اختراع الهوية وفبركة التاريخ
التجمعات الإثنية والعرقية والمخيلة الجماعية
علي بدر
ليس هنالك من مفهوم تاريخي أو ثقافي أكثر مأساوية من مفهوم الهوية على الاطلاق، إنه أكثر المفاهيم الخيالية التي انطوت على عنف وحقد مخمر، بل هو المفهوم الأكثر دموية في التاريخ، وهو ميدان المصائر المتقاتلة، وميدان النزاع والعنف، ومجال الصراع والإبادة والتطهير العرقي، فهل أدرك الذين حلموا به بشكل طاغ، والذين قاتلوا أو قتلوا من أجله، أنه مفهوم سردي، ومخترع، ومفارق، وسيروري، ومؤجل، وتأريخي، وخيالي، ومراوغ، وخادع أيضا؟
في الواقع هنالك طقم من الأفكار والستراتيجيات المركبة والمستحدثة التي توظف لإتمام عملية تشكل الهويات وسردها، وهنالك آليات منتظمة (واعية أو لا واعية) تقوم بها كل أمة، وكل طائفة، وكل مجموعة دينية أو عرقية أو قومية، لاختراع هويتـ «ها» والتي تختلف عن هويات الآخرين، بل وتقع في الموقع المضاد من هوياتهم، سواء أكانت هذه الهوية «وطنية»، أو «إثنية أم «طائفية»، فلا يتم مفهوم الهوية أو على الأقل لا يتم الوعي به إلا من خلال نقضه للحدود الفاصلة للتكوينات والتجمعات الأخرى والتي تطلق عليها بنيدكت أندرسون التجمعات الخيالية ويتحدد نسق الصراع أو ميدانه على الأقل بالخصائص التاريخية والسياسية التي تحكم العالم في تلك الحقبة، فقد كانت المعتقدات الدينية هي ميدان الصراع في عصر الاحتواء الإمبراطوري وهو العصر السابق لعصر الحداثة الغربية نتيجة لخفض الإيمان بالنسبوية الدينية، فبرز مفهوم الهوية محددا بالخصائص والشروط الدينية، وكان لظهور الحداثة الغربية الأثر الحاسم في استبدال نموذج الهوية الدينية والطائفية بنموذج الهوية القومية والوطنية، فقد تحدد مفهوم الهوية القومية في الغرب على الأساس اللساني واللغوي، غير أن عصر الاستعمار أذكى هذه الهوية ذاتها عند الشعوب المستعمرة التي كانت تقاوم على الدوام أي توحدي أو إدماج لساني أو ثقافي أو قومي.
إن عملية الإدماج والتوحيد هنا هما ناتجان حتميان من شروط الهوية ووجودها، ويتم عبر نوعين من ممارسات السلطة، الأول لساني أو لغوي، والآخر سياسوثقافي يتم عبر ما يطلق عليه بالشروط الرمزية والشعائرية لتشكل الأمة رموز تاريخية، شعائر طقسية لعيد الاستقلال، وقوانين عامةو.. الخ، إن المشكلة التي أوجدتها الكولنيالية في العالم هي بناء الأمةـ الدولة، أي بناء دول الاستقلال على شاكلتها، فمفهوم الهوية القومية من الناحيتين السياسية والثقافية هو مفهوم غربي، وهو مفهوم مستحدث، ابتدعته فلسفة «عصر الأنوار الغربي»، و«الحداثة الغربية»، وبرز بشكل براطيقي للانفكاك من الهوية المسيحية دينيا، وللانفكاك من الآداب اللاتينية لغويا، وقد طرحت الثقافة الغربية بعمق الثقافة السياسية اللائكية عن طريق بعث الآداب الشعبية المكتوبة باللغة المحكية للإنفكاك من اللاتينيةـ الانجيلية وبلاغتها المقدسة، فسادت حداثة الغرب من الناحيتين الثقافية والسياسية طبقا لمفهوم الهوية القومية، ويعد الإدماج والتوحيد في نظام اجتماعي وسياسي وثقافي واحدا من أهم مكوناتها، بل هو الشرط الأساسي لوجودها، ويرى ماكلوهان أن هذا التوحيد، أي التوحيد القومي في الإطار السياسي كان ناتجا عن عصر الطباعة، أو عصر الكتابة، ذلك أن القراءة السطرية وحدت الأمة في مقروء واحد، وفي الوقت الذي حاولت فيه الكولنيالية الغربية اجتثاث الثقافات الأخرى قامت بتصدير مفهوم الهوية القومية والوطنية إلى هذه الثقافات التي لم تكن تعرف غير الانتماء إلى هوية طائفية أو عرقية أو دينية، ومنها المنطقة العربية التي كانت تعيش عصر الاحتواء الإمبراطوري العثماني، وكان الانتماء فيها يتحدد بالهويات الطائفية والدينية والمناطقية والجهوية والإقليمية.
ومن وجهة نظري أن الطور الأخير من الدولة العثمانية كان حاسما في القضاء على الامبراطورية التي نشأت على مفهوم الهوية الدينية، ذلك لأن الوعي الديني والطائفي لدى الانتلجنسيا العثمانية التي تأثرت بالغرب وبالثقافة الغربية (الطورانية والعربية بشكل خاص)، وكان الطور الأخير من الدولة العثمانية ـ نسبة لي هو عصر التصادم القومي ـ فقد برزت الطورانية لدى النخب المثقفة التركية والتي وقعت على خط مناقض للدولة العثمانية الدينية من جهة، وللإثنيات التي شكلت هذه الامبراطورية من جهة أخرى، فقد شهد الإسلام الغزوي نهايته نتيجة لاصطدامه مع الوعي القومي الناشئ في أوربا، كما أن البيروقراطية السياسية الدينية للدولة العثمانية شهدت سلسلة من الصراعات الإثنية المتواصلة داخليا، وآخرها بروز الوعي القومي العربي الذي أنهى دولة الخلافة كليا، فقد أرادت النخبة الثقافية التركية المتأثرة بأفكار أوغست كومت انتهاج فلسفة سياسية وضعية وعلموية ولائكية، وقد شعرت بعجزها عن تحقيق هذا المفهوم إلا بتجاوز التاريخ العربي الإسلامي الذي شكل المحتوى الهوياتي للإمبراطورية، فبدأت ببعث التاريخ الطوراني السابق للعصر الإسلامي وانتهاج سياسة التوحيد اللغوي التركي وفرضه على الإثنيات الأخرى، فتورطت الإمبراطورية في سلسلة من الانقلابات العسكرية المتوافقة مع خط النخب المثقفة اللاكئية لإنهاء شرعية الدولة ذات المحتوى البيروقراطي الديني، في هذا المناخ نشأت الهويات التي شكلت الامتداد الديموغرافي والإثنوغرافي للإمبراطورية الإسلامية: الهوية القومية العربية، الهوية القومية الأرمنية، الهوية القومية الآشورية، الهوية القومية الكردية، الهويات الأخرى.
لقد نشأ الوعي الهوياتي العربي على خلفية الصراع الهوياتي مع الطورانية التركية أولاً، وبالتوافق مع الفكر القومي الليبرالي اللائكي الذي نشأ في الغرب، وعمدت النخبة المثقفة العربية على بعث الفصحى بالضد من اللهجات المحكية، والذي نجح نجاحا باهرا في إضغاف نمو اللهجات المحكية وتأخرها، كما أنه طرح مفهوم اللائكية السياسية للإنفكاك من الإنتماء الهوياتي القديم، وهو الانتماء الديني، والطائفي، غير أن هذا المفهوم الجديد والمستحدث أبرز إلى الوعي القومي ثلاثة أنواع من الصراع.
ـ الصراع على الصعيد الداخلي بين الهويات الفرعية: العرقية، الفلكلورية، أو الطائفية، أو الدينية من جهة، والهوية الوطنية العلمانية المستحدثة من جهة أخرى، فقد قاومت الهويات الفرعية عرقيا مثل الهوية البربرية، الكردية، الآشورية، العربية، الأرمنية.. والهويات الفرعية طائفيا: الهوية السنية، الشيعية، المارونية، الدرزية الخ مفهوم الهوية الوطنية، اللبنانية، العراقية، المغربية.. إلخ.
الصراع بين الهوية السياسية القطرية والتي فبركت تاريخها هي الأخرى على أساس التاريخ ما قبل الإسلامي الذي وقع على جغرافيتها مع الهوية الثقافية العربية التي يشكل التاريخ الإسلامي إطارها.
ـ الصراع بين الهوية القومية وعمليات الإدماج الثقافي الغربي التي يمارسها الغرب طبقا إلى تطور مفهوم الرأسمالية العالمية، فقد طرح الغرب فكرة الإنسان المتحضر، والتي اقترنت بشكل كامل بعصر الأنوار الغربي والمهمة العالمية الملقاة على الغرب لإنجازها لدى الأغيار، وهم المختلفون عن الغربيين ثقافيا واجتماعيا ودينيا،غير أن هذا الوعي هو الذي أبرز إلى ميدان الصراع تشكل الهوية الثقافية لدى الأمم الأخرى، فمن جهة هناك الهوية الغربية التي تشعر بتكاملها وفرادتها وتميزها والتي تبغي بناء الأمة ـ الدولة على غرار تشكلها، وهناك مفهوم «الأمة ـ الدولة» أو الدولة القومية الذي نشأت على غرار الدولة القومية الغربية والتي تعزز الوعي بالخصوصية الثقافية، والوعي بالاختلاف الثقافي والهوياتي لدى هذه المجتمعات التي واجهت الهوية الغربية بهويتها القومية والوطنية، غير أن هذا المفهوم الذي كان يعمل بفاعلية في الخارج، ظل عاجزا في الداخل عن تفتيت الهويات الفرعية والطائفية والإثنية، فلم يستطع مفهوم الأمة ـ الدولة أن يفتت صلابة الهويات العرقية والإثنية والطائفية التي أصبحت عائقا أمام نمو وتطور هذه المجتمعات، والتي كان يمكنها أن تتطور طبقا إلى سياسة الانتماء إلى الطبقة الاجتماعية والاقتصادية بدلا من سياسة الانتماء إلى الطائفة أو العرق، وهو مفهوم مختلف يعرقل الحركة الاقتصادية ويهددها.
تشكل مفهوم الهوية وصياغته يرتبط مفهوم الهوية دائماً بواقعة سردية، فهو حكاية تلفق أو تفبرك أو تسرد، وتقوم في الغالب على مفهومين متعارضين، الأول إدماجي يتحقق بين مجاميع بشرية أو ثقافية، ترتبط بمصالح سوسيولوجية أو سياسية، والآخر اختلافي يقع بالتقابل مع وحدات ثقافية واجتماعية ولسانية أو طائفية أخرى، فهو في حقيقة أمره نوع من الدفاع عن خصوصية مبتكرة، ودفاع عن اختلاف ثقافي يقوم على تمييز الجماعة أية جماعية يوحدها، ويسهم اسهاما فعالا في عزلها عن الآخرين، ولكي تتم فعالية هذا المفهوم يتم ربطها بواقعة متخيلة، أو مخترعة، أو ملفقة، فقد لفقت الثقافة الغربية تاريخ اليونان من فكرة قومية أوربية وذلك عن طريق عزلها عن جذورها الأفروآسيوية الحقيقية، كما يقول مارتن برونال، وقد لفقت القومية اليهودية هويتها من اختراع اسرائيل التاريخية وتم إسكات التاريخ الفلسطيني وفق تعبير كيث وإيتلام، إن عملية اختراع الهوية لا تتم إلا عبر تغييب أولي لكل أصل، أو لكل حقيقة، حيث تقصى كل إطروحة أو حكاية تعرض مفهوم الهوية الاتساقي إلى النقض إو على التقويض، ومن ثم يتم فبركتها وصنعها طبقا إلى نموذج مخترع يحمل بعض الحقيقة ولكنه يصاغ طبقا إلى النموذج الاتساقي للهوية، وهو نموذج متخيل في لحظة وعي تاريخية معينة.
في الواقع إن كل جماعة في التاريخ، تعي في لحظة تاريخية ما خصوصيتها واختلافها، تحاول طبقا إلى هذا الاختلاف صياغة إطار ثقافي محمل بإشارات مادية معينة كي تتموضع فيه، ومن ثم تبدأ على نحو براطيقي باختراع هويتها، واختلافها، ولا يتحقق هذا الاختلاف إلا عبر إقصاء كل خصوصية وكل اختلاف آخر، وستجد نفسها وهي في ذروة الوعي، أقصد ذروة وعيها باختلافها، تقوم على تغييب اختلافات الآخرين وخصوصياتهم، فهي تمارس عملها على وفق لا وعيها الاجتماعي وتستبني اختلافها على أساس تصادفي، أو اتفاقي، أو اعتباطي، أو عرضي، وبالتالي تخترع جغرافيتها الثقافية ومجالها وميدانها الذي تجعله ميدانا خاصا بها يتعارض مع مجال الآخرين وميدانهم،فهي تستبني في لحظة تاريخية معينة، في لحظة وعيها باختلافها الـ(نا) وتصبح طائفتـ«نا»، وثقافتـ«نا»، ورقصـ«نا»، وآدابـ«نا»، ونساؤ«نا»، والتي تقع على النقيض من مجال الآخرين وثقافتـهم، ورقصـهم، وآدابـهم، ونسائـهم في الواقع ينقلب الأغيار فجأة إلى مجال جغروثقافي وسياسي وسوسيولوجي وديموغرافي غير مجالنا، وفي لحظة هي مطلقة الاعتباطية، في لحظة تاريخية موضعة يتحول الآخرون إلى آخرين، أغراب، أجناب، ومنبوذين أيضاً. إن هذه الحدود الصلبة التي نفبركها ونسردها ونخترعها ليست بالضرورة لها وجود محدد على الأرض، أو وجود مالي، أو وجود متعرف به من الآخرين، بل يكفي أن نخلق هذه الحدود الصلبة في ضمائرنا وثقافتنا وآدابنا وأنفسنا، وخيالنا إن جاز التعبير ونبدأ بالإيمان بها، فهي حدود لا تستقر على الإطلاق، إنما تتغير وتتحول خارج التاريخ وخارج الثقافة ايضا، بل هي تتحول وتتبدل دائما، لأنها مؤجلة من خلال خطابات التاريخ ومن خلال خطابات الثقافة أيضا، فهي في طور التكون وليست جوهرا ثابتا، أو مفهوماً مفارقا أو متعاليا، إنها متموضعة « كما أطلق عليها ستيوارت هول بحق، وهي حركة من حركات التموضع وسياسته، فما أن تجد لها موضعا في حركة تاريخية معينة، حتى تغيره في لحظة تاريخية أخرى وتخترع الهوية ارتباطاتها:من رابطة الدم، التي تقوم على أساس متخيل. ومن رابطة الجماعة، التي تقوم على أساس سردي، ومن رابطة الاتساق الهوياتي التي تقوم على أساس وهمي.
طبعا لو قرأنا الأدبيات القومية للعرب والأكراد والأرمن والآشوريين نجدها تتفق في شيء واحد هو النفي المطلق لكل الزحزات الثقافية والديموغرافية والسوسيولوجية الكبرى التي تحدث في التاريخ، فكل هذه المجاميع التخييلية تبدأ بسرد مفبرك ومخترع لرابطة الدم والسلالة والنسب التي تشكلها، بل هي تخفي الهويات المتحولة نتيجة لسقوط الأنساب، أو الهجرات الضخمة التي تحدث في التاريخ لتركيز على مفاهيم من مثل «النقاء العرقي» و«التوحيد اللغوي» و«المجاميع النقية»، وتنفي ظلال التاريخ التي تحدث تحتها دائما اختلاط الأعراق وتداخل الهويات، وتحولات الجماعة من طائفة إلى طائفة أخرى... أنها بعبارة أخرى جماعات تخييلية « كما أطلقت عليها بينيدكت أندرسون، إنها أطر متوهمة ومصنوعة ومفبركة في لحظة تاريخية معينة، كما أنها تخضع للتحولات والتغيرات التاريخية بشكل مستمر فهي وفي واقع الأمر مفتريات روائية  وهي سرد  كما وصفها هومي بابا، فكل أمة وهي تفقد جذورها في الزمان فإنها تعمد على استعادة أفقها المفقود ولا يمكن لها استعادته إلا من خلال السرد والخيال، فتنتج ميكانيزماتها التأويلية هوية تنشد نحو ماض غائب ومفقود غير أنه مسرود ومصدق من قبل الجماعة، وعلينا أن ندرك بصورة ثابتة أن هذا السرد مموضع بصورة اعتباطية من خلال عملية تأويلية وعملية قراءة وإساءة قراءة لسرديات الآخرين وقصصهم، وهي محاولة لاستعادة أفق الماضي والتاريخ من خلال الخيال،وهي قصة ذاكرة تستعاد من خلال نسيان فعال من خلال عمليات مرممة بوساطة القصص والحكايات والأساطير والفانتازيا، وهي قادمة من ماض متخيل، أو متوهم على نحو مرمم، أو من مكان لايمكن تأكيده على الإطلاق كما يعتقد بول ريكور، وهي مصنوعة من عمليات متداخلة بشكل عصي على التفكك، ولكن لا يمكن التأكد من حقيقتها تماما، ذلك لأنها من التأريخ، ورؤية بول ريكور الجذرية للتاريخ مهمة هنا، لا لأن التاريخ عملية قديمة ومن الماضي إنما هو نسبة لبول ريكور شيء لا وجود له على الإطلاق، شيء لم يعد موجودا على الأقل، فكيف يتم استعادته؟
الهوية وخطاب التاريخ التاريخ خطاب لا يمكن التعامل معه على أنه موجود وموصف ومعين على نحو كامل، إنه خطاب سردي تم تشييده باختراع الماضي، إنه من المخيلة كما يقول كولنجوود، والسارد هنا هو المؤرخ الذي يحكي الماضي عبر حبكات مرممة بوثائق، فهو تأويل للوثيقة والتصرف بها وليس واقعا مطلقا، ومن هنا تتم عملية إنتاج الهوية وصناعتها، من هذا المكان المتوهم تتحرك الهوية نحونا عبر الماضي المؤول من قبل السارد، وعبر الوثيقة التي يتم التصرف بها طبقا إلى المساحة التي تتيحها العملية السردية ذاتها.
إن مفهوم الهوية موصول نحونا عبر عمليات سردية متعددة، وهو خطاب يطرح مفهوما احتوائيا وتضمينيا لجماعة ما يدعي تشابهها واتساقها، ويطرح في الوقت ذاته مفاهيم متعددة لغيريتها واختلافها، حيث يتفوق التشابه على الغيرية الفردية وتتفوق الغيرية الجماعية على كل تشابه واتساق بين الجماعات، ومن هنا تتخذ هذه الدراسة الغامضة طابعا اقصائيا لمفهوم الوحدة الوطنية والقومية الذي تشكلت عليه مناطق الاحتواء الإمبراطوري القديم بعد أن حولتها الكولنيالية إلى مفهوم الأمة ـ الدولة، إن لخطاب الهوية شعاراً غامضاً: هو العثور على هذه الهوة التي تفصلها عن كل كيان وطني، ويضع موضع تساؤل كل انزياح أصغر في الاختلاف إلى إنزياح أكبر، ومن غيرية أصغر إلى غيرية أكبر، وتتحدد فيما بعد في خطاب يتمفصل من خلال انزياح هذه الهوية بوصفها نقطة مرجع، وتقترب من الغيرية كلما تبتعد عن التشابه العام مع الجماعات، وتتخذ آلية نظرية تغذيها خطابات متعددة كي تقابل بين غيريتها وتشابهها، ومن هنا تتجاوز ما يمكن أن نطلق عليه الغيرية الفردية، أو الهوية الفردية، فهذه الأخيرة لا يمكنها أن تتوجد إلا في جزء من الغيرية، وإن كل جزء من الغيرية هو أيضا تأكيد على الهوية الفردية، ففي كل براديم للهوية الفردية التي تضع مفهومي التشابه والغيرية في علاقة تكامل ـ رغم هذه العلامة التكاملية التي تربطها والتي تجعل الهوية الفردية متضامنة مع المفهومين وليس على أحدهما ـ فإن مفهوم حامل الهوية الفردية هو الغيرية وليس التشابهية، وذلك لأننا عندما نقابل جزءا من الغيرية مع التشابهية فإننا نطرح خطاب هوية منفردة نتجت من شد بين التشابهية وعلامات الغيرية، فإذا ما أزلنا كل علامة للغيرية فإن التشابهية لوحدها هي حالة مستقرة موحدة وعالمية للدرجة الصفر من هوية جماعية، وهذا من وجهة نظري الأساس المشترك لهوية كونية.
إن نقل الخطاب الهوياتي إلى المستوى الكوني ليس أمر يوتوبيا، بل إن الهوية الفردية ذاتها تحمل هذا المفهوم الكوني وتتضمنه، وقد تؤشر التشابهية العالمية غياب الخطاب الهوياتي وذلك عن طريق تأكيد التشابهية الإنسانية والفكرية والثقافة العالمية، وسيكفي جزء من الغيرية التي تميز الآخر عني أن تجعل من الآخر معترفا به على أساس العناصر التي تفرده، فمن حيث المبدأ أن كل تأكيد للغيرية سيصبح، من ثم، تأكيداً على هويتين: هويتي وهوية الآخر، وسيكون على الأقل تأكيدا على اختلاف واحد هو الاختلاف الذي يقر بعلاقة الغيرية بين أناي. وأنا آخر، وهو الاختلاف الذي يقود بالنتيجة إلى خطاب التعددية.


المصدر: مجلة مسارات، العدد الأول، السنة الثالثة.

ليست هناك تعليقات:

للتواصل معنا

kassebi.chedli@gmail.com

التوقيت بالعالم