الإنساني بين الكثرة والوحدة الخصوصية والكونية


الإنساني بين الكثرة والوحدة
الخصوصية والكونية
المدخل الإشكالي:
ما الذي يبرّر التفكير في مسألة الخصوصية والكونية؟
يبدو أنّ ما يسم الواقع الإنساني من تعدد وتنوع واختلاف، وما يميّز الإنساني من نزوع نحو الكوني من ناحية وما يمثل القاسم المشترك في الفضاء الإنساني من ناحية أخرى بما هو مؤشر على الوحدة، أو الوجود النوعي للإنسان من ناحية أخرى ما يشرّع النظر في مثل هذه المسألة، علاوة على ما اقترن به واقع الاختلاف من صراع أو صدام وعنف مورس تحت شعارات مختلفة، فحرب الآلهة أو الحرب باسم الدفاع عن حقوق الإنسان أو من أجل نشر قيم الحق أو دفاعا عن الكرامة الإنسانية أو باسم مقاومة الإرهاب، مقابل ظهور أقليات تدافع عن حقّها في الاختلاف والاعتراف بها بما هي وجود أو كيان مستقل، له هويته المميزة، ما يفيد أنّنا نعيش اختراق ثقافات لخصوصية ثقافات أخرى باسم الكوني، مقابل انغلاق ثقافات معينة على نفسها دفاعا عن الخصوصية ورفضا للكونية، وما تثيره هذه وتلك من جدل يعكس عند البعض أزمة هوية ويعكس عند البعض الآخر أزمة تضخّم الهويات.
كيف يمكن للخصوصية أن تنفتح على الكونية دون أن تفقد خصوصيتها؟ ألا يمكن النظر إلى الكونية بما هي الحفاظ على الخصوصية؟ أم هل علينا أن نختار ما بين الخصوصية والكونية؟ ألا يمكن للكونية أن تكون أفق الخصوصية؟ وإذا اعتبرنا أنّ الكوني قيمة نوعية فهل علينا اليوم أن ننقذ الكوني من مخاطر الفراغ الأنطولوجي الذي قد تولده الدعوات المدافعة عن الخصوصيات أم علينا أن ننقذ أنفسنا من كوني لا يفيد إلا صورة مجرّدة للعدم؟ ألا ينبغي أن نميّز بين كوني ينبغي إنقاذه وبين كوني ينبغي أن ننقذ أنفسنا منه؟ وبأي معنى يمكن أن ندافع عن الخصوصية  ونعيشها دون القطع مع الكونية؟
تفترض معالجة جملة هذه الإشكالات النظر في العلاقات الممكنة بين الخصوصية والكونية  [علاقات تناظر- تشارط- تكامل –تقابل...] وما تثيره من مفارقات، إذ يمكن مبدئيا القول بأنّ الخصوصية تستدعي الكثرة والتنوّع والفوضى، في حين تحيل الكونية على الوحدة والنظام. فهل يعني ذلك أنّه ليس بالإمكان التفكير في هذه المسألة إلاّ وفق ما تسمح به هذه الثنائيات، أي الفردي في مقابل الكلّي والوحدة في مقابل الكثرة والفوضى في مقابل النظام؟ ألا تترجم هذه الثنائيات عن رؤية اختزالية، تنتهي عادة إلى الانتصار لقطب والتضحية بالآخر؟ تتحوّل هذه الثنائيات على مستوى التجربة البشرية إلى مفارقات تتلخصّ في تمزّق الإنسان بين إنشداده إلى الخصوصية والتفرّد وتوقه إلى الكونية.
يقتضي التفكير في إشكاليات العلاقة بين الخصوصية والكونية  منهجيا التساؤل عن دلالة الخصوصية ومقوّماتها. بأيّ معنى نفهم الخصوصية؟ وما دلالة الكونية؟ وهل يعني ذلك إمكان تجاوز القول بالكونية بما هي نفي للخصوصيات؟ لكن ما دلالة الكوني وما مشروعية القول بالكوني أو الدفاع عنه؟
يفترض الحديث عن الكوني التساؤل عن علاقته بالكلي؟
يمكننا المجازفة بالتمييز بين الكوني والكلي من جهة اعتبار الكلي ما يفيد المنطقي المعرفي ، أما الكوني فيحيل على سجل قيمي.
لكن ألا يمكننا أن نقارب الكوني من نماذج تفكير مختلف كأن نقاربه من جهة الطبيعة ومن جهة الوظيفة؟ فعلى مستوى الطبيعة يحيل الكوني على ماهية ثابتة، على ما هو نوعي في الإنسان وعلى ما هو مشترك بين البشر، أو ما يوحد الجنس البشري.
أمّا على مستوى الوظيفة يمكننا أن نعتبر الفكر كما الكلام الوظيفة النوعية للإنسان أي مجال الكوني، دون أن ينفي هذا الذي نعتبره كونيا الخصوصية، فإذا كانت اللغة خاصية نوعية وكلية فإنّ الألسن متعددة، وإذا كان الفكر مجال الكلي فإن تفكيرنا مختلف وإذا كان الرمز مجال الكوني فإن الرموز تختلف صورها وتتعدد دلالتها، وإذا كان المقدس حاضرا في كلّ المجتمعات فإنّ صورته وفعله وفعاليته تختلف. وهو ما يحيلنا على النظر إلى الخصوصي بما هو فضاء الثقـافـات [الكثرة] أما الكوني فيحيل على فضاء الحضارة[الوحدة]، وأنّ الإنساني لا يستقيم ما لم نأخذ مأخذ الجدّ واقع الكثرة في الخصوصيات دون نفي الوحدة التي يعبر عنها الكوني.
على ضوء هذا القول ألا يبدو استشكال العلاقة بين الخصوصي والكوني مفتعلا ولا مبرر له؟ ألا تبدو العلاقة من البداهة بحيث لا تثير من جهة المفهوم إحراجا طالما أنّ علاقة الكل بالجزء والعام بالخاص، والوحدة بالكثرة علاقة تضمن بديهية، فلم إثارة مشكل يبدو لا وجود له إلا بصورة وهمية؟
يبدو أنّ الواقع الإنساني بما يتضمنه من تناقضات هو  ما يثير مشكل العلاقة هذا. فالكوني من جهة الواقع ليس بمثل النقاء الذي نصوره من جهة المفهوم وهو ما يدفعنا لإثارة علاقة الكوني بالإيديولوجي وبالإيتيقي، فأي معنى للكوني إذا ما قاربناه إيديولوجيا؟ وأي معنى له في دلالته الإيتيقية؟


يفهم الكوني الإيديولوجي بما هو كوني هيمنة، ليتحرك الكوني بذلك ضمن أفق العقل الأداتي، أو الحسابي، أفق المصلحة بدل الحقيقة أفق النجاعة بدل القيم، وهو ما يتجلّى واقعا، في العولمة التي تبشر بالوحدة على حساب الكثرة، وباسم الوحدة تتلف الخصوصيات، وهو ما يؤشر على أزمة تواصل.
إنّ الدفاع عن الخصوصية لا ينبغي أن يحمل على معنى رفض الكوني وإنما رفض الكوني الهيمني دفاعا عن كوني كلية الإنسان ووجوده النوعي.
قد تختلف الثقافات، وقد تتعدد نظم عيشها، وهو تعدد لا يشرع لأحد الحكم على الآخر بالوحشية أو التخلف أو إعدام حقه في الاختلاف، تعدد يدفعنا إلى النظر إلى الاختلاف بما هو علامة ثراء من أجله نتواصل على أساس التكافؤ والتفاهم لا على أساس استراتيجي، من أجل إنقاذ الكوني من الكوني أو إنقاذ أنفسنا من كوني طلبا للكوني.
I- في دلالة التواصل ومقوماته:
النص السند: "الإنسان حيوان رامز" . كاسيرر.ص: 102
مدخل إشكالي: عندما تناول ديكارت الإنسان واختزله في بعده الواعي فإنه ميز الإنسان بالطبيعة عن الحيوان. فالفرق بين الإنسان والحيوان حسب ديكارت هو فرق بالطبيعة، فالإنسان عاقل والحيوان "لا عقل له البتة" كما وضح ذلك ديكارت في رسالته إلى "الماركيز دي نيوكاستل" وهكذا فإن ديكارت يكون قد أفرد قولا خاصا بالإنسان قولا ميتافيزيقيا ينزّل الإنسان منزلة خاصة في العالم.
الإشكالية: ما دلالة القول بأن الإنسان كائن رامز؟ وما طبيعة العلاقة بين الإنسان والعالم؟
الأطروحة: يؤكد "كاسيرار" أن الفرق بين الإنسان والحيوان ليس فرقا بالطبيعة وإنما هو فرق بالدرجة فالإنسان هو حيوان أكثر تطورا من بقية الحيوانات ، أكثر تطورا إلى درجة أنه يحدث نقلة نوعية تجعله يتميّز راديكاليا عن الحيوان، هذه النقلة النوعية تتمثل في الوسائط التي أنتجها ليتواصل مع العالم ومع الآخر.
مراحل الحجاج:       1- دلالة القول أن الإنسان كائن رامز:
                                2- طبيعة العلاقة بين الإنسان والعالم:
التحليل:
      1- إذا كان العلم قد انتهى مع البحوث البيولوجية إلى اعتبار الحياة قائمة بذاتها بحيث يمثل كلّ كائن عضوي كيانا فريدا من نوعه فإنّ "كاسيرار" يعتبر أن العالم الإنساني تمكن من تحقيق تحوّل نوعي يفرق نهائيا الحياة الإنسانية عما سواها وهذا التحول النوعي لا يتمثل في مستوى تغير كمي يتمثل في توسع دائرة الوظيفة لدى الإنسان وإنما "اكتشاف الإنسان بمنهج جديد" يقول كاسيرار جعله قادرا على أن يكيف نفسه بحسب مقتضيات البيئة التي يعيش فيها، فالإنسان مقارنة بالحيوان لا يعيش فقط في واقع أوسع من حيث أبعاده وإنما أنتج الإنسان لذاته واقعا جديدا خاصا به، واقعا يقوم على الوساطة، وساطة الأنظمة الرمزية، و ما يميز الإنسان عن الحيوان هو إذن، حسب "كاسيرار"،  قدرة الإنسان على الترميز أي أن يتواصل بواسطة هذا الجهاز الرمزي الذي ينتج دلالات يتشكل بواسطتها معنى العالم، فالإنسان يتميز عن بقية الكائنات لأنه كائن بيوثقافي.
لذلك ينقد "كاسيرار" رومانسية "روسو" الذي اعتبر تحول الإنسان نحو اكتساب خصائص جديدة غير طبيعية فيه علامة فساد لإنسانية الإنسان. ذلك أن ما هو إنساني في الإنسان حسب "روسو" هو الطبيعي وكلّ إضافة غير طبيعية في الإنسان لا تؤدي  إلا إلى فساده و تمثل انحطاطا بالنسبة للنوع الإنساني. و "رومنسية" "روسو" جعلته يقرّ  في أصل التفاوت بأن إنسان الطبيعة أفضل حالا من إنسان المجتمع مما جعله لا يتوانى على الإقرار في "العقد الاجتماعي": «الإنسان خيّر بالطبيعة ولكن المجتمع هو الذي أفسده». ضد هذه «الرومانسية الحالمة» يقر "كاسيرار" بأن الأنظمة الرمزية تميز الإنسان باعتبارها نشاطا أصيلا لا يمكن أن يرتبط بشيء آخر غير العقل البشري وقدرته على التكيف بل أكثر من ذلك لا يمكن أن نتحدّث عن واقع إنساني قبل هذه النظم الرمزية، ذلك أنها لا تمثل انعكاسا لواقع موجود بصفة مستقلة عنها بل إن الواقع لا يصبح معقولا إلا بفضل الأنظمة الرمزية فهي شرط تعقل الواقع تماما مثلما أن المفاهيم القبلية عند "كانط" تمثل شرط إمكان التجربة ذاتها.
         2- وهذا يعني أن كلّ الوظائف الروحية لدى الإنسان تشارك المعرفة في الخاصية الأساسية من جهة كونها مسكونة بقوة مشكلة في الأصل، قوة لا تكتفي بمجرّد إعادة الإنتاج فتشكيل الإنسان للعالم يكون بواسطة الأنظمة الرمزية. و الأنظمة الرمزية بعيدا عن أن تعبر بطريقة سلبية على الحضور المحض للظواهر، فإنها توجد فيها فضيلة الاستقلالية التي للطاقة الروحية كقيمة خاصة للمثالية، وهذا يصدق على الفن تماما كما يصدق على المعرفة، يصدق على الفكر الأسطوري تماما كما يصدق على الدين.
         فعالم الصورة الذي تتواجد فيه كل واحدة من هذه الوظائف ليس مجرّد انعكاس لمعطى  خبري بل هو على العكس من ذلك مولّد من قبل الوظيفة الرمزية المناسبة  بحسب مبدأ أصيل فكلّ الوظائف الروحية تنتج بهذه الكيفية تشكلاتها الرمزية التي و إن كانت مختلفة تماما عن رموز الذهن فإنها لا تختلف عنها من حيث قيمة مصدرها الروحي، إذ لا يمكن اختزال ولا واحدة من هذه التشكلات في الأخرى فكلّ واحدة تحيل إلى زاوية نظر روحية معينة، وكلّ واحدة تمثل من  هذه النظرة مظهرا خاصا للواقع. فلا يجب أن نرى في الأنظمة الرمزية طرقا مختلفة يتمظهر من خلالها الواقع بل يجب أن نرى في الأنظمة الرمزية طرقا مختلفة يتمظهر من خلالها الواقع في ذاته للعقل، ولكن هي أيضا طرقا مختلفة يتبعها العقل للتموضع في سيرورته الخاصة أي الطرق التي يتبعها العقل في تمظهره لذاته.
         وسواء أخذنا الفن أو اللغة أو الأسطورة أو المعرفة فإنها تؤدي كلها مباشرة إلى ولادة مشكل كلّ مختلف، انتاجات الثقافة (اللغة، المعرفة...) تتماثل رغم اختلافاتها الداخلية في إشكالية عامة وتتقدم كمحاولات لتحويل العالم السلبي للتمثل البسيط أين يبدو الذهن منطلقا في عالم تعبيراته الخاصة. والوظيفة السميولوجية التي تتمظهر في النظم الرمزية تتقدم تحت مظهر موجّه لإنتاج أشياء متمثلة وهذا النشاط يسميه "كاسيرار" التموضع: L’objectivation . فالأنظمة الرمزية هي إذن سيرورات ديناميكية للترميز لا تمثل انعكاسا للواقع الخارجي بل إنها تجعل تمثل الواقع

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم