(مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع:
"الهوية الثقافية")
(كلمات الجلسة الثالثة)
الدكتور جميل قاسم
الاختلاف والاعتراف نقد المشهد الثقافي
"السؤال
تقوى الفكر"
مارتن
هيدغر
جاء
في الحديث الشريف" اختلاف أمتي رحمة "( الطبرسي) ويقول:سانت
إكسيبري:" أخي شتان أن يضنيني، إن اختلافك عني يثريني ".
فإذا
كان الخلاف نقمة فالاختلاف رحمة، وإذا كان الاعتساف مثلبة فالاعتراف حسنة.
والاختلاف يقبل الغيرية، غيرية واختلاف الآخر. والاعتراف، يقر الاختلاف ويسوغه
في "الذاتية"، ذاتية الذات والموضوع، في تكوثر المحمولات، وتعدد
الحقيقة الواحدة.
ومنطق
الاختلاف من طبيعة فكرية محض، ووجودية محض، وهو منطق تفاضلي صرف من الوجهة
العقلية والوجودية (الفلسفية).
أما
منطق الاعتراف فهو من طبيعة عقائدية، دينية، أو إيديولوجية، وهو يقبل الغيرية
كاختلاف عملي، فعلي "براغماتي"، يقبل به كاختلاف مقيد.
والعصور
الحديثة، تقوم على جدل الاختلاف الدهري (الوجودي) والاعتراف الديني (الخلاصي).
فإذا جعل المرء الحرف وراءه، واعتبر العبارة حرفا، والحرف حجابا "والحرف
يميت بينما الروح تحيي" كما يقول القديس بولس تصبح المعرفة واليقين مرادفة
للجهل والريبة "كل ما أعرفه أنني لست أعرف شيئا" يقول سقراط
"والمعرفة التي ما فيها جهل وريبة هي المعرفة التي ما فيها معرفة"
يقول النفري ومعرفة اللامفكر به شرط جلاء الفكر، والعلم في الغيبة، لا في الحضرة
والرؤية فقط. والحضرة أو الرؤية حرف واتفاق وظاهر وائتلاف، والغيبة والريبة روح
ومعنى وباطن واختلاف.
لا
حكم للحرف، فما هو مناط الحكم والحاكمة إذن؟ مناط الحكم، والحال هذه، النصاب،
والنطاق، والمقام. فإذا عرف المرء مقامات الحكم ومقالاته، ومجال المعرفة
وتجلياتها، والحق في تعدد الحقيقة، دون ان يخلط نصاب العقل، بنصاب الوحي، ولا
نصاب الشرع بنصاب الشعر، ولا مجال العلم بمجال الأدب والجمال، تمكن من البصر
والتبصر، والنظر والعمل، وأدرك القرب والبعد، والفقد والوجد، وميز الرؤية
والغيبة، واليقين والريبة، والاختلاف والإعتراف، ووعى الفرق بين الفرق.
لا
يعني هذا أن المعرفة ليست تكاملية، في اتصال الحق بالحقيقة، واللاهوت بالناسوت،
والحق والخلق، والملة والفلسفة، والعلم والعمل، والعقل والنقل، والايمان والعقد،
والبرهان والعرفان. ولا يعني اختلاف المقام انفصال الفلسفة عن الملة، إذ ثمة
فلسفات دينية مشائية-اشراقية، وبرهانية-عرفانية، وعقلية-حدسية، لكن ما ينبغي
استدراكه هو ان مجال الحقيقة غير مجال العقيدة، ونطاق الفلسفة، كنظر بالموجودات
كموجودات، على ضوء العقل المحض، والفكر المحض، هو غير النظر في الموجودات، من
حيث دلالتها على الصانع أو الشريعة أو"الكتاب". وهذا التمييز هو أساس
ومناط الاختلاف الدهري والاعتراف الديني.
لا
يعني هذا التصنيف أنه تصنيف مبرم، فالثورة الأعلومية(الابستمولوجية) والتأويلية
(الهرمنطيقية) والدلالية ( السيميائية: من علم السيمياء) أدخلت الدلالة على
الكلمة، والنسبية على العقل، والقيمة على المفهوم، في نقد النزعة
التمركزية-العقلية، وبذا وضُعت سلطة العقل الكلي (اللوغوس) على محك النقد
والنظر، وأعيد تقويم مباديء العقل الكبرى (مبدأ الهوية، والتناقض، والثالث
المرفوع) على ضوء العلم، في أسبقية العلم على العقل. وصار منطق الاختلاف، بناء
على هذا يقبل الغيرية، كاختلاف تفاضلي، في ذات الشيء، كما يقبل الوسطية
والبينية.
كما
يقبل الاعتراف بالاختلاف والوسطية والبينية كالإقرار بما هو تطوري، وفعلي، وعملي
(براغماتي) في اطار، ما هو كلي وبنيوي وتزامني وعقائدي ومحكم.
إذا
كان الاختلاف من طبيعة أنطولوجية (فلسفية محض) وكان الاعتراف من طبيعة أخلاقية،
فإن ذلك لا يعني أن الديني لا يقترن بالدنيوي، والدهري لا يحايث القدسي، فالسلوك
الدهري كامن في السلوك الديني، والسلوك الديني، محايث في التصرف الدهري، ذلك أن
اشياء العالم الدهرية ذات قيمة "انطولوجية"، قدسية، متعالية، من حيث
جلال وقداسة الطبيعة والوجود. والانسان الدهري-كما يرى علم ظواهرية الأديان
- يقدس الوجود في حنينه للأرض، وعلاقته بالمكان والزمان، بطريقة محدثة،
والمسلك الدهري الذي يسلكه الانسان الحديث في الحفاظ على البيئة، والرفق بالحيوان
- ناهيك عن الانسان - والحنين الى مسقط الرأس، هو سلوك ديني، قدسي متعال،
لايختلف عن اشكال السلوك المقدسة والدينية والرمزية الأخرى.
كما
اننا نجد السلوك الدهري، والطبيعي، والعملي، وحتى المادي، في السلوك الديني، في
الفكر والعلم، والعمل، والمأكل والملبس والمسكن، والزي والزينة، والآداب العملية
الأخرى.
كيف
تتجلى اشكالية الاختلاف والاعتراف في الفكر العربي المعاصر؟ هل يعترف الفكر
الدهري بحق الفكر الديني في الاختلاف؟ وهل يقبل الفكر الديني بحق الاعتراف
بالآخر الدهري؟ وكيف نفسر إذن حالات النبذ المتبادلة - واختفاء المحتفى به الامام
السيد موسى الصدر عيِّنة على رفض الاختلاف، كما أن حالات أخرى كاغتيال المفكر
حسين مروة مثلا، عينة أخرى على رفض الإعتراف. هل نأمل بأن يتضافر الأصلاح
الديني، مع النهضة الدنيوية للدخول في حداثة عربية- اسلامية، ذات نزعة انسانية
تقوم على مبدأ الاعتراف والاختلاف، في علاقة الانسان بالله، والانسان بالآخر،
والفرد بالدولة؟
الفكر
الفلسفي هو الفكر المحض، الحق لذاته، الذي لا يتحدد ويتعين بأية قيمة سابقة أو
لاحقة على الفكر، في دهشة الوجود والمعرفة، هو الفكر المُحْكم (الابستمي- باللغة
اليونانية - أي الدقيق، العلمي، المنطقي، العقلي). وإذا كان ثمة مرجعية للفكر
فهي مرجعية النقد، والنقض (بالضاد) بحثاً عن القيمة والعلامة والمعنى. ولذلك
تؤدي الاسئلة في عادة النقد وقانونه إلى نقد الاسئلة، فيحيل سؤال العقل نفسه، في
الفلسفة الحديثة إلى نقد العقل ونقد النزعة التمركزية العقلية (العقلاطية). لقد
صار المفهوم المعرفي (الإبستمي) للفكر الفلسفي (بمقولاته ومبادئه ومقالاته
القائمة على سلطة العقل الكلي (اللوغوس) يقترن بالثورة الأُعلومية
(الابستمولوجية) والدلالية والتأويلية التي أدخلت الدلالة على الكلمة، والنسبية
على الحقيقة، والقيمة على المفهوم (باعتبار أن للمفهوم قيمة "قوة"
محددة لقيمته)، وبهذا أُعيد تقويم مباديء العقل الكبرى على ضوء العلم، في اسبقية
العلم على العقل.
ومنذ
أن وُضع العقل على معيار العلم، صار سؤال العقل يحيل إلى نقد العقل وملكاته
(الأُفهومية العاقلة، والفاهمة المدركة، والجمالية الذوقية). وصارت الحاكمة أو
ملكة الحكم موضوعة هي نفسها، على محك النقد. فالحُكم العقلي، حُكم الذات العاقلة
في النفس، يختص بالأحكام الظواهرية، الوضعية، الإحصائية، وهذه تنطبق عليها
مباديء العقل الوضعي (كمبدأ الهوية حيث لا يمكن ان يكون الموجود هو هو، وهو غيره،
في ذات الوقت والآن والزمان والمكان والوضع والحال. وحيث يتحدد الانسان بهوية
الانسان، بالخصائص العديدة التي نطلق عليها إسماً أو صفة واحدة، هي الماهية، أو
الذاتية، أو الهوية.
ومبدأ
التناقض يحكم على المختلفات في ذات الاشياء والموضوعات بأنها متعارضة، متناقضة،
والتناقض يعني ازدواجية واختلاف الحكم على الموضوع الواحد، في ذات الوقت والوضع
والحال الخ. كأن يكون الشيء صغيراً وكبيراً في ذات الشيء، وموجود وغير موجود،
ومتحرك وساكن، وحي وميت.
أما
مبدأ الثالث المرفوع فهو مبدأ انعدام الوسط. فالشيء إما يكون أو لا يكون، إما
يوجد أو لا يوجد، إما أن يكون ساكناً أو متحركاً الخ. وهذه المبادىء تعتبر مبادئ
صحيحة، ودقيقة في مجال الحكم الأفهومي، حكم العاقلة المنطقية.
أما
الحكم الجمالي (الاستيطيقي) فهو حكم ذوقي، يجمع الهوية والغيرية في ذات الشيء،
ويقرن المتناقضات، ويقبل الوسطية، المرفوعة، الممتنعة في المخيلة الجمالية فيكون
الإنسان أسداً (أبا الهول) أو ثوراً بابلياً، أو كائناً يرى الماضي والحاضر بذات
العين الواحدة "جانوس" أو يدمج الحلم والواقع في نظرة واقعية مطلقة
(سوريالية) الخ. ومناط هذا النوع من الحكم الإحساس والمخيلة.
والحُكم
الميتافيزيقي يتمايز بدوره عن الاحكام الاخرى، ويختص بالموجودات الأولية، كالله
تعالى، والنفس والعالم والوجود المحض، وهذا الحُكم من طبيعة حدسية، تقوم فيها
المعرفة على التأمل المحض، والوحي، والتجرد. ويختص بالموضوعات الجوهرية،
المتعالية. ومناط هذا النوع من الحكم الروح والقلب والضمير.
يترتب
على هذا التصنيف في اشكال الحكم التمييز بين التضاد والخلاف، من جهة، والاختلاف
والإعتراف من جهة أخرى. التضاد والخلاف يقوم على التعارض والتناقض، والنفي
والإقصاء. أما الاختلاف فيؤكد الاختلاف كإختلاف تفاضلي، دلالي في ذات الشيء،
فيقبل الذاتية والغيرية والوسطية أو البينية. والاختلاف حسنة بينما الخلاف
مثلبة. وإذا كان الاختلاف من طبيعة أنطولوجية (فلسفية محض) فإن الإعتراف من
طبيعة اخلاقية وثقافية ودينية، تقرن الديني بالدنيوي، والدهري بالقدسي.
كيف
تتجلى اشكالية الاختلاف والإعتراف في الفكر العربي المعاصر؟ وهل يمكن ان يتضافر
الاصلاح الديني مع النهضة الدنيوية للدخول في زمانية الحداثة في الفضاء العربي
الإسلامي، كما حدث في الغرب. فالثابت أن تضافر شرطي الإصلاح والنهضة هو الذي
مهّد للحداثة الغربية على كل أصعدة الوجود. وتأكيد توما الاكويني على الطابع "الطبيعي"
للدولة هو الذي مهّد للفصل بين الدين والدولة، بناء على نظرية " الحقيقة
المزدوجة" (حقيقة العقل وحقيقة الوحي). وقد نادت الرشدية اللاتينية بتمييز
العقل عن الايمان، باعتبارهما ميدانين لا يمكن لأي منهما أن يخضع للآخر، بفصل
الدولة عن الكنيسة، والدين عن الدولة. إن عملية التدهير التي ظهرت في العصر
الحديث قامت على مبدأ الاعتراف، والشهادة، في علاقة الانسان بالله، والإنسان
بالآخر، والانسان بالدولة، على أساس المبدأ العلماني، وهو بالتعريف الايجابي:
الضامن القانوني لحرية الوعي والعقيدة والفكر في مواجهة الاكراه الدولوي.
وهناك
فرق في الدينية الحديثة بين العلمانية (وتعني بالمعنى القاموسي الانطلاق - من -
الوجود في العالم ) وأساسها الفصل بين الدين والدولة دون التضحية بالبعد
الروحاني والقدسي ومناوئة الروحانية الدينية والفلسفية، وبين العلماوية laicisme الوضعية، الجذرية المناوئة للقيمة الدينية.
توطئة
بعد
موت ابن رشد، وانتقال الرشدية الى الغرب اللاتيني لم يبق في العالم الاسلامي من
أمارات الابداع الفكري ( في ظل الحنبلية والاشعرية، بصورها القديمة والمستحدثة)
إلا الفلسفة الإشراقية المتمثلة بفلسفة صدر الدين الشيرازي (توفي سنة 1050هـ
1645م) في ازدهار الفلسفة الظواهرية القائمة على فكرة الحركة الجوهرية، ونظرية
أصالة الوجود. والشيرازي في تبنيه وتطويره لنظرية أصالة الوجود، باعتبار الوجود
هو عين الوجود، والماهية هي ذهن الوجود، والعدم نقيض الوجود، قدم تلمسات خطيرة
للفلسفة الوجودية الحديثة، بترسانته المفهومية التي تقوم على اسبقية الوجود على
الماهية، والوجود المتقابل بالعدم، والوجود المتحقق المتعين في ههنا- الوجود
(الدازين عند هيدغر) إضافة إلى المنهج الظواهري الذي يطابق الحقيقة والوجود في
الحركة الجوهرية (الحركة الكلية Holo Mouvement في الفيزياء الكوانطية الحديثة).
بعدما
ما ينيف على ستة قرون من الانحطاط الفكري، والركود والتقليد والاتباع يدخل
العالم الاسلامي من جديد إلى العصر الحديث، في استجابة فكرية لمؤثرات التثاقف
الغربي -المحلي، عبر تيار اليقظة الذي يتبنى مبدأ الاصلاح، متأثراً بالنظرية
التطورية évolutionnisme التي دخلت في حينه إلى علوم الانسان والأديان على حد سواء.
مثّل
الإمام محمد عبده هذه النزعة التطورية التي عاصرها في القرن التاسع عشر،
وتبنى عملياً نوعاً من الإسلام التطوري، أي الإسلام القابل لمنطق التطور
وقانونه.
واستمر
خط الإصلاح الفكري والسياسي بعد محمد عبده في أجيال المفكرين المختلفين. فيظهر
لطفي السيد أحد رواد حلقته لينادي بأول خطاب ليبرالي حديث بالمعنى الغربي،
متأثراً بجون ستيوارت ميل ومذهبه في المنفعة Utilitarisme والحرية.
وأدت
دعوة عبدة إلى الفصل النسبي بين العبادات والمعاملات إلى ولادة أطروحة تدعو الى
الفصل المطلق بينهما، وإلى الغاء الخلافة (علي عبد الرازق- الإسلام وأصول الحكم
-1925). أما الجيل الثاني لمدرسة محمد عبده فيمثلها كوكبة من المفكرين: العقاد
في كتاباته التاريخية، وخالد محمد خالد في نزعته الإنسية التي يتساوى فيها الأنبياء
والحكماء.
أما
على صعيد الفكر الفلسفي، فتستمر أفكار محمد عبده من خلال مصطفى عبد الرازق بنزعة
فكرية محايرة (تقوم على الخلط بين الرشدية والأشعرية) رغم تميزها بنزعة تنويرية.
وينقسم تلامذته بدورهم بين اتجاه عقلاني يمثله محمود قاسم الذي يرى على هدي شيخه
في ابن رشد التمثيل الأرقى للفكر الإسلامي، واتجاه عقلي سلفي يمثله علي سامي
النشار الذي يرى في الأشعرية التمثيل الأقرب لطبيعة الفكر الإسلامي بوجه عام.
والنشار
يستحق وقفة خاصة لكونه من المفكرين السلفيين الذين تركوا أصداء لدى المفكرين
المعاصرين. في كتابه "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" يرى (مختلفاً عن
منهج أستاذه الذي يعتقد أنه كان لفلاسفة الإسلام ثمة أصالة فكرية تجعل لهم
طابعاً خاصاً يتميزون به عن فلاسفة اليونان) أن هؤلاء مثلوا دوائر منفصلة عن
تيار "الفكر الإسلامي الاصيل" وأن المجتمع الاسلامي قد لفظهم وأعلن
أنهم لا يمثلونه في شيء. ويرى النشار بالمقابل أن "الفلسفة الإسلامية
الحقيقية" إنما تتمثل في كتابات علماء أصول الدين وعلماء أصول الفقه... وفي
كتابه الثاني "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" يلتقي المفكر الإسلامي،
سلباً، مع الاستشراق التقليدي، إذ يردُّ قصور العقلية السامية (إسلامية كانت أم
يهودية) الى "استعداد فطري طبيعي لإنتاج أمر واحد في دائرة واحدة".
وهذا الشيء المنتج في رأيه هو التوحيد. ويرى أن العقلية السامية لم تستطع أن
تنتج على مدار التاريخ غير هذه الفكرة وحدها، وأن هذه الفكرة لم تنشأ لدى هذه
العقلية تبعاً لتفكير طويل واستدلال منظم وانتقال عقلي من حالة إلى حالة أخرى،
وإنما انبعثت فيها نتيجة لعوامل واستعدادات في صميم الجنس نفسه، والاستعداد
الجنسي المزعوم يعتبره النشار خاصة يدعوها "غريزة التوحيد"·
وتلك النظرية هي صدى مباشر لأفكار أرنست رينان في كتبه المختلفة (ابن رشد
والرشديه، الإسلام والعلم) والمستشرق لابيه Lapie
"الحضارات التونسية" الذين يذكرهم الكاتب ويستشهد بهم في كتابه
"نشأة الفكر الفلسفي".
هذه
النظرية تعتبر الإسلام وضعاً من أوضاع الحياة العملية فحسب، بينما الفلسفة بحث
مطلق في الوجود من حيث هو وجود.
الوجودية:
رغم
ذلك ستبرز إلى الوجود مع أحد آخر تلامذة عبد الرازق الأحياء (عبد الرحمن بدوي)
أول محاولة نظرية تعطي الأولية للوجود على الماهية في كتابه "الزمان
الوجودي". ووجودية عبد الرحمن بدوي تقتبس أصولها من جناحي الوجودية،
الروحاني ممثلاً بـ كيركيغارد وياسبرز، و"المادية" الممثلة بهيدغر
وسارتر مع ميل نسبي للآخرين. وتتحدد نظريته الفلسفية بأولوية الوجود على
الماهية، والذاتية على الكلية. والوجودية بنظر الفيلسوف المصري تقوم على نبذ
الكلية الهيغلية، التي تظل حتى باعتبارها كلية متقومة غير كافية، ولكونها لا
تمثل إلاّ الوجود العام الذي ليس وجوداً حقيقياً، وإنما وجوداً اسمياً، تصورياً.
أما الوجود الحقيقي فهو الوجود الجزئي، والفردي، إذ إن الوجودية هي الفردية،
والفردية هي الذاتية، والذاتية تعني الحرية، والحرية معناها وجود الإمكانية.
ويعتبر
بدوي أن كل وجود غير الوجود المتزمن بالزمان هو وجود باطل، وأن السرمدية المضادة
للزمانية هي وهم وإحالة إلى اللاشيء، والزمان هو العلة في تحقيق الإمكان، لكن
الإمكان لامتناه، واللامتناهي لا يمكن اجتيازه والكلية غير ممكنة، وهذا ما يجعل
النظرة العربية للدهر سلبية "وما يهلكنا إلاّ الدهر" تلك النظرة التي
يعترض عليها بدوي بالحديث المنسوب للنبي (ص) "لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو
الله". والمشكلة بنظر بدوي هي وجود أو لا وجود، فإن كان وجود فلا بد من
الزمان، أما بدون الزمان فثمة لا وجود، لأن الزمان هو المقوم الحقيقي للوجود،
كما هي الحال عند هيدغر في الوجود "الآني" Dasein.
وإذا
كانت نظرية اصالة الوجود العيني متمثلة في نظرية عبد الرحمن بدوي في الوجودية
الزمانية، فإننا نجد ان الوجود -في - العالم، عند بدوي وهيدغر وسارتر، لا يقوم
على الاعتراف وإنما على الاختلاف الراديكالي (الخلاف) إذا تتمفصل الآنية
عند هيدغر حول بنية مثلثة الأبعاد الانطراح في الوجود، الوجود، الكينونة
الاتباعية. والوجود الاتباعي عند هيدغر يعني تمفصل الآنية في وجودها وسط
الكائنات الأخرى، معها. وإذا كان الوجود- في - العالم، هو مكان تحقق الامكانيات،
وكل غائيات المعنى، فإن الآنية لا تصبح هي ذاتها إلا بعدم اختلاطها مع الكائنات
الأخرى. إذ ان الوجود - مع- الغير من شأنه - بنظر هيدغر- ان يزيف الوجود الحق.
والذاتية
الراديكالية عند هيدغر تقدم الأنوية على الغيرّية، والفردية على الجماعية، وهي،
إذن، ذاتية متمحورة على الذات، تجد امتدادها في فلسفة سارتر الوجودية- الذاتية
التي تتميز بحكم حريتها المطلقة بقدرتها على خلق ذاتها، باستمرار، والاستغناء عن
كل ما عداها.
ومن
جهته يعتبر فيلسوفنا المصري ان الوجود الذاتي هو وجود مستقل بنفسه، في
"عزلة تامة" من حيث الطبيعة، عن وجود الغير، ولا سبيل إلى التفاهم
الحق بين ذات وذات، إذ كل منهما عالم قائم بذاته، وحده، ولا تنتقل الذات من
العزلة المطلقة إلى الغيرية، لتحقيق الإمكان والفعل والإتصال بالغير، كأداة
لتحقيق الامكان (عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، دار الثقافة، بيروت 1973، ص
153 - 154).
و"ذاتية"
عبد الرحمن بدوي الوجودية ترجح الإثرة على الإيثار، باعتبار أن الذات في
سعيها إلى تحقيق إمكانياتها لا تتوقف عند حد، حتى تحقيق الامكانية المطلقة
(الموت).
الشخصانية:
وامتداداً
للتراجيدية الوجودية الكيركيغاردية التي تنظر إلى الوجود الفردي كذاتية،
وللإنسان كنوع وجودي شخصي، ظهرت فلسفة وجودية شخصانية تعتبر الإنسان- الشخص
ككائن- فاعل هو الشكل المطلق للكينونة، باعتبار الذات هي التوكيد- الذي لا يقبل
التخفيض- للحرية.
من
الرموز المعروفة لهذه الفلسفة في الفكر الغربي ماكس شيلر الذي يعتبر الشخص هو
الجوهر الفريد للكائن· وغبرييل مارسيل الذي يرفض الخطاطة الديكارتية للذاتية
التي تحكم على الفاعل بالتجزّر ( من جزيرة)، ويرى أن الذاتية هي ذاتية نسبية
بالقياس إلى ذاتية "الآخر". وكان شارل رينوفييه أول من استخدم مصطلح
"شخصانية". وهو يعتبر أن الشخص هو "نوع الأنواع". أما
إيمانوييل مونييه فيؤكد في فلسفته الشخصانية على وحدانية الفرد- الجماعة.
تركت
الفلسفة الشخصانية أصداءها لدى مفكرين عرب عدة الأول هو محمد عزيز الحبابي، وهو
صاحب دعوة إلى فلسفة شخصانية إسلامية. والثاني هو رينيه حبشي، وهو صاحب دعوة إلى
"شخصانية متوسطية". ولا ننسى كتابات وترجمات البرُفسور محمود جمّول
الشخصانية في لبنان أيضاً (راجع ترجمته لكتاب ايمانويل مونييه - الشخصانية - دار
عويدات).
الشخصانية
الإسلامية عند الفيلسوف المغربي الحبابي تعتبر الكائن- الإنسان، وحدة دينامية،
منفتحة على الصيرورة، ليس فقط باعتبار الكائن، القاعدة التي تقوم عليها الشخصية،
وليس أيضاً "جماعة أشخاص" كما هو الأمر عند مونييه، وإنما
التفتح الكامل للكائن المتشخصن في التحقق الإنساني.
والكائن
الإنساني بنظر الحبابي هو كائن متحيّن، محسوس، ذو أصل حي ما قبل وجودي منفتح على
تناهٍ ممكن في الكون Etre وما سيكون. في كتابه "من الكائن إلى الشخص" لا يعالج
الحبابي موضوعة الكائن باعتبار طبيعة الوجود أو اسبقيته، وإنما النشاطية
الوجودية للكائن، المتمفصلة حول الحياة بالعلاقة مع "النحن" في
العالم، تلك النشاطية النابعة من طاقة خلاقة تغذي الوجود بماهيات متجددة.
إلاّ
أن الفيلسوف المغربي رغم هذه الأطروحة التي توحي بفلسفة وجودية حرّة، ورغم تبنيه
لفلسفة الإرجاء التي تقدم الإيمان على العمل، باعتباره اعتقاداً باطنياً، وتجربة
حرة يعود في كتابه "الشخصانية الإسلامية" ليؤكد أن شخصانية بدون فرائض
دينية هي شخصانية بروميتيسية، ويرى أنه لا مجال في الإسلام للتمييز بين ما هو
ديني وما هو علماني باعتباره ديناً ثيومركزياً يوحد توحيداً تاماً بين الايمان
والعبادات والمعاملات.
الفلسفة الجوانية:
يعتبر
برغسون أن العقل لا يعطينا إلا نظرة منقطعة عن العالم، وأنه يقطع الواقع المتحرك
ويجمّده. والزمان الذي يقاس بالدقائق والثواني ليس إلا وصفاً مجرداً للتجربة
المباشرة، تجربة الديمومة. وأن لغة المعرفة ليست بالضرورة لغة الباطن والحياة،
وأن العلم يضع العلامات والفرضيات، وخارج الخطوط الذهنية التي ترسمها المعرفة
العقلية تكمن حقيقة لا يتوصل الإنسان إليها إلاّ بالحدس. وعلوم العالم الخارجي
وليدة الكم، إنما تحتاج إلى علاقات ثابتة، ويمكن قياسها، أي تحتاج إلى أرقام
وأشكال، وإلى مكان، اي الى مجال خاضع للقوانين الرياضية· أما الحياة الداخلية
فتجهل الكم والمكان، لأنها مجال الكيف، والزمان الداخلي الذي لا يمكن قياسه، ليس
الزمان الذي نتصوره بعادتنا العقلية، أي الزمان الموضوعي، زمان المزولة والساعة.
والحياة النفسية عند برغسون هي تيار من الظاهرات المتنوعة، والكيفيات المتصلة،
بخلاف الظاهرات المادية المنفصلة، المتمايزة، المتعاقبة، والمتقطِّعة.
إنها
كيف بحت مباين للكم، على حين أن المادة متجانسة في أجزائها الكمية. وبما أن كل
تعريف هو تحديد، فالديمومة لا تتعرف إيجاباً إلاّ بكونها صيرورة الأشياء. وهي
الزمان المعاش في الفعل، وفي التدفق الحيوي، في جوانية الظاهرة.
يميّز
برغسون بين "أنا" جوانية حقيقية وأنا سطحية· والفعل المتميّز للأنا
العميقة لا يمكن تفسيره بأية سببية باعتبار أن السببية عامل تبادلي، بينما في
الفعل الكلي تصبح الأنا الكلية أنا واحدة لا تفسر إلاّ بالعلية الدينامية، وهي
علّية بدون ضرورة، تقوم على التضامن والتعاطف في علاقة الأنا مع فعلها. وعلى
أساس هذا التمييز بين الأنا الجوّانية والأنا السطحية يفسر برغسون مشكلة الحرية.
إن إنيتنا العميقة تنساب في ديمومة خالصة لا شأن لها بالمكان. هي إنية حرة، ونحن
لذلك أحرار بمقدار ما نكون كذلك بذواتنا العميقة، وبمقدار ما يحمل الفعل طابع
شخصيتنا. والحرية هي تحقق الذات، وهي الفعل المطابق لهذه الذات. ولذلك فإن كل
تعريف للحرية يخالف الحقيقة.
برزت
النظرية الحيوية لـ برغسون في مجال فكري جديد في القرن العشرين. فقبل نظرية
النسبية كان الناس يرون على العموم أننا إذا أخذنا حادثتين أو ظاهرتين، كانت
إحداهما، دائماً وحُكماً، إما متقدمة وإما مصاحبةً، أو متأخرة على الأخرى في
الزمان، فجاء أينشتين فأكد عدم خضوع كل الظواهر لزمان موضوعي واحد، باعتبار أن
الظاهرة نسبية قد تبدو في حالة مصاحبة، وفي حال أخرى متعاقبة، بحسب شروط المكان
أو الوضع أو السرعة. وقبل ظهور الميكانيكا الموجية كان من المسلم به أن الظواهر
في الطبيعة متصلة، فأثبتت هذه النظرية أن الذرات تنبعث بنفخات كوانتية، أي
بحزمات من الطاقة غير متصلة. وأثبت العلم أيضاً أن الإلكترون هو عبارة عن موجة.
فيما أكدت الميكانيكا الموجية على مبدأ اللايقين، وأصبح من المعترف به استحالة
ضبط قياس الإلكترون بصورة تامة.
تلك
هي أصول "الفلسفة الجوّانية" العربية عند المفكر عثمان أمين التي برزت
في حقبة الستينات. يعرف أمين الجوّانية بأنها عقيدة مفتوحة تأبى الركون إلى مذهب
أو الوقوف عند واقع، وهي فلسفة تتجه إلى المعنى والقصد من وراء اللفظ والواقع،
وتتحول إلى الفهم والتعاطف لا الحفظ والتقرير، وتدعو إلى العمل البناء مؤسساً
على النظر الواعي، وهي تلتفت إلى الإنسان في جوهره وروحه لا مظهره وأعراضه.
والجوانية هي فلسفة تقدم الذات على الموضوع، والفكر على الوجود.. والإنسان على
الأشياء والرؤية على المعاينة، والتمييز بين الداخل والخارج، وبين الكيف والكم،
وبين بصر العقل وبصر العين.
والجوّانية
عند عثمان أمين تنطوي على ضرب من الميتافيزيقيا يسميها المفكر ميتافيزيقيا
الرؤية الواعية، وهي بنظره ليست الرؤيا الحسية الفيزيولوجية، وإنما رؤيا العين
الداخلية المرادفة لرؤيا البصيرة عند الغزالي، و"عين الروح" عند
أفلاطون و"رؤيا القلب" عند باسكال. والفكر الميتافيزيقي هو في صميمه
تأمل في العلاقات بين الروح والوجود. والنظر الميتافيزيقي بعكس النظر التحليلي
المنطقي أو التجريبي الحسي يقربنا من كينونة العالم، فلا يكون الوجود في هذه
الحالة مفروضاً علينا من الخارج، وإنما نحققه نحن بما نمنحه من تصديق وما نقدر
له من قيمة.
والجوانية
عند عثمان أمين تغلّب الماهية على الوجود، ولكن ليس الماهية
"الموضوعية" الأفلاطونية، وإنما الماهية المتقومة
"المباشرة" كما هي عند برغسون. وهو صاحب دعوة إلى إعادة النظر في
المفهوم التقليدي للحقيقة. فبدلاً من أن يكون "مطابقة ما بالأذهان لما
بالأعيان" كما هي الحال عند الحسيين والوضعيين، أو "مطابقة ما
بالأعيان لما بالأذهان" كما هي الحال عند النقديين والمثاليين، يصبح كل ما
يتجاوز العلاقة بين الفكر والوجود، أو ما بين الأذهان والأعيان.
تاريخية/تاريخانية
في
كتابه العرب والفكر التاريخي (1973) يقدم عبد الله العروي تساؤلاً نقدياً جديداً
يدشن فيه مرحلة جديدة في تاريخ النقد العربي. ففي معرض بحثه في أسباب وعوامل
التأخر التاريخي، يرد هذا التأخر لعدم وجود مرحلة ليبرالية في حياة العرب في
تاريخهم الحديث. ويرى المفكر المغربي في التراث الليبرالي، ذلك النظام الفكري المتكامل،
الذي تكوّن في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي حاربت به الطبقة
البورجوازية الأوروبية الفتية، الأفكار والانظمة الإقطاعية. وبرأيه فإن هذا
التراث لم يتجسد ابداً في بلد ومجتمع معين بكيفية تامة، وإن الروح الإنسية
والعقلانية التي تخلت أوروبا عن قيمها التحررية، تظل صالحة للتبني والتضمين.
ويرى
العروي في الماركسية "التاريخانية" نظرة قمينة بردم هوة التفاوت
التاريخي، بما هي وعي متزامن بين متفاوتات زمنية.
والتاريخانية
عند العروي، أي فرضية التاريخ كاتجاه واحد ومعنى كما يعرّفها هي طابع ما هو
تاريخي وغير وهمي fictif، أو هي الكائن المدروس في التناهي والزمانية- إذا جاز لنا
استعمال تعبير هيدغر المقارن-.
ما
يميز التاريخية Historisme عن التاريخوية Historicisme أن النزعة الاولى تعتبر أن الظاهرة (دين، أخلاق، حقوق) هي نتاج
وخلق جماعي لاواعٍ ولا إرادي، يصبح واعياً وناجزاً في لحظة التأمل الفكري، وهو
بالمحصلة ما لا يمكن تعديله قصدياً ولا فهمه واستيعائه إلاّ بالدراسة التاريخية.
أما
التاريخوية، بعكس التاريخية فلا تعترف للظاهرة إلاّ بالذاتية التاريخية المباشرة
والمحسوسة لفهم واستيعاء المعنى الداخلي لها.
لكن
المثقفين العرب والمسلمين، بارتكازهم على تطويرات العلوم الإنسانية الغربية،
تجاوزوا "تاريخانية" (كونت، فويرباخ، رينان) تُجُوِزَتْ في القرن
العشرين رغم شرعية الدعوة إلى إعادة الاعتبار إلى فلسفة الأنوار المقترنة بها.
علوم الإنسان المتطورة هذه (البنيوية، فينمنولوجيا الأديان، علم التاريخ
الحوْلي، الألسنيات، الاثنولوجيا) إضافة إلى النظريات الحديثة في العلوم
الطبيعية (النظرية الكوانتية والميكانيكا الموجية) قد أفسحت في المجال لنقد
النزعة التاريخوية ووضع حد لها.
يرى
مارشيا إلياد عالم الأديان المقارنة أن التسليم بتاريخية التجارب الدينية لا
يتضمن تخفيضها إلى أشكال من السلوكيات غير الدينية، فالتأكيد على أن المعطى
الديني هو دائماً معطى تاريخي لا يعني أنه قابل للرد إلى تاريخ اقتصادي أو
اجتماعي أو سياسي. وبالنسبة لكلود ليفي- ستروس فإن خاصية الفكر البرّي هي في
كونه ظاهرة لازمانية، تلتقط العالم كوحدة تزامنية- تطورية.
أما
النظرة الكوانتية ونظرية الميكانيكا الموجية فقد أكدتا على مبدأ اللايقين
والمعرفة الاحتمالية (كما ذكرنا سابقاً ) الأمر الذي يخفف من غلواء الأحكام
القاطعة في تفسير الطبيعة وما بعد الطبيعة.
في
تقليبه لمفهوم التاريخية يجد محمد أركون أن المدلول الأول لمفهوم تاريخية كان
يتعلق باستخدام له، استعملته الفلسفة الوجودية، يمتلكه الإنسان في إنتاج سلسلة
من الأحداث والمؤسسات الثقافية التي تشكل بمجموعها مصير البشرية.. من حيث كونه
مقولة وجودية· والاستخدام الحديث هو ذلك التعريف الذي دعاه آلان تورين بالطبيعة
الخاصة التي تتميز بها الأنظمة الاجتماعية التي تمتلك إمكانية الحركة والفعل على
نفسها بالذات، وذلك بوساطة مجموعة من التوجهات في قلب المجتمع كمبدأ منظم لحقل
العلاقات والممارسات· أما المعنى الثالث للتاريخية فيعني تلك الخاصية التي يتميز
بها كل ما هو تاريخي، أي ما ليس خيالياً او وهمياً، والذي هو مُتحقق منه بمساعدة
أدوات النقد التاريخي. وهذا المفهوم الأخير يتطابق مع مفهوم التاريخانية الذي
يرى المفكر الإسلامي أنها تعترف صراحة بفرضيات فلسفية أو إيديولوجية، وسواء قيل
إنها تاريخانية ميتافيزيقية، أو تاريخانية وضعية (علمية) فإن الهدف منها هو
التبرير لقيم دينية أخلاقية، أو سياسية، وحتى ثقافية، وتأصيلها، وذلك عن طريق
التلاعب بالتاريخ وتوجيهه باتجاه خطي.
يتطرق
أركون إلى موضوعة التاريخية في سياق منهجي كرس له العديد من الدراسات والكتب.
فالمفكر الإسلامي يتهم "عقل الأنوار" بأنه أحل العقل محل العقيدة بدون
إقامة شروط المعقولية على أسس سيميائية تتلاءم مع كل الثقافات. وعلى هذا الأساس
يدعو أركون إلى تطبيق مناهج علوم الإنسان الحديثة على التراث الإسلامي لإبانة
المعنى الدلالي أو ما يسميه اللامفكَّر فيه في النصوص الإسلامية.
وعند
أركون العالم الإسلامي يتمتع بميزة هامة هي غياب الكهنوت، تلك الميزة التي تسمح
بإقامة علاقة مباشرة بالله بدون وساطة. إلاّ أن الإسلام يواجه عقبة من طبيعة
دولتية منذ الدولة الأموية، هذا التدويل الإيديولوجي للدين الذي ما نزال نشاهد
مظاهره هنا أو هناك في العالم الإسلامي.
ويرى
أركون أن المقاربة الحديثة ينبغي أن تساعد في إدراج التقوى والإيمان في إطار
حداثة هي نفسها في صيرورة، وهنا ضرورة علم كلام إسلامي جديد ومتجدد. ومن أجل ذلك
يرى المفكر، ضرورة القطيعة مع العقل العلمانوي، والعلموي، والتاريخوي، من أجل
عقل جديد منفتح على المعالجة السيميائية للثقافات، وفي سبيل علمانية جديدة كموقف
دينامي للروح أمام المعرفة.
ويرى
أركون أن التكلم على التاريخية،مع ذلك، بشكل واعٍ ومعقول في مجال إسلامي ما، أمر
ضروري من وجهة نظر ذاتية (وجهة نظر الباحث) لكنه خطر من وجهة نظر موضوعية،
باعتبار أن النقد التاريخي المطبق على القرآن والحديث والفقه، والذي طبق سابقاً
على الشعر الجاهلي، وموضوعة الخلافة، كان قد أثار ولا يزال يثير حتى الآن، ردود
فعل عنيفة من قبل المجتمع الذي يشعر بأنه مهدد في حقائقه المطلقة وقيمه
المحورية. أما العلم الوضعي فقد أدى في الغرب دوراً نقيضاً مثبطاً، فما بالك في
المجتمعات الإسلامية التي تشعر بالحاجة إلى حشد جهودها وتكريس وحدتها القومية من
أجل تجاوز التوترات الداخلية.
فلسفة
الاختلاف:
قبل
نيتشه كانت الفلسفة مع الديالكتيك الهيغلي تتحدد بالتضاد والتعارض والتناقض، مع
نيتشه حل الاختلاف محل الإئتلاف، والتأويل محل التعارض، والغيرية مكان الهيهية،
والتخالف بدل التناقض، وإرادة القوة في مقابلة الإرادة· وفي ابطال النظرة
الثنائية، والبينية، والهيهية (التطابقية ) لا تعترف فلسفة الاختلاف بأية ماهية
جوهرية للشأن، وتنطوي الهوية على تعددية تفاضلية، تقوم على عينية متكثرة في ذات
الهوية؛ وذات الشيء. و"ذات الشيء" لا تعني الشيء - في - ذاته en soi، وإنما الشيء المتغير، المتكوثر، المتعدد، بمنأى عن كل نظرة
ثنائية أو تعارضية أو بينية.
في
هذا الإطار تندرج محاولة مطاع صفدي للتأسيس في المختلف في كتابه "نقد العقل
الغربي".
وسؤال
الفلسفة عند المفكر مطاع صفدي هو أيضاً سؤال الكينونة الوجودي المنفتح على
التيارات النقدية الغربية المعاصرة ( الجينيالوجيا النيتشوية، البنيوية، مدرسة
فرانكفورت إلخ ...). والوجود عند صفدي هو وجود الآنية (الدازين) أو الوجود
الزماني - في- العالم. والزمن الأساسي لهذا السؤال مستقبلي يتوجه إلى الممكن،
وليس ثمة ممكنات إلا في المستقبل (ديودورو، هيدغر). ولا ينقذ الفكر المنفتح على
سؤاله من الحلقة المفرغة، من هوة اللاشيئية إلا دخوله في صيرورة الزمان. وكما أن
الجبر مركب من الكوسمولوجيا والأنطولوجيا معاً، فإن أطروحة الدازين هي المركب
الكوسمولوجي- الأنطولوجي باعتبارها كينونة العالم.
أما
ماذا عن السؤال العربي للفلسفة؟ فالإجابة أنه إذا كان هيدغر قد سعى بكل جهده
أمام سطوة التقنية أن يجعل إنسان المشروع الغربي يذكر - أنه- ينسى - الكينونة،
فإن المسألة بالنسبة للمشروع الثقافي العربي أن أنسانه يعيش في - الزمان أو تحت-
الزمان، أو دون - الكينونة، بدون أن يكتشف لحظته الإنسانية الخاصة في الكينونة.
والسؤال
العربي للفلسفة برأي صفدي يفترض كينونة الفلسفة قبل أن يشرع في فعله ويكون هو
الفاعل actant· إذ هو سؤال لم يحقق لحظة إبستمية واحدة في تاريخه المعاصر.
ولذلك يريد هذا السؤال أن يتخطى حاجز الترائي في علاقة الذات بالآخر، القائمة
على إزدواجات التخلف/ التقدم، والأصالة/ المعاصرة· وهو لم يدخل عتبة
الحداثة بعد في زمان الحداثة- البَعدية.. وقد أدى وقوعه ضمن المزدوجات إلى تشكل
خطاب فكروي إيديولوجي مارس في خلالها فعل الترائي بين صورة الذات والآخر
(الترائي عملية فيزيائية ضوئية تقوم على الانعكاس المتبادل، مرآة ترى نفسها في
مرآة أخرى). هل يمكن للسؤال العربي أن يخترق حاجز الترائي؟ على هذا السؤال يجيب
صفدي بأن المثاقفة هي الحل للخروج من لعبة الترائي والمشاكلة، ولكن ذلك يشترط
عودة إلى الفلسفة، إلى اللامفكر فيه، إلى سؤال الاختلاف والكينونة، وبرأيه لا
يمكن لهذا السؤال أن يجد نقطة البدء إلا عندما يمتلك السؤال الفلسفي للفلسفة.
وعند ذلك تفارقه غربته، ولا تحاصره خصوصيته، بل يجد خصوصيته في شمولية تحوله
الفلسفي (مطاع صفدي، نقد العقل الغربي، مركز الانماء القومي، بيروت، 1990).
والخطاب
الفلسفي عند مطاع صفدي، لا نجده دائماً في هذا الوضوح والشفافية،إذ يغلب على
لغته الفلسفية نوع من التعقيد اللفظي الذي يشبه إلى حد كبير "لغة"
هيدغر العويصة. وإذا كان صفدي يبرّر طريقته في الكتابة بضرورات المفهمة
والتمعين، فإن التمعين يقوم قبل أي اعتبار على الحرص على الايصال والاعتناء
بدلالة المعنى، باعتبار أن سؤال الكينونة كما يقول هولدرلين، وعلم السيمياء
الحديث، هو سؤال لُغوي، وهذا يستدعي أن تكون لغة الكينونة في شفافية الكينونة.
كيف
أجاب المفكرون العرب على سؤال الفكر؟ هل قام الاختلاف على الاعتراف، أم وقع
الاختلاف عينه في حمى النقض والتقويض والخلاف فأدى إلى أشكال محدثة من اشكال
الأصولية والتكرار والإئتلاف والتطابق.
رأى
البعض (د. حسن حنفي) في العودة إلى "التراث" احياء للأصول، ووجد
الاصول التكوينية للهوية، ولا طروحات الزمن المعاصر والحديث في مقالات ومقولات
علم الكلام الأصولي، كما هو بذاته ولذاته، وهذه الأصول أساسها الحقيقة
"التي جمعها ابن رشد وحياً [فيما] جمعها أرسطو عقلاً"! أي هي
حقيقة أسسها المفكر المعاصر على المؤتلف لا على المختلف والجديد: في مقابلة
أرسطو نضع ابن رشد والأشعري والماتريدي.. وبدل المنطق "علم
الأصول"، ومحل الإستشراق "الاستغراب"، وبدل المركزية - الغربية
نقوم بإسماء الذات وإعلائها إلى سدة المركزية - الشرقية فلا نحصل والحال هذه إلا
على أصولية مستحدثة سرعان ما تدعو الأصولية إلى رفض طلاسمها، هذا ناهيك عن أهل
الحداثة؟
وينبري
مفكر آخر (محمد عابد الجابري ) كنقيضة للمفكر الأول باسم النقد والعقل
والبرهان الرشدي، ولكن الكتابة التي تضع نفسها في خانة الدراسات
الأُعلومية ( الإبستمولوجية) سرعان ما تذكرنا بنظرات عقلية- إثنية متخثرة، كتلك
التي سادت في مؤلفات غوبينو صاحب "سقوط الغرب" وأرنست رينان صاحب
"الإسلام والعلم" و "إبن رشد والرشدية"، وصولاً إلى مؤلفات
فوكوياما صاحب "نهاية التاريخ" وهنتنغتون صاحب "صدام
الحضارات". وهكذا فيما تضع كتابة مفكرنا العقل مقصداً من مقاصدها الأولى،
تنزلق إلى مطب النظرة اللوغوقراطية، واللوغوقراطية- المركزية (المركزية- العقلية
المتطابقة مع صورة العقل: العقلاطية). وهذه النزعة، كما بيّنا في مطارح أخرى
تحيل المفارقة إلى مطابقة، والمختلف إلى مؤتلف، والفكر إلى دوغماطية عقلية
تصنيفية "متعالية"، ترى الحقيقة لا كما رأتها النهضة الغربية في
"كتاب الطبيعة" وإنما في "كتب القدماء" وهكذا، ويا
للمفارقة، ففيما يعود الغرب إلى الرشدية والأرسطية لتجاوزهما معاً في عصر
النهضة، يظل مفكرنا المعاصر في نهايات القرن العشرين قابعاً عند أعتاب
"البرهان" الأرسطي والرشدي؟
ويأتيك
مفكر ثالث فذ ليطابق العلم بالإيديولوجيا باسم المادية الجدلية والتاريخية،
باعتبار الماركسية "تحليلاً ملموساً للواقع الملموس" ومن هنا الإدعاء
بالعلمية والمطابقة، بنوع من الهيغلية المقلوبة لعلاقة الفكر بالواقع، الوعي
بالمادة، الذات بالموضوع، والعقل بالوجود.
"وحدة " المصير ودراميته:
ويختزل
مفكرنا الشهيد (حسين مروة) كل ما هو وجودي وعقلي وسببي ودهري وتطوري وبرهاني في
التراث في إطار "المادية". كما يختزل كل ما هو ثيولوجي وميثولوجي،
وقدسي، وسامي، وعرفاني وكشفي، وعجيب، وتأملي في إطار "المثالية"،
علماً بأن هذه الأبعاد تبادلية في الأثر التراثي، والنصوص، في الكيفية الظواهرية
للأشياء والموضوعات.
والنزعة
المادية يجدها مفكرنا عند ابن رشد والفارابي واخوان الصفا وأبي بكر الرازي
والمعتزلة في نزعات هي بالأحرى عقلية وطبيعية وقدرية ومنطقية صورية لا يمكن
فصلها عن سياقاتها المعرفانية لا بمعناها المادي فحسب، بل بمعناها المادي
والعقلي والروحي والميتافيزيقي على حد سواء. والفصل بين ما هو مادي وروحي في
فلسفة العقل والنقل عند الكندي، والقدرية والعدل عند المعتزلة، والمشائية
والإشراقية عند ابن سينا، والفيض والتجلي عند الفارابي، والقدم والحدوث عند ابن
رشد والرازي، هي كفصل اللحمة عن السدى؟!
ولا
يلاحظ مفكرنا الكبير التطورات المابعد- نيوتونية في الفيزياء الحديثة التي تضع
مفهوم "المادة" الكلاسيكي في موضوع النقد والمراجعة. ولا يلتفت إلى أن
الفيزياء الحديثة قد أحلّت مفهوماً أكثر دينامية محل مفهوم "المادية" الكمي
الستاتيكي هو مفهوم المادة- الطاقة، الكيفي ذو الطراز المَوْجي والجدلي
اللامعياري واللاقياسي، الأمر الذي يضع الاحتمال والصدفة والديمومة في قلب
المادة، بمنأى عن أية مطابقة حتمية وضرورية وحدّية. ومقابل المادة الفجة تظهر
لنا النظريات الحديثة مادة رهيفة ذات خصائص فيزيائية وبيولوجية، لا بل اجتماعية
واقتصادية تكاملية وتبادلية في سويات العوالق المتبادلة الفروع والمتبادلة-
الاعتماد، على أصعدة الفكر والطبيعة والمجتمع، ولكن في وحدة وجدل الحركة الكلية
للوجود الظواهري.
ودرامية
المصير، تجعل من شهيد الفكر الألوهي، محمد باقر الصدر، يُدرك ما لم يدركه
شهيد الفكر المادي حسين مروة، ولو ابتعدنا عن منطق التناقض والتعارض، وأدرجنا
الفكر المادي بالفكر الالهي، في جدلية الاختلاف والاعتراف، لوجدنا أن المفكر
الأصولي يكمل المفكر المادي، بمنأى عن التفنيد والتكفير. في كتابه "فلسفتنا"
يستعرض محمد باقر الصدر نظرية المعرفة، في نقده للإتجاهات الوضعية
العقلية، والتجريبية، والماركسية، مستنداً إلى نظرية أصالة الوجود،
والإمكان الوجودي، للفيلسوف صدر الدين الشيرازي. ومفاد هذه النظرية عند الصدر ان
الحقيقة هي حقيقة تعلقية - أو علائقية بلغة الفلسفة الحديثة-. وبناء على هذا
فليس الوجود الخارجي محكوماً بمبدأ العلّية، بل إنما يحكم مبدأ العلّية على
الوجودات التعلقية، والعلاقة بين العلة والمعلول ليست ميكانيكية، ولا ديالكتيكية
تقوم على (الأطروحة والطباق والتركيب) بل علّية متعاصرة. وهي علية تقوم على الحركة،
والحدوث المستمر، الذي يقوم على مبدأ الحركة الجوهرية(محمد باقر الصدر، فلسفتنا،
دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1401، هـ 1989).
ويرى
السيد باقر الصدر أن مبدأ العلية نفسه محتاج إلى مرجح وعلة، في سلسلة الوجود، أو
في تسلسل العلل والأسباب، وبطلان التسلسل يقتضي وجود عله فاعلية، وصانع
"خارج" عن حدود المادة ومغاير لها.
ويستشهد
الفيلسوف الاسلامي بنظرية الكوانطا، التي تفيد بإمكانية تبديل المادية إلى طاقة،
باعتبار ان كتلة الجسم نسبية، وليست ثابتة، وبذا تتحول المادة إلى طاقة والطاقة
إلى مادة· وبغض النظر عن دوافعه العقائدية، فالاستنتاجات الفلسفية التي يتوصل
اليها الفيلسوف الإسلامي صحيحة وأكيدة، إذ يرى ان الكتلة ليست إلا طاقة مركزة،
وان المادة هي موجة كهربية. ويستنتج بأن المادة الأصلية للعالم، حقيقة واحدة
عامة في جميع مظاهره وكائناته، ويتوصل الى نتيجة تقول بأن الجزء الذي لا يتجزأ
(الذرة اللامتناهية في الصغر بلغة الفيزياء الحديثة) ليست مسألة علمية، وانما
مسألة فلسفية. ويريد ان يقول بذلك أن ثمة بُعد ميتافيزيائي في الفيزياء
الطبيعية.
والنظرية
الكوانطية تؤكد على الطابع الكهرو-مغناطيسي للذرة اللامتناهية في الصغر، باعتبار
ان الإلكترون هو عبارة عن موجة، وأن المادة ذات طاقة تموّجية، غير قابلة للقياس،
وهذا الأمر يؤكد على الطابع الإحتمالي في نظرية المعرفة، وعلى عدم كفاية
النظريات العلّية والحتمية في المجال الميكروفيزيائي.
كما
تؤكد البيولوجيا الكونية بأن الكون عبارة عن وحدة عضوية تشمل الكائنات، في وحدة
الطبيعة والكينونة، ووحدة الحياة في الحركة الكلية Holo Mouvement، وهي حركة خلق وابداع غير خطية ولا حتمية إلا إذا قسناها
بمقاييس العقل الخارجية، وإلا فالكائنات في وحدة وجود يتضمن فيه الكل في الكل،
أو كما كان يقول جابر بن حيان "في الاشياء كلها وجود للاشياء كلها".
والفرق،
إذن، بين النزعة المادية، والنزعة الالهية، ليس في بطلان نزعة وطغيان نزعة أخرى،
وإنما في مقام الحكم ومقاله. ففي مجال المادة الماكروفيزيائية يطغى الحكم العلّي
والسببي والعقلي والمنطقي، وفي مجال المادة الميكروفيزيائية، اللامتناهية في
الصغر، يطغى الحكم الفلسفي التأملي، الميتافيزيقي، على الحُكم الفيزيقي. هل
تستدعي جدلية الطبيعة أن يكفّر الالهي المادي، أو أن يفند المادي الالهي؟ أم أن
إدراك مقام الحكم ومقاله يجعل من اعتراف الواحد بالأخر، وجهان للتعدد والاختلاف
في المعرفة. وإذا قيل "إن الاختلاف رحمة" فإن الاعتراف أيضاً حسنة
وفضيلة وليس مثلبة ونقيصة.
ما بعد النهضة:
تكشف
مرحلة ما بعد النهضة غياب عقل كلي يحتكم إليه العرب كمرجعية نقدية، ولا يؤشر نقد
النهضة إلى نهضة نقدية جذرية، فما زال طرح الإشكاليات من طبيعة ثنائية يقوم على
سيادة حكم القيمة مقابل حكم الواقع، وسيطرة النظرة الإيديولوجية على النظرة
التحليلية- التركيبية· والحكم النقدي (Jugement) هو من طبيعة ثنوية واختصارية أيضاً: ثابت/ متحول، حدسي/عقلي،
اعتقادي/تقريري، أسود/ أبيض· يرى أدونيس في نقده لعصر النهضة أن ليس هناك بين
النهضة العربية والنهضة الغربية أساس مشترك؛ فالنهضة الغربية - برأيه- لم تنطلق
من أصل قديم مسيحي- غربي وإنما انطلقت من أصل مغاير، يوناني- وثني، بينما النهضة
العربية هي نهضة تلفيقية "أحيت" أجوبة قديمة على مشكلات حديثة.
مع أن الكاتب يرى أن الحضارة الغربية تعني التغير - أي النقد والبحث وإعادة
النظر الدائمة في الأفكار السابقة، والخلاف بين المحافظة والتجديد- فإنه في
نظرته الفكروية يريد أن يكون هناك معيار واحد للنهضة هو المعيار الغربي، كما أنه
لا يفهم من الخلاف بين المحافظة والتجديد إلا شكل القطيعة دون الاستمرارية، مع
أن الخلاف في العقل الغربي هو أقرب إلى الاختلاف وليس الخلاف. وأزمة الفكر
الغربي الأنوارية تعود إلى ذلك النمط من القطيعة الكلية التي ولدت نوعاً من
التعارض الوجداني في الحداثة الغربية على كل أصعدة الوجود. وقد لاحظ الأب بولس
نويا (الأستاذ المشرف على أطروحة أدونيس "الثابت والمتحول") هذه
المفارقة في تقديمه لكتابه المذكور إن هناك فارقاً في الإتباع الأدبي والإتباع
الديني، إذ أن ماضي الدين ليس ماضياً دينياً إلا بقدر ما يكون حاضراً في الحاضر،
أما في الأدب فالاستعادة تعني جعل الماضي حاضراً في الحاضر، والأديب في هذه
الحالة يرجع الحاضر إلى الماضي. ولا يخلقُ جديداً (علي أحمد سعيد (أدونيس)،
الثابت والمتحول، ج 1، دار العودة، بيروت 1974، ص 12). حتى في الأدب، فإن جدلية
الإبداع والإتباع (Classicisme) ليست جدلية الشكل، وانما جدلية المعنى والمبنى والاشكالية.
وقدمت
كتابات العروي (العرب والفكر التاريخي -1973) و(الإيديولوجية العربية المعاصرة-
1972) تلمسات هامة لبداية وعي مطابق في المجال النقدي. لقد فسر العروي التأخر
العربي بغياب مرحلة أنوارية (ليبرالية) في الفكر العربي، ورأى أن ردم هوة التأخر
يمكن أن يقوم على تبني وتضمين القيم الأنوارية الغربية، وقد حققت هذه الدعوة
زحزحة هامة في الفكر المعاصر. وسنجد في كتابات ياسين الحافظ "الهزيمة
والإيديولوجية المهزومة- 1978" بخاصة استمرار لدعوة العروي لثورة ثقافية
بنيانية تتبنى قيم عصر الأنوار وتعميم الديمقراطية. ومع أن الحافظ يتبنى الدعوة
التاريخانية أيضاً، إلا أن كتاباته تقدم نظرة مطابقة لأزمة النهضة العربية
الحديثة، وبرأيه أن الدولة الغربية البرجوازية قد انبثقت مع /بموازاة حركة عقلنة
السياسة متواكبة مع عقلنة بنى المجتمع، أما الدولة والسياسة العربية فقد قامت
على البنى المتخلفة، وكانت الدولة بذلك في شتى أشكالها البرلمانية، العسكرية،
الأوتوقراطية دولة فوق المجتمع. لقد قامت النهضة لكنها لم تحرز التقدم المنشود
على صعيد تحديث البنى العربية، ولم يترافق لاحقاً استبدال مفهوم النهضة بمفهوم
التنمية (التصنيع، الإصلاح الزراعي) مع ثورة ديمقراطية تكفل وضع المجتمع العربي
في العصر الحديث. يتساءل الحافظ قائلاً: "ألم يكن لتحرير المرأة وعلمنة
السياسة والتعليم أن تضع المجتمع العربي، بفاعلية أكبر بكثير جداً من الاشتراكية
التي صنعنا، في طريق التحديث!" (ياسين الحافظ، الآثار الكاملة (الهزيمة
والإيديولوجية المهزومة)، دار الطليعة، بيروت 1979، ص 234). ومع أن الكاتب ينطلق
في حينه (توفي الحافظ في نهاية السبعينات) من نظرة اشتراكية، فإنه يعتبر أن
الاشتراكية نفسها هي شكل من أشكال الديمقراطية والدمقرطة.
ومع
أن برهان غليون يتبنّى بعض أطروحات العروي في "بيان من أجل
الديمقراطية"، ويرى أن الفشل الأساسي في عصر النهضة هو الفشل في الوصول إلى
الديمقراطية الشعبية التي تربط المعرفة بالممارسة والإنتاج. وأن الشرط الأول
لوجود ديمقراطية هو وجود الأفراد الاحرار وتعميم التعليم، جنباً إلى جنب مع
إشاعة الحرية والفكر النقدي. إلا أن الكاتب يتحول في كتاباته اللاحقة باتجاه نوع
من الكتابة ثنائية الطابع: عرب/غرب، سلفية/حداثة، في خطاب دائري تكراري تصالحي
مليء بأحكام القيمة التحصيلية.
ويأتي
هشام شرابي من مناخات الوضعية الأنكلوسكسونية ليقدم ملامسات لإشكالية النهضة في
ثنائية تميّز المدرسة الوضعية التي تقيم قطيعة مع الفكر الغيبي بكل أشكاله،
الإبداعية وغير الإبداعية! يرى شرابي أن عملية "التحديث" الكولونيالي
التي يتصف بها المجتمع التقليدي الخاضع للاستعمار هي شكل هجين من أشكال التحديث،
أنتج نظاماً بطريركياً ذا شكل حديث. وفي مقابلة هذا النظام الأبوي بنظام الحداثة
يضع شرابي "العقل" في مقابل "الايمان"،
و"المعرفة" في مقابل "الفكر" و"الشرق" في مقابل
"الغرب" في مقاربة ثنائية وضعية متقابلة ومتضادة لا طائل منها.
خاتمة
إن
منطلق الاختلاف هو الذي يجعل من كاتب كمحمد باقر الصدر، يُحسب على الاصولية يدرك
التطورات التقدمية ما بعد- النيوتونية، الكوانطية، والاحتمالية والنسبية
والدينامية للمادة، فيما يكون كاتب مادي، آخر (حسين مروة ) يحسب على التقدمية
أصولياً في ماديته، لا يطلع على آخر منجزات العلم في مجال الفيزياء والطاقة.
كما
يجعل منطلق الإختلاف نفسه، فقيهاً عالماً كالسيد محمد حسن الامين لا يرى في
العلمنة الحقيقية ما يتنافى مع التعدد الديني والثقافي(انظر السيد محمد حسن
الأمين، العلمنة والدين والدولة، صحيفة السفير، عدد 11/12/98) فيما لا يقابل هذا
الموقف بموقف الاعتراف من دعاة " نقد الفكر الديني" (صادق جلال
العظم)- اللهم إذا قاموا بمراجعة مواقفهم، المناوءة للقيمة الدينية والقدسية
والمتعالية للوجود.
ومنطق
الاختلاف والمغايرة هو الذي يجعل الشيخ محمد خاتمي يسعى إلى ربط الدين بالحرية،
فيما يتنازل الفيلسوف حسن حنفي عن الفلسفة، لصالح علم الأصول، في تمييزه بين
"أمة الوحي" الاسلامية و"أمة العقل" اليونانية. كما يعتبر
محمد عابد الجابري "التقدمي" العلمانية "بدعة مشرقية "
بالنظر إلى عدم وجود اشكالية مغربية في هذا الصدد· كما يعتبر
"الفيلسوف" محمد عزيز الحبابي بأن الاسلام دين ثيو-مركزي، كلي، لا
تنفصل فيه العبادات عن المعاملات. والحال هذه فإن منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف
صنوان للنهضة والاصلاح للدخول في زمانية الحداثة والمعاصرة.. في عصر العولمة
اللامتكافئة التي تهدد هويات الثقافات الأخرى من دون إعتراف بآخرية وغيرية
الآخر، سواء كان هذا الآخر جماعة، أو أمة، أو حضارة بكاملها.
|
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
للتواصل معنا
kassebi.chedli@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق