تدريب على تحليل موضوع فلسفي
مسألة النمذجة العلمية
الأستاذ : فيصل خضر
الموضوع:
قيل - "النمذجة طريقة ممتازة لا
تقتصر على إبراز منتجات الطبيعة لكنها تنتج عددا لا محدودا و
متنوعا من الأعمال تتجاوز الطبيعة " - ما رأيك ؟
لحظة التمهيد: إن
الفهم مطلب الإنسان و هاجسه الأوحد – و الفهم محرك التاريخ الإنساني بشتى تجلياته
– وليست الأسطورة و الفلسفة و العلم إلا أشكال لهذا الفهم – و محاولات لسبر أغوار
هذا العالم – و فهم ألغازه المتشعبة و المختلفة. و في هذا السياق يؤكد احدهم على
أن “النمذجة
طريقة ممتازة لا تقتصر على إبراز منتجات الطبيعة لكنها تنتج
عددا لا محدودا ومتنوعا من الأعمال تتجاوز الطبيعة"
لحظة طرح الإشكالية : ما النمذجة ؟ و هل
تعنى هذه الأخيرة بما هو معطى في الطبيعة أم أنها تتجاوزه لتؤسس لما
يجب أن يكون ؟ بعبارة أخرى هل يختزل جهد المنمذج في كشف و وصف الظواهر الطبيعية ؛
أم انه جهد ينفتح على الإنشاء و الإنتاج و الإبداع ؟ و إلي أي مدى نجحت
النماذج العلمية في كشف و إجلاء حقيقة الظواهر من جهة و التأسيس لواقع ما بعد
طبيعي " صناعي " من جهة أخرى ؟.
التحليل:
الاشتغال
على المفاهيم
ملاحظة
: الاشتغال على المفاهيم يكون سياقيا و ليس بطريقة معزولة عن التحليل.
الاشتغال على المسلمات
الضمنية
ملاحظة : يطالب التلميذ بتحليل الإقرار الوارد في
صيغة الموضوع.
"النمذجة طريقة ممتازة لا
تقتصر على إبراز منتجات الطبيعة لكنها تنتج عددا لا محدودا و
متنوعا من الأعمال تتجاوز الطبيعة "
- يعرف القول النمذجة بالطريقة الممتازة – أي
المنهج أو التقنية التي تتصف بالصرامة و النجاعة في دراسة و كشف حقيقة الظواهر
التي تتناولها بالدرس.فالنمذجة هي طريقة حاول من خلالها العلماء تمثل و تفسير و
فهم الكون و ظواهره من جهة و تقنية ترتبط بمعنى الخلق بما يعنيه الخلق من إيجاد
بمعزل عن مثال سابق .
- النمذجة رؤية للعالم و نظام رمزي ؛ من خلالها حاول
العلماء إعادة تنظيم الكون ؛ عبر تفسيره و الكشف عن القوانين و العلل التي تحكم
ظواهره و كذلك تنخرط النمذجة في سياق إنتاج عالم إنساني مرتبط بأحلامه التي تمثل
كونا مغايرا و مفارقا للكون الذي نوجد فيه.
- يموقع القول النمذجة؛ بين الإبراز – بما
يعنيه من كشف و إظهار – لشيء / ظاهرة - موجودة تنتظر الإجلاء ( التفسير و
الوصف ) و الإنتاج ؛ بما يعنية من بناء و إنشاء يتجاوز الواقع المعطى.(
الإنشاء و التوقع ).
- يميز القول بين نمذجة تحليلية مغلقة و
نهائية ؛ تعتبر فيها التجربة معيارا لصدق النتائج و نمذجة سيستيميةمفتوحة
تستعمل نماذج غير مكتملة ؛ مفتوحة و مرنة.
- يؤكد القول أن النمذجة هي منهج يمكن
اعتماده في دراسة الواقع ؛ الذي يشتمل على ظواهر يمكن إخضاعها للملاحظة و التجربة
و كذلك تمكن من إبراز و إظهار حقيقة يمكن أن توصف بالنسبية و ذلك بالاعتماد
على نماذج افتراضية ترتبط بخيال المنمذج شديد الارتباط ؛ يمكن أن ترد في شكل
صياغات رياضية ؛ و هذه النماذج ترتبط بفضاء الميكروفيزياء ( الذرة ) و
المكروفيزياء ( الأجرام السماوية ). و هذا ما يؤكده " فيتغنشتاين" من
خلال قوله: " إننا نصنع لأنفسنا صورا عن الواقع ".
- النموذج في علاقة
بماهو كائن من خلال فهم و تفسير و تبسيط الواقع بما يعنيه التبسط من اختزال
و إهمال و تعميم للظواهر و بالتالي فالنمذجة العلمية هي تمثل للواقع أو لنسق واقعي و يفيد التمثل أن النموذج
ليس مجرّد تصور يعكس الواقع كما لو كان صورة فوتوغرافية، فلا معنى من الناحية
العملية لنموذج مطابق للواقع و اعتبار النمذجة بناء يعني أن النموذج يبني واقعه،
دون انشغال بتصوير الواقع كما هو[ استراتيجيا الإهمال، الطابع الغائي للنموذج] ؛
حيث يسمح نموذج التبسيط بدراسة الواقع – بمختلف
ظواهره مكروفيزيائية و ميكروفزيائية و ذلك بتبسيط اللامرئي و يساعد على
التفكير في المركب le complexe -
و نذكر مثال الذرة atome و الخلية cellule .
و ما يجب أن يكون من
خلال نماذج افتراضية ذات طابع استشرافي – تتيح التفكير في المستقبل و ترسم
الإمكانيات التي يمكن أن تكون عليها هيئة ظاهرة ما أو واقعة ما.فالنمذجة تنتج معرفة مشروع، وهو ما يعني أنّ النمذجة
تنشًدًُ إلى واقع غير موجود فتحاول إيجاده من خلال التطبيقات العلمية ، وهو ما
يؤكد الطابع الخلاق للنمذجة ويؤكد العلاقة الخلاقة بين العقل والخيال.( يمكن أن
نستدل هنا بمثالين : مثال الذرة – كظاهرة ميكروفيزيائية ؛ و لغياب
التقنيات التي تسمح بدراستها دراسة موضوعية و إخضاعها لملاحظة علمية دقيقة ؛ هو ما
يستدعي حضور نمذجة إنشائية تساعد على بناء نموذج تقريبي يساعد على فهم كيفية
اشتغال الظاهرة.و مثال من علم الهندسة ؛ الذي يكشف عن نجاحات العلم بالاعتماد على
نماذج افتراضية ؛ خيالية في اختراق اللامرئي و إظهاره و إيجاد
"اللاوجود " من خلال نماذج خيالية مبدعة.).
يقول "لودفينغ بسكال ": يمكن للنماذج
التي يبنيها العلماء أن تتكلم عن أشياء لا يمكن أن توجد إلا في تامثل ؛ و في
بناء خيالي يكون هدفه الوحيد تنظيم معطيات ؛ أو التوصل إلي بعض التوقعات ".
- يؤكد "لودفينغ بسكال" أن العلم الحديث ؛
لم يعد سجين " ما هو كائن " أي ما هو معطى في الطبيعة من ظواهر ؛
بل انخرط هو الآخر في الانشغال بما يجب أن يكون وذلك من خلال استشراف واقع قد يكون
بيولوجيا ( الهندسة الوراثية ) أو اقتصاديا (النموذج الليبرالي كنموذج اقتصادي حر
) من خلال نماذج يسعى في ما بعد لإيجاد تطبيقاتها في الواقع .
- يؤكد القول على قيمة النمذجة العلمية ؛ التي تجاوزت محدودية العلم الكلاسيكي
(العلم التجريبي ) الذي توقف عند حدود الظواهر الطبيعية التي يمكن أن تخضع لمبدأ
الملاحظة و التجربة.و بالتالي فالنمذجة العلمية كطريقة و منهج و رؤية حررت العقل
العلمي من شروط
و حدود هو واضعا ( الحتمية – الموضوعية – الوصف – التفسير ) و وسعت من أفق
الحقيقة و المعرفة العلمية عموما.
- يؤكد القول على الطابع المفتوح للنمذجة العلمية – كعقلانية علمية
حديثة و نتمثل ذلك من خلال " لا تقتصر ... لكنها... " و كذلك على
التاريخ المتصل للعلم .فالنمذجة كإنتاج و إنشاء و تخيل تنفتح على تصور
و خلق استراتيجيات فعل جديدة .
استتباعات الأطروحة:
المزايا:
-
كشف القول عن قيمة النمذجة العلمية كنمذجة تحليلية أو سيستيمية ؛ في إنتاج معارف
علمية تجعلنا نقترب من الحقيقة الكلية شيئا فشيئا. كما كشفت عن قيمة النمذجة من
جهة كونها إبراز و إجلاء لغموض الظواهر و هو ما يمكن من إمكانية إعادة إنتاجها و
التحكم فيها و من ثمة تداولها و هو ما يبن نجاعة العلم في ترويضه للظواهر من خلال
السيطرة و التحكم ( الأمراض / الكوارث الطبيعية / زيادة الإنتاجية ...).
-
بين القول قيمة انفتاح العلم على معنى الإنتاج ؛ إنتاج النظريات و التصورات التي
ليست لها أي مرجعية واقعية بالمعنى التجريبي ؛ و هو ما مكن من إنتاج هذا الوجود
الإنساني الذي ينعكس في التقنية و منتجاتها.و على هذا النحو تكون النمذجة طريقة ممتازة لا تقتصر على إبراز
منتجات الطبيعة لكنها تنتج عددا لا محدودا و متنوعا من الأعمال تتجاوز
الطبيعة.
- مكنت النمذجة العلماء من التحرر من سيطرة الطبيعة
كمرجعية للتفكير و التأمل؛ ليتسع أفق التفكير العلمي ليرتبط بالخيال و كل
الانتاجات الإنسانية و هو ما أكد عليه " جون لويس لوموانيه " في قوله :"
لقد ألفنا تمارين النمذجة ؛ منذ أمد طويل ؛ و نحن لا ندرك مشاريعنا (...) إلا
بالاستعانة بنماذج رمزية سواء تشكلت بفضل الكتابات الموسيقية ؛ أو كتابات
الرياضيات و الإعلامية و الكيمياء".
- تحول العلم من خلال النمذجة من عالم مغلق متناه في وقائع معطاة ؛ إلي كون
مفتوح على كل الإمكانات و التأويلات. وبالتالي تحول العلم من ادعاءات الحقيقة الثابتة والمطلقة التي لا تقبل تظننا
أو ارتيابا ( الوضعية المنطقية ) ؛ إلي فضاء العلم المشروع حيث تصبح المعرفة
مشاريع قابلة للانجاز؛ و الحقيقة تتحول إلي حقائق ؛ حيث يمكن الحديث في الرياضيات
الحديثة ( اللااقليدية ) عن حقائق رياضية ؛ تتصف كلها بالصلاحية ؛ و ذلك بملاءمتها
للفضاء الذي تتنزل فيه.
الحدود :
- إن المكاسب المتعددة للنمذجة العلمية لا يمكن أن تحجب عنا حدودا و مخاطر ؛
يمكن أن نفرعها على النحو التالي ؛ ابستمولوجية تتعلق بالمعرفة و الحقيقة و أخرى
فلسفية.
*
الحدود الابستمولوجية : إن في قيام النمذجة على معنى التبسيط و الاختزال ؛ قد يدفع
إلي التشكيك في قيمتها كمعرفة علمية دقيقة
و صارمة ؛ كما أن التبسيط و النمذجة باختيارها لاستراتيجيا الإهمال
تتجاهل وتتغافل عن أسئلة من الصعب الإجابة عنها – في علاقة بالتحول و الفوضى و
التجدد و الخلق والتعقد. - فالكون في سيرورة في طور التفكك و التنظيم في آن – و بهذا
تكون نماذج التبسيط تشويه و سلب لحقيقة الأشياء و الظواهر – حيث تقدمها في هيئة
جامدة تتنافى مع شروط الحياة.
- إن في قيام النمذجة العلمية على نماذج تبسيطية غايتها الوصف و التفسير
والتحليل ؛ قد ينفي - ينفي الطابع الخلاق للنموذج ؛ باعتباره يقوم على
استراتيجيا الإهمال والإغفال و هو ما يؤكده "بسكال نوفال" في قوله: "
ليس النموذج علامة على علاقة مستحدثة بين عناصر كثيرة – بل هو على الأصح تعبير عن
استراتيجيا الإهمال .".
- حتى و إن توفرت قدرة للعلم على تفسير بعض جوانب الطبيعة والكون، لكنه
لن يستطيع تفسير كل شيء بإطلاق؟ وهو ما يؤكد عليه S. Weinbergفي كتابه La
physique peut-elle tout expliquer.
إذ سيكون ثمة دائماً حوادث تظل غير مفسرة. ليس لأننا لا نستطيع تفسيرها حتى مع
امتلاكنا لكافة الشروط الدقيقة التي تمت فيها هذه الحوادث، ولكن لأننا لن نعرف
أبداً هذه الحوادث: فهي حوادث ضائعة. لن نعرف مثلاً أبداً ما هي الحوادث التي أدت
لأن يكون لنا هذا العدد المحدد من المورثات، أو لماذا ضرب نيزك ضخم في نقطة محددة
الأرض قبل 65 مليون سنة. إن الجزء الأعظم مما يحاول العلماء معرفته يتعلق بحوادث
ضائعة في ضباب الزمن.
* الحدود الفلسفية : إن ارتباط النمذجة ببعد تتداولي ؛ يرتبط بالنجاعة العلمية من جهة
الممارسة ؛ قد ينسينا العالم الإنساني و ذلك بإغراقه بالتقنيات التي لا يمكن أن
ننكر مساهمتها في رفاه الإنسان و تقدمه إلا قد تسلبه مقومات الوجود الحقيقي
؛ كما أن التركيز المطلق على الحقيقة بمعزل عن محيطها الإنساني بما هو محيط جمالي
و أخلاقي ؛ قد يعود عليه بالاغتراب ؛ و الشقاء ؛ إن لم نقل الفناء.
الخاتمة:
يمكن أن نختم و نعيد ما قاله " غاستون بشلار ":
لا يوجد شيء يقيني بالنسبة إلي الروح العلمي ؛ و لا يوجد شيء معطى ؛ بل كل شيء
مبني ". و على هذا الأساس يمكن أن نخلص إلي القول بان النمذجة تأكيد على
الطابع المفتوح للعقلانية العلمية، طالما لا معنى لنموذج مكتمل، وهو ما يؤكد نسبية
النماذج، دون أن تفهم هذه النسبية على معنى التشريع لنزعة ريبية في العلم، وإنما
تحمل على معنى تأكيد طموح العلم نحو فتح أفق البحث على ما استغلق على العقل العلمي
زمن سيادة البراديغم الميكانيكي أو التوجه الوضعي، أي طموح العلم في طلب الكلي،
فضلا على أن النمذجة هي تجاوز للمعطى والاكتفاء بالظاهر نحو المنشأ والمبني
والمبتكر وهو ما يمكن أن يبرز علاقة النمذجة بمطلب الكلي،وما يسمح لنا بالتأكيد
على علاقة التناغم بين النمذجة ومطلب الكلي.