أبعاد النمذجة:
1- البعد التركيبي - Syntaxe
|
المعاني: البنية- النسق-
الترييض- الأكسمة- الترميز- الصورنة- التماسك- التأويل-التحقق
|
ميّز ميشال أرمات
في لفظ النموذج خمسة معاني مختلفة: منها ما يدل على النموذج بوصفه مثالا مرجعا(1) نعيد إنتاجه في نسخ عديدة كما
هو الحال في فن الرسم. ومنها ما يدل على التصميم(2) مثلما هو الحال في عمل
المهندس المعماري. ومنها ما يدل على المثل الأعلى(3) كقولنا نموذج النقاوة
أو نموذج الجمال والخير. وفي معنى آخر يدل النموذج على الإيقونة أو على الجهاز
الميكانيكي(4)الذي يجسم الفكرة المجردة ويترجمها. وأخيرا النموذج بمعنى الصورنة
المنطقية-الرياضية(5)، والذي يمثل نسقا مجردا. "هذا المعنى الأخير هو الذي يعنينا بالتحديد"
أكثر من غيره على حد تعبيره. إثر هذا التقديم يتساءل أرمات:
هل وجب علينا تمييز النموذج العلمي عن عمليات الترييض التي أجراها العلماء على مدى
عقود من نشاطهم، ومنذ القرن 17 ؟ أية مقاييس تسمح لنا بتقديم مقولة النموذج
هذه على أنها مستحدثة وخاصة ؟
يمكننا صياغة تعريف عام للنموذج تنضوي تحته جميع الأنساق
الرياضية السائدة، ويكون على النحو التالي: النموذج هو تمثيل معطى واقعي بواسطة نسق صوري، يسمح لنا
بتحليله وتفسير نمط اشتغاله، قدر ما يسمح لنا بالتدخل من أجل التحكم في هذا المعطى
أو تطويره.
يقول ميشال أرمات:
" لدينا مع ذلك أسباب وجيهة للإحجام عن إسقاط معنى النموذج على كل أشكال
الترييض التاريخية " . وأول هذه الأسباب يتمثل في أن الحديث عن نموذج ضمن
علوم الفيزياء قبل 1860، أو ضمن علوم الرياضيات قبل 1900، أو ضمن
العلوم الاجتماعية قبل 1920 هو محض مفارقة تاريخية بالنظر إلى المعجم
المستخدم من قبل العلماء المشتغلين بهذه الميادين. نفهم من هذه الإشارة أن وظيفة
الرياضيات تحولت مع نسق تطور العلوم ومع تطور مفهوم الواقع العلمي؛ ففي الطور
التجريبي الذي عرفته النظريات الكلاسيكية، اقتصر دور الرياضيات على تزويد العلماء
بلغة تتمتع بالدقة والصرامة والاقتصاد في التعبير. كانت الرياضيات مجرد أداة في
خدمة العلوم فحسب. وبمباشرة العلوم واقعا جديدا ، لامتناهيا في الصغر
(ميكروفيزيائيا)، تتعذر فيه الملاحظة والتجريب، بات على العلماء أن يبحثوا عن منهج
جديد يسمح لهم بصياغة مشكلات العلم ومعالجتها. وبهذا دخل الترييض في صلب منطق
الاكتشاف العلمي بعد أن كان أداة إحصائية ولغة دقيقة ، متهيئا لهذه الوظيفة بما
أفرزته الثورة الأكسيومية من تحولات في بنية التفكير الرياضي. لقد كان " الرياضي الخالص يُكبُّ على إنشاء بنى صورية،
دون الاهتمام بمعرفة ما إذا كان يمكن استخدامها خارج الرياضيات (...) بينما يحدث
في المقابل أن يتعرّف الفيزيائي، من بين البناءات الصورية المجانية في الظاهر، إلى
الجهاز الصوري الذي يناسبه " على حد عبارة روبير بلانشىٍ، في كتابه "الاستقراء العلمي والقوانين
الطبيعية" . اتّحد بفضل الأكسيومية علم الرياضيات بالمنطق، فأصبحت الرياضيات
تتأسس منطقيا مثلما صار المنطق يقبل الترييض ضمن ما يعرف بالمنطق الرمزي. لقد
أوغلت الرياضيات في الصورنة، بمعنى أنها تخلصت بشكل ملحوظ من الحدوس الحسية
والخبرية لصالح الصورة المجردة. فانتقل هكذا مركز الاهتمام في الاستدلال الرياضي
من الكائن إلى البنية. وأصبحت تهمنا
العلاقات والبناء المنطقي للنسق أكثر مما تهمنا المكونات والحدود.
* الأكسمة: تعني في مجال الرياضيات
انتقالا من النسق الاستنتاجي إلى النسق الفرضي الاستنتاجي، مع ما يشترطه هذا
الانتقال من ترميز وصورنة ضروريين من أجل
تماسك البناء الرياضي وكماله.
* الترميز: يؤكد بلانشى في
كتابه " الأكسيومية" أنه من المستحيل عمليا تحقيق شروط صارمة إذا تواصل
التعبير باللغة المتداولة، بما تحمله من عدم الدقة. لذا كان الغرض من إدراج
الترميز في الأنساق المؤكسمة هو تخليص القضايا والحدود والمفاهيم الرياضية من
شوائب الخبرة الحسية، يعني الترميز إذن استبدال الكائنات الرياضية بعلامات تمثلها،
أي استبدال المفاهيم بالرموز الخاوية من كل ثقل حدسي دون التخلي عن شروط الصرامة
الصورية. * الصورنة: الترميز هو
ضمانة الصورنة. فإذا كان الترميز يهم الحدود والقضايا التي
يطرحها الرياضي افتراضيا، ويختارها بحرية ، فإن الصورنة تهم القواعد
التي يتم في ضوئها تقدير صلاحية النظرية. وتعني الصورنة هنا أيضا استبعاد كل ما هو
حدسي وذاتي من القواعد التي نستدل وفقها. بحيث تغدو الأوليات المؤسسة للاستدلال
مجرد مواضعات تُطرح بشكل افتراضي. إذ لا يتعلق الأمر بوضع أوامر أو محظورات، وإنما
يتعلق فقط بالتنصيص على مواضعات. ويكون كل رياضي حرا في بناء نموذجه كما يرغب،
شريطة أن يعلن عن هذا البناء بوضوح، وأن يتّبعه فيما بعد بشكل صارم، وهو ما يعرف
بمبدأ التسامح في التركيب.
كان من آثار هذه الثورة الأكسيومية أن تقدمت الرياضيات كثيرا في اتجاه التجريد
والتماسك. ولئن كان اختيار المسلمات التي توضع أساسا لأكسيومية ما اعتباطيا من بعض
الوجوه، فإنه مع ذلك ليس متروكا للصدفة، إذ يظل خاضعا لشروط داخلية مختلفة وملحة،
لعل أهمها هو شرط التماسك، والذي يعني متانة البناء بحيث يخلو من التناقض. فتكون الحقيقة الناتجة عنه على
غاية من اليقين. ولما كانت ترتهن بمقدمات النسق وبطريقة بنائه، غدت تعرف
بالصلاحية، لأنها تتمتع بمنزلة الحقيقة داخل النسق الذي نشأت فيه، بينما تفقد كل
قيمتها خارجه. وتبقى أمامنا طريقتان لإثبات تماسك النظرية وصلاحيتها:
* الاختزال: وذلك باستدعاء
نظرية أخرى سابقة تساعدنا على بناء تأويل متماسك.
* قابلية التحقيق: وذلك بتقديم تحقيق
في عالم الأشياء. فبدل رد النظرية إلى نظرية سابقة، نتولى بناء نموذج فيزيائي يشهد
على مدى تلاؤمها مع الواقع، ويؤكد قدرتها على استيعاب متغيراته. فنتحقق بالتالي من
مرونتها، ومن خصوبتها وإجرائيتها.
لا يعاين العلماء فعالية الأكسمة وثرائها إلا عند الشروع
في عملية النمذجة، كل في حقل اختصاصه. ولأن الأنساق الأكثر تماسكا من جهة بنائها
المنطقي، هي الأشد فقرا من جهة مضمونها الحسي، فإن مختلف اختصاصات العلم لا تجد
صعوبة في توظيفها.
- يقول روبرت بلانشى: " ليست الرياضيات علما
بالمعنى نفسه الذي يصدق على غيرها. صحيح أنها علمية، بل علمية على نحو نموذجي،
بصرامتها ودقتها ويقينها، ولكنها ليست معرفة بالأشياء، فهي لغة متماسكة، لكنها
لا تأبه بالواقع "
لم تعد مفاهيم النسق والصورنة والترميز حكرا على
الرياضيات، لقد انتقلت من الرياضيات إلى ميادين جديدة لتترجم عن ثورة حقيقية في
مجال البرمجيات وعلوم الافتراضي والاتصالات وغيرها... وهي علوم بات لا غنى عنها في
تطوير نشاط النمذجة داخل اختصاصات متعددة. هذا ما حمل لومواني على تعريف الصورنة
بعملية معرفية يتحوّل بمقتضاها فعل ما أو
نسق ملموس إلى صورة (أو نسق مجرد)
تهدف النمذجة في حقل مخصوص إذن إلى إعادة بناء الظواهر
انطلاقا من المفاهيم المكونة لذلك الحقل: "وظيفة النمذجة هي تحويل المفاهيم
النظرية إلى مسارات بناء الظواهر" حسب جون بتيتو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق