إشكالية البرنامج
المساءلة الفلسفية بين
نسبية الاختلافات ومطلب الكلي
« Le
questionnement est bien le principe de la pensée même , le principe
philosophique par excellence. »
" إن المساءلة هي حقا
مبدأ الفكر ذاته، إنها المبدأ الفلسفي بامتياز."
Michel Meyer, De la problématologie
- لقد كان
عنوان برنامج الفلسفة في السنة الثالثة " مطلب التفكير: من اليومي إلى
الفلسفي"، وهو عنوان تمت مقاربته من خلال فصول ثلاثة:
* أولها: فصل"
اليومي" الذي هدف إلى الكشف عن آليات عمل اليومي التي تفرض على الوعي و الفعل
الإنسانيين إيقاعا تكراريا رتيبا يجعلهما موسمين بالسلبية. فبالرغم من مظاهر
التغير و الاختلاف وادعاء الفاعلية ، فإن الأفراد ينخرطون سلبيا في أنماط متكررة
تجعل آراءهم و اختياراتهم نتاجا لتأثيرات
خارجية مصدرها السائد الاجتماعي و سلطة
الأكثرية و وسائل الاتصال الجماهيري . و في ذلك ما يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب أي إلى
تشويه مميزات الفرد الإنسانية و جعله غريبا عن ذاته و عن واقعه , فهو كائن الفكر
والحرية و لكنه يتبنى آراء بلا تفكير و يحدد مواقف دون اختيار حر . و هو يحيا في
عالم يفهمه بشكل زائف فلا يتوصل إلى إدراك نظامه و آليات عمله. إن معانية هذا الوضع
لا يمكن أن تتم من دون تساؤل : كيف يمكن للأفراد التحرر من الاغتراب في سياق
اليومي ؟
* إن هذا السؤال هو الذي أجاب عليه الفصل
الثاني" مقتضيات التفكير"، حيث حاول أن يبين أن الفرد لا يمكنه أن يتحرر
من اغترابه في اليومي إلا إذا غير علاقته به من خلال ممارسة التفكير الذي يقتضي
مساءلة إشكالية ترفض الإقرار بالبديهي ليستنطق ما هو ضمني لا مفكر فيه داخل كل
موقف فتحوله إلى مشكل يحرج الفكر ويدعوه إلى البحث والتجاوز. إن تحقق هذا المقتضى
لا يمكنه إلا أن يحرر الفرد من علاقته العفوية المختلطة باللغة ليعرف الألفاظ بكل
دقة ويحولها إلى مفاهيم تمكن من تمثل الواقع بأكثر دقة ويحصنه من أشكال المغالطة
التي يحملها الخطاب فلا يدافع عن أطروحة ولا يدحض أخرى إلا بالاستناد إلى حجج
وجيهة يبنيها العقل وحده.
* أما الفصل الثالث فيتعلق " بتجربة الالتزام
" التي يقدمها كامتداد طبيعي لفعل التفكير باعتباره لا يمكن أن يتحقق في إطار
العزلة ولا أن يكون لامباليا. فالالتزام هو الوجه الآخر للتفكير من حيث أنه لايكون
إلا في إطار الحوار مع الآخرين والقبول بالنقد كقاعدة للتعامل مع كل المشاركين
فيه، رهانه من ذلك إرساء تواصل حقيقي يبرر الرجاء في حياة إنسانية بلا عنف.
فالتفكير إذن مسؤولية بإقناع الذات والآخر بأن الإنسان قادر على تغيير واقعه نحو
الأفضل وشجاعة في تحملها.
- ويتضح
من خلال الفصول الثلاثة أن برنامج الفلسفة في السنة الثالثة قد راهن على إمكانية
قيام تواصل حقيقي بين البشر يمكنهم من إزالة أشكال النزاع للتفكير معا في كنف
الحوار وللحياة معا في عالم بلا عنف مم يهيئهم للتحرر من الاغتراب.
- إذا كان جوهر التفلسف هو المساءلة، فإنه
لايمكن الانخراط في هذا الرهان دون مساءلته إشكاليا للكشف عن مفترضاته الضمنية
وامتحان مدى وجاهتها:
- ‘ن المفترض الأول الذي تكشف عنه مساءلة الرهان
المعلن هو أنثر بولوجي ( والمفترض هو الموقف الذي يسلم به ضمنيا قول معلن
ما (أطروحة، سؤال) فيجعل طرحه ممكنا. ويكون المفترض انثربولوجيا عندما يتعلق بتصور
عن الإنسان: انتربوس في اليونانية) ذلك أن الإقرار بإمكانية تواصل حقيقي بين الناس
من خلال التفكير يهيئهم للإتفاق ووضع حد لعنف الخطاب والممارسة يفترض ضمنيا وجود
خصائص مشتركة بين البشر تعبر عن وحدة كلية تجمع بيتهم رغم اختلافهم ( العقل،
الإحساس، الاجتماعية، الرمز، الإنتاج...) غير
أن هذا المفترض لا يخلو من إحراجات إذ: بأي معنى يمكن الإقرار بوحدة إنسانية كلية
في ضوء ما يتميز به البشر من كثرة تعبر عن تنوعهم الفردي والثقافي؟ ألا يتضمن
الإقرار بوحدة إنسانية كلية خطرا مزدوجا يهدد بتحويل تلك الوحدة تارة إلى ماهية
مجردة تهمش الكثرة الفعلية بين البشر وطورا إلى مركزية اثنيه تفرض نموذجا حضاريا
ما وترى في كل خصوصية مغايرة ضربا من البربرية؟ عندئذ هل يكون الحل بتثمين
الاختلاف بين الأفراد والمجتمعات بما تتضمنه من ثراء والدفاع عن الخصوصية ضد كل
وحدة مزعومة؟
[إن هذه الأسئلة تطرح إشكالية
: الإنساني بين الوحدة و الكثرة التي ستكون محورا للتفكير في الباب الأول من
برنامج الرابعة ]
إما المفترض الثاني الذي تكشف عنه مساءلة
رهان برنامج الثالثة فهو معرفي ، ذلك أن التفكير سيكون بلامعنا إذا لم ينفتح على
إمكانية الاتفاق وهو ما لا يتحقق من دون الإقرار بإمكانية إلى حقائق تتميز بالكلية
باعتبارها قضايا تمكن من معرفة موضعية بالواقع و تحظى العلوم أضحت اليوم متهمة
بكونها قد بعثرت الواقع وجزأته فلم تقدم
سوى حقائق جزئية و مؤقتة ؟ و أن الفلسفة
أضحت متهمة بكونها مساءلة عقيمة لا تنتج أية معرفة ؟ عندئذ هل ينبغي الاستسلام
لريبة تجعل التفكير بلا أفق وإمكانية الاتفاق مستحيلة.؟ أم لابد من خيار ابسمولوجي
جديد يهيئ العلوم للانفتاح على الواقع في تعقيده ومن الاعتراف بإسهام المساءلة
الفلسفية في بلورة مطلب الحقيقة الكلية ؟
[إن هذه الأسئلة تطرح إشكالية : العلم بين
الوحدة والكثرة التي ستكون محورا للتفكير في الباب الثاني من برنامج
الرابعة ]
أما المفترض الثالث الذي تكشف عنه
مساءلة رهان برنامج الثالثة فقيمي ذلك أن
الانفتاح على إمكانية الاتفاق باعتباره البديل النوعي للعنف ليس معرفيا فحسب بل
ينبغي أن يكون كذلك عمليا قيميا يتصل بأحكام القيمة في مجال الممارسة الأخلاقية و السياسة والفنية ، وهو ما يفترض وجود قيم
كلية تضع معايير موحدة بين الناس في تحديد الخير و الحق والجمال . و لكن مساءلة
هذا المفترض سرعان ما تكتشف عن إجراءات عديدة . أليس من تناقص في الحديث عن قيم
كلية في ظل ما تتضمنه المجتمعات من قيم نسبية مختلفة لا تفتأ تتغير عبر التاريخ؟
عندئذ هل يكون من المشروع القول أن القيم لا تكون إلا نسبية وجزئية تعبر عن
مواضعات المجتمعات واختيارات الأفراد ؟ ولكن ألا يفضي ذلك إلى نسبوية قيمية نتفي
إمكانية التمييز بين الحق والعنف و الحسن والسيئ و الجمال و القبح فتجعل الفعل
الإنساني بلا إحداثية توجهه وتهدد بانفجار العنف وتبريره؟
[إن
هذه الأسئلة تطرح إشكالية: القيم بين النسبي و المطلق التي ستكون محورا للتفكير في
الباب الثالث من برنامج الرابعة ]
رهانات الأسئلة المطروحة
- إن مساءلة هذه المفترضات التي قام عليها
رهان مطلب التفكير في برنامج الثالثة عن صلته الوثيقة بمطلب الكلي على مستويات
ثلاثة : وحدة الإنسانية على المستوى الانثربولوجي ، و كلية الحقيقة على المستوى
المعرفي ، و كلية القيم على المستوى العلمي . وفي ذلك ما يعبر عن رهانات أساسية :
فانثربولوجيا ، إن فهم البشر للاختلافات
القائمة بينهم كتعابير متنوعة عن هوية إنسانية كونية توحد بينهم وتتيح لهم إمكانية
التواصل و التعايش السلمي و الاحترام المتبادل بحيث يضعف ذلك الايدولوجيا القومية
و العنصرية و الجنسية و الطائفية و الاستعمارية التي تتخذ من الكثرة مبررا للتفاوت
و الإقصاء .
ومعرفيا ، إن العمل على التوصل إلى حقائق
كلية تعبر عن تظافر كل المعقوليات في معرفة الواقع داخل تعقيده من أجل التقدم
بالإنسان هو ما يمكنه أن يحرر البشر من معارف مجزأة أشكال لا تقدم سوى حقائق جزئية
غايتها النجاعة دون اعتبار الإنسان .
و قيميا ، إن العمل على بلورة أشكال من
الاتفاق حول قيم أخلاقية وسياسية كلية تتيح إمكانية توجيه الحيات المدنية و
السياسية و العلاقة بين الأشخاص طبقا لمبادئ و قوانين تحمي احترام كرامة الإنسان
وحقوقه وهو ما يمكن أن يحرر البشر من
نسبوية يصبح في نطاقها كل شيء مبررا و جائزا كمقدمة تهتم اندلاع العنف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق