كذلك بشكل أبدي حافظة للغزها. وقوفنا أمامها مندهشين، هو ما يسمح لنا بالقول إن هناك سرا ما يأتي صداه من خلال هذه الأشياء. وكونها تعني وتفتن، فهي لغة تنادينا من أجل تأملها والإنصات إلى العالم الذي لازالت تأتمن عليه وتحفظه وترعاه بشكل غريب على الرغم من أن العصر ليس عصرها. هذا ما يفسر سحرها وقوتها المقدسة. ومن هنا تيهنا في علاقتنا بما يوجد. والتيه هو أشد صور اللاحقيقة في لغة الميتافيزيقا.
هذا الذي يختفي بشكل سري محايث لهذه اللغة، والذي يمنح هذه الأشياء عمقها الفني، متميزة عن باقي الأشياء الأخرى، هو المقصود بمنهل الفن وينبوعه، وهو ما يأتي صوبنا ليحدد انتماءنا إلى الأرض وإلى التاريخ من خلال اللغة التي تعتبر مأواه ومقطنه. هذه الإمبراطورية السيميائية موجودة لدى جميع الشعوب، باعتبارها لغة لها ذاكرة وحكاية موغلة في التاريخ، إلى درجة أننا نحن المعمرون اليوم نجهل أصولها أو بداية تشكيلها لذاكرتنا. صدى علامات هذه الإمبراطورية أو الأثر، ما يفتأ يحضر في حياتنا وعمارتنا للأرض والسكن بشكل ميثولوجي، من خلال الشوق الذي نحس به في علاقة بهذا الأثر. هذه الإمبراطورية السيميائية هي لغة بالمعنى القوي للكلمة، إنها على وجه الدقة هي التي تتكلم. والإنسان، لكي يسكن بوصفه قصيدة، عليه أن يسيخ السمع أو أن يستجيب مسلما أمره للكلام الذي يأتيه خفيتا من اللغة. لذلك وجب تعلم الإنصات إليها باعتبارها معالم على الطريق صوب منبع الفن والفكر وكل ما هو جميل؛ المنبع الذي يتميز بكونه يتكشف من دون أن ينكشف كلية. إنه يحتفظ بالفائض، فائض الدفق، بشكل دائم. إنه التربة أو الأرض التي توحد بين الفنانين. أو قل إنها الحقيقة وهي تنكشف أعمالا فنية، بمعنى أنها تنكشف مع الاستجابة من حيث هي الكيفية التي يكون بها الإنسان لحظة إشراقة الوجود14.
غير أن الإنصات لا يتحقق دوما بالأذن. إنه يتحقق أيضا بإيداع وجودنا من أجل الاستجابة لما ينادينا بشكل خافت أو بشكل سري من خلال هذه اللغة. لذلك نعتبر اللغة حقيقة تتكلم أصلا وتتحقق بشكل شعري. هذا من دون أن نختزل مفهوم الشعر هنا إلى مجرد قصيد أو أشعار. ذلك أن النثر هو أيضا شعر. والإنسان، وهو يستجيب لكلام اللغة، قصيدة، وبما أنه كذلك فكل ما يتفتق على لسانه أو ينبجس بين أنامله عملا أو أثر فنيا، يكون حقيقة شعرية.
هذا ما جعلنا نصادر منذ البداية، بما يفيد أن أصل العمل الفني والإبداع عموما، ليس هو التقنية فقط. التقنية لا تجعل بالضرورة من المتعلم فنانا. نعم قد يصبح الإنسان متقنا للصباغة أو لإعادة إنتاج النماذج واستنساخها، لكنه لكي ينحت لنفسه اسما-فنانا، فالمسألة تتجاوز حدود تعلم التقنية والمهارة واكتسابهما فقط. إنها مسألة السكن والكون بشكل شعري على هذه الأرض. إنها مسألة الوهب الذي تتلقاه ماهية الإنسان.
ما يجعل من الإنسان فنانا، أي ينبثق معه الفنن، لا يصنع في الأكاديمية أو المعهد، كما أن الفن ليس مصدره الروح أو العبقرية كما تذهب فلسفة الذاتية إلى ذلك. عمل الفنان استجابة وإنصات فيما هو يفك مرموز لغة الوجود. من هنا حريته. وهو بهذا يجعل صدى حقيقة هذه اللغة يتفتق إبداعا. هذا ما يفسر كون الفنان يجد نفسه في وضع البين بين15، بين إنصاته لهذه اللغة وندائها، وبين هذا الذي اعتدنا على تسميته جمهورا. من هنا نتساءل، لماذا يشعر المرء بنوع من الالتباس والانجذاب الغامض أمام العمل الفني؟ ولماذا يكون العمل الفني في حاجة لمن ينتبه إليه؟
في حقيقة الأمر نشعر أن هناك شيئا ما يجذبنا من أجل الحضور إلى أمسية شعرية أو موسيقية أو من أجل زيارة معرض للتشكيل.. غير أننا نشعر أن ثمة سرا يمتنع عن الحضور أمامنا، هناك شيء ما يتوارى فيما هو يومئ إلينا من خلال النغمة أو الإيقاع أو اللون ضوءه وظله، شيء ما ينسحب من أمامنا؛ ضوء هارب. وفي الهروب والتواري تكمن قوة جذبه إلينا عبر اللون أو الكلمة أو الإيقاع أو النقش.. هذا الاجتذاب هو ما يفسر بأي معنى يعتبر جسد الإنسان أثرا يشير ويعين هذا الذي يتوارى في حضوره أرضا-حقيقة للعمل الفني.
نبني على ذلك أنه بالعمل الفني، يتفتق ما يومئ فيما هو يتنكر كالسر، بمعنى أنه يخرج من اللامرئي إلى المرئي، من اللاتشكل إلى التشكل حقيقة مشعة، مع الاحتفاظ ببقية هاربة على حافة الموجود؛ وتعلن عن نفسها باللمح وكأنها العدم المحيط بنا والمحايث لأشياء الواقع، تلك التي لم تستطيع المعرفة الموضوعية المسك بها من أجل موضعتها. أو لا يعترف العلم اليوم، العلم الدقيق، بهامش الوقوع في الخطأ وبمفهوم الارتياب، فيما هو يتحدث عن الحقيقة مقاسة ومقدرة بلغة إحصائية؟
نحن نشاهد عناصر من هذه اللغة التي يتعين على الإنسان أن ينهل من معينها، يحملها الناس معهم على جسدهم كالحلي أو مكتوبة رشما أو وشما على جسمهم، أو نشاهدها أثاثا لبيوتهم، أو نقشا على جدران البيوت أو حكيا يأتي في كلامهم اليومي، أو قد تكون الحكاية في الساحة العمومية، كما قد تأتي مع الرقص أو المعمار.. كل هذه العناصر هي أثر يشير إلى الموقع الأصلي للفن. من هنا ضرورة التفكير في هذا الموقع وفي ماهيته الشعرية، من خلال خلق حوار بين الفكر والفن من أجل مقاربة مرموز هذه اللغة أو من أجل ترك صداها يأتي صوبنا.
وفي الختم نقول:
إن الإبداع لا يرتبط بإرادتي وقراري أو بإتقان المهارة والصنعة. إنه يرتبط بالأساس بما أكابده فيما أنا أسيخ السمع إلى هذا الذي يؤرقني ويشدني إليه أكثر مما تشدني بعض الأشياء في حياتي. إنه مشكل الحرية كانفتاح.
هذا الإنصات الذي يشغل، يصاب الإنسان معه بالأرق وبالوهن من جراء أثره، إلى درجة أن هذه التجربة تتحول إلى هم وانشغال. ومع ذلك نتابع الطريق، نتابع السير. وفي كثير من اللحظات نتابع الخطو وقد نخطئ، والخطأ من الخطو الذي لا يقيم نفسه على معالم الطريق. نصبر ونحن متأهبون، نتحمل من أجل أن ينفتح المجال لهذا الذي يريد أن يتحقق دفقا وفننا أي حقيقة شعرية، في كلامي وحركات يدي أو جسدي، أو ليتفتق متكشفا عملا فنيا أو إبداعا. إنه ينبوع أنفاسنا الذي نكابد من أجله تجربة الامحاء، بمعنى من أجل أن نقيم بشكل شعري. أو قل إنه اللامرئي الساحر الذي يريد أن يتفنن مرئيا بشكل محايث للموجود، إما في قصيدة أو منحوتة أو لوحة أو وشمة..الخ. هذا التفنن أو الانكشاف الذي يحصل للامرئي ليتجلى في المرئي، هو الجمال أو هو الحقيقة في أبهى صورة شعرية16. وبما أن الأمر كذلك، فهو جمال الأرض17، جمال الموطن أين يتعين على الإنسان أن يقيم بشكل شعري. غير أنه لقبول اعتبار إمكانية ترك الحقيقة تترجم بشكل شعري، يتعين على المرء أن يجتهد من أجل التحرر من لغة النظرية التقليدية للتفكير بوصفه ثيوريا، النظرية التي اختزلت معها ماهية اللغة إلى مجرد أداة للحد والحصر والسيطرة على منطق المعنى18 من أجل تبليغه. وهو الأمر الذي أفقر اللغة وخربها، ومعه احتجبت العلاقة الأصلية للإنسان بالأشياء. ذلك لأن القرب من الأشياء أو البعد عنها، أصبح يقاس بلغة المسافات الكمية-المكانية أو بلغة الموضعة ومنطقها.
من أجل الإقامة بجوار الأشياء، يدعو هيدغر إلى التفكير في تجربة الفكر الرمزي، تلك التجربة التي تحددت فيها العلاقة بالأشياء بشكل شعري، والتي ظلت تحيل دوما على حقيقة الإنسان التي اختزلت إلى "الحيوانية والنطقية" أو إلى "الحيوانية العاقلة" لحظة التأسيس للحقيقة وللعلاقة بالموجود على مقولة الثيوريا؛ المقولة التي تحول معها فعل التفكير إلى مجرد فعل للعقل الجدلي. والجدل هو الترياق الذي أصاب تجربة الفكر بدءا من اللحظة الأفلاطونية لتيحول إلى ميتافيزيقيا. الجدل القائم على الثيوريا هو أساس تجربة التعالي واشتغال التفكير بالمتعاليات أو بالماهيات. فكان التحول الأنطولوجي للحقيقة ليصبح العقل وعالمه المنطقي هو موقعها، ومن تم فهو قاعدة تصور العالم. فبدأت تجربة النسيان تنخر الغرب وتاريخه التفكيري.
وحديث هيدغر عن تجربة الفكر مع اللغة الرمزية هو من أجل أن يقربنا من تجربة الفكر قبل أن ينحدر إلى شكل إدراكي قائم على فعل التفلسف، الشكل التفكيري الذي انحدر معه الإنسان إلى مومياء عاقل. من هنا فبداية "العقلانية" هي بداية ميلاد الانحدار صوب الغروب أو المغيب الذي ما فتئ يهدد الفكر في الصميم، وذلك باختزاله إلى مجرد تقنية تقوم صلاحيتها بآلة، إنها آلة المنطق وآلياتها الشارطة لسلوك العارف والموجه لاجتهاده من أجل القبض على الحقيقة وحصرها، ومن أجل جعل العقل آلة معصومة من آفة الوقوع في الخطأ أو في التناقض. هاجس هذا العقل هو الاتساق.
وبما أن تجربة التفلسف مع اللغة قد دجنت الحقيقة، وجمدتها داخل قوالب آلة المنطق ومقولات العقل، يتعين أن نتعلم كيف نفكر في ماهية اللغة من خلال الاقتراب من تجربة الفكر الرمزية، ومن حقيقة اللغة بوصفها مقطن حقيقة الوجود. وبما أنها كذلك، فاللغة بهذا المعنى، هي المنبع الذي تمتح منه شعوب الأرض بعدها الروحي، لكي تشهد على انتمائها إلى الموجود في كليته. وعليه، فالفكر والفن ليسا سوى امتداد ومتح مما تدخره هذه اللغة حقيقة للوجود. وأبعاد هذه اللغة هو ما يجعل منه قصيدة جميع القصائد الممكنة. وبما أنه كذلك، فهو لما يفكر أو يبدع، فهو لا يعمل سوى على الاستجابة أو الامحاء، بمعنى أنه يكابد مشاق البحث عن اللغة الملائمة لترك صدى حقيقة الوجود تأتي صوبنا. ولذلك فعالم هذه اللغة -متوى الوجود- إمبراطورية سيميائية لا تمثل فيها اللغة الطبيعية، وقد اختزلت إلى لعبة للتراكيب ولحساب سلاسل الحجج، سوى العنصر الفقير من حيث القدرة على الكشف. وشتان بين تجربة حد الكلام وقياس تراكيبه وحصر بنائه من أجل تحقق الموضعة، وبين تجربة ترك الحقيقة تترجم دفقا وفننا. التجربة الأولى تدخل وغزو وإغلاق للفجوات، وحصر للمعنى من أجل ختم طوق السلسلة بدون تناقض. أما التجربة الثانية فانصات وامتثال واستجابة وامحاء.
هذه العلاقة التي للإنسان بحقيقة الوجود وبصداها، هو ما يجعل الإنسان يقيم في حقيقته كقصيدة، كما تجعله يحقق إنسانيته ليقيم بشكل أصيل بجوار الأشياء. من أجل هذه العلاقة احتمى هيدغر بما ذهب إليه هلدرلين في الشذرة الشهيرة" إنما يحيى الإنسان على هذه الأرض شعريا" وبهذه التجربة الشعرية في الحياة يصبح الإنسان، مفكرا كان أو فنانا، راعيا للحقيقة في دلالتها الشعرية وحاميا لها.


ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم