المعهد النموذجي بالقيروان
              الثقافة بين الخصوصية والكونية
 الأستاذ الشاذلي الكسابي
     تقديم:

    تشكل الثقافة أحد المكونات الأساس للبناء الاجتماعي لأنها هي التي تصيغ المحتوى الفكري والحضاري والفني لمجتمع ما إذ إن الموجودات البشرية تتمايز في ثقافاتها الذاتية بتمايز منابع الثقافة والوعي الجمعي.
من هنا فإن للثقافة التأثير المباشر على النسق الاجتماعي والنفسي، وجميع الأطر والأوعية التي يبدعها المجتمع لتسيير شؤونه أو تطوير وضعه المادي والمعنوي.. لأن الثقافة كائن حي يتطور باستمرار ويتكيف بشكل ايجابي مع التطورات والمتغيرات الجديدة وعلى هذا الأساس تعد الثقافة أسلوباً من أساليب التهذيب الاجتماعي ونمطاً من أنماط صياغة المجتمع مع ما يتناسب والقيم والمبادئ التي تنادي بها تلك الثقافة، وهذا ما ينسجم ومعنى الثقافة في اللغة العربية، إذ إن الأصل اللغوي «ثقف» يحمل معنى التهذيب والصقل والإعداد، وهنا تكون الثقافة عملية رعاية وإعداد مستمر للعقل والروح البشرية، وهذا ما أطلق عليه في القرن السادس عشر في أوروبا بتدريب العقل، ووصفه فولتير بتكوين الروح، وتأسيساً على هذا فإن الثقافة تضم العناصر الأساس الثلاثة:
-1 - العنصر الإدراكي: ويضم مجموعة القيم والأفكار والمبادئ التي تساعدنا في الإدراك الموضوعي للعالم المحيط بنا وما يتضمن من مكونات.
-2 - العنصر العفوي: وهو الذي يضم مجموعة القيم والأفكار التي تساعدنا في التفضيل بين الأشياء.
-3 - العنصر الوجداني: وهو الذي يساعدنا في تشكيل الاتجاهات السلبية أو الإيجابية نحو العالم المحيط بنا أو مكوناته.
لهذا فإن الثقافة في المحصلة النهائية تشكل نظرية متكاملة في المعرفة والسلوك لأنها هي التي تقوم بإحياء الهوية الجماعية وتعبئتها وإعادة تنشيط عناصرها ورموزها وتوحيدها، وتحديث مقومات الشخصية الوطنية وفق منظومات ونظم تنسجم وحاضر المجتمع وراهنه. لهذا فإن الثقافة هي التي تعبر عن المجتمع وتطلعاته، قوانينه، نماذجه، مسلماته وبديهياته.
لذلك فإن لكل ثقافة هوية متميزة عن الثقافات الأخرى. و السؤال المطروح هو كيف ننظر إلى التنوع بين الثقافات؟ تعددت النظريات والآراء في الإجابة عن هذا السؤال ولكن يمكننا تحديد الإجابة في النظريات الثلاث:
 /1 - المركزية الثقافية: بما أن الثقافة جزءٌ من النتاج الأيديولوجي لأي مجتمع فقد تجسدت نزعة الاستعلاء والمركزية الشديدة في الثقافة الغربية، إذ تنظر الثقافة الغربية إلى التنوع الثقافي نظرة احتقار وتسعى نحو تذويب الثقافات الأخرى وإحلال الثقافة الغربية محلها. وقد قسمت العالم إلى قسمين: أثينا - مركز الإشعاع الحضاري - وبربر، أطراف، مستودع لتلقي ذلك الإشعاع. وهذه النفسية الإغريقية الاستعلائية انتقلت بحذافيرها إلى التفكير الغربي المعاصر، لتكرار ظاهرة التقسيم الثنائي، وتأخذ أشكالاً أخرى وتوظف التطور العلمي الهائل في الغرب المعاصر لتأخذ عملية التقسيم صبغة جديدة هي امتداد وانعكاس لما ورثه الفكر الغربي من نزعات نفسية عنصرية للجنس الآري الذي امتزج بالفكر بشكل دقيق.
وانطلاقاً من هذه المركزية الفلسفية والثقافية الغربية صيغت نظريات التبرير للحركة الاستعمارية لتغطي استمراره فظهر ما يسمى بالنظرية البيولوجية السياسية التي تقول إن للدول الكبرى حقاً في التهام الدول الصغرى وأن الشعوب الصغيرة يجب أن تموت وتفنى أمام الدول الكبيرة. ويقول (ارنست رينان) إن الأوروبي خُلق للقيادة كما خُلق الصيني للعمل في ورشة العبيد. وصحبت هذه النظرية نظرية الملك المباح التي تعني إباحة استعمار الأقاليم التي تسكنها شعوب متخلفة عن ركب الحضارة ومتخلفة لأنها خارج القارة الأوروبية! إذا هناك تمييز بين الإنسان المتوحش والإنسان المتحضر التمييز بين ثقافة المركز وثقافة المحيط والهامش فالثقافة الأوربية هي ثقافة المركز والثقافات الغير أوروبية ثقافات بدائية وبربرية. وقد كتب بعض المستشرقين كتباً يوضحون فيها هذه النظريات الاستعلائية التي تنم عن مركزية شديدة تقصي أي تنوع ثقافي من أجل هيمنة ثقافية غربية واحدة في العالم. فكتب كوفييه (مملكة الحيوان) وغوبينو (مقالة في التفاوت بين العروق الإنسانية)، وربوت نوكس (عروق الإنسان السوداء) وغوستاف لوبون (القوانين النفسية لتطور الشعوب) وتهدف هذه الكتب وغيرها إلى القول إن الشرق ينتمي بيولوجياً إلى عرق محكوم وينبغي له أن يُحكم وهذا قدره ومصيره. ويرى زعيم المدرسة الوضعية الحديثة (أوغيست كونت: 1798 - 1857م) إن التفكير الإنساني في مرحلته الأولى اللاهوتية يعتمد الأساطير والأديان، ثم جاء اليونان فولد العقل المجرد ثم تطور إلى التجربة مع عصر النهضة الأوروبية ليبلغ المرحلة الوضعية في هذا العصر وهي المرحلة النهائية. وخلاصة الأمر أن هذه النظرية قائمة على نزعة النفي والإقصاء لكل الثقافات. ذلك فإن نظرتها إلى التنوع الثقافي نظرة احتقار وسعي متواصل لإنهائه من أجل غلبة الثقافة المركزية الغربية التي تطمح أن تكون كونية.
هكذا أفضت الأنثروبولوجيا التطورية إلى تهميش الآخر من خلال طمس هويته الثقافية، لذلك اعتبرها لفي شتراوس مجرد وهم. قد تكون حضارة ما في عصر من العصور مركز الحضارات وأرقاها وأفضلها لما تميزت به من عوامل النهضة وعناصر الارتقاء ولكنها لا تكون كذلك دائماً في كل العصور.
 /2 - نظرية النسبية الثقافية: وهي تقوم على المسلمات التالية: لكل شعب ثقافة مميزة عن غيره وتعبر عن روحه وتلخص تجاربه ومنجزاته التاريخية. لكل ثقافة خصوصيات وإسهامات في الثقافة العالمية كما قال (كلود ليفي شتراوس)، والإنسان المتوحش أو البربري لايوجد فالبربري الحقيقي هو المؤمن بفكرة المركزية الثقافية. يقول كلود ليفي شتراوس:«إن البربري قبل كل شيء من آمن بوجود البربرية.»لقد اعتبر لفي شتراوس أن التنوع الثقافي هو حقيقة أنثروبولوجية لايجب إغفالها وذلك على اعتبار أن لكل مجتمع ثقافته ولا يمكن السقوط في لعبة التوحيد الثقافي لأن الوحدة الثقافية مجرد وهم،وعليه لايمكن المفاضلة بين الثقافات.
الثقافة بين العولمة والعالمية:
                  * ليست هناك ثقافة عالمية واحدة ، بل ثقافات…
إننا نقصد بـ "الثقافة" هنا: ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية، تشكل أمة أو ما في معناها، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل دينامكيتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. وبعبارة أخرى إن الثقافة هي "المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل".
تلزم عن هذا التعريف، لزوما ضروريا، النتيجة التالية، تشكل قلب هذه الأطروحة وجوهرها، وهي أنه: ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام ، وإنما وجدت، وتوجد وستوجد، ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا آخر.
* ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضا، وبالدرجة الأولى، إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم.
العولمة التي يجري الحديث عنها الآن: نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. العولمة الآن نظام عالمي، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال الخ... كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجي.
والعولمة تعني في معناها اللغوي: تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله. وهي تعني الآن، في المجال السياسي منظورا إليه من زاوية الجغرافيا ( الجيوبولتيك)، العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلدا بعينه، هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، على بلدان العالم أجمع. ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور "التلقائي" للنظام الرأسمالي، بل إنها أيضا، وبالدرجة الأولى دعوة إلى تبني نموذج معين. وبعبارة أخرى، فالعولمة ، إلى جانب أنها تعكس مظهرا أساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضا إيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة، عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته.
وهكذا فبدلا من الحدود الثقافية، الوطنية والقومية، تطرح إيديولوجيا العولمة "حدودا" أخرى، غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك.
* العولمة شيء و"العالمية" شيء آخر. العالمية تفتح على العالم، على الثقافات الأخرى، واحتفاظ بالاختلاف الثقافي وبالخلاف الإيديولوجي. أما العولمة فهي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي.
العولمة GLOBALISATION إرادة للهيمنة وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي. أما العالمية UNIVERSALITE  UNIVERSALISME.   فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي. العولمة احتواء للعالم، والعالمية تفتح على ما هو عالمي وكوني.
نشدان العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنها طريق الأنا للتعامل مع "الآخر" بوصفه "أنا ثانية"، طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة. أما العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق "الآخر" وسلبه خصوصيته، وبالتالي نفيه من "العالم". العالمية إغماء للهوية الثقافية أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم